-A +A
عبدالعزيز بن عثمان بن صقر
خبر سار وتطور إيجابي أن تنجح آلية السياسة العراقية بعد تردد وصراع في ملء فراغ المناصب السياسية القيادية الثلاث الكبرى في العراق، بدءًا بمنصب رئيس البرلمان، ومرورًا بمنصب رئيس الجمهورية، وأخيرًا منصب رئيس الوزراء والذي يعد أهمها وأكثرها حساسية. والمهم في الأمر هو أن التجربة الأخيرة، كسابقاتها، في اختيار القيادات السياسية العليا كرست وعززت ظاهرة المحاصصة الطائفية والعرقية في توزيع مناصب الدولة، وتبنت بشكل فعلي ورسمي التجربة اللبنانية التي سبقتها، والتي كانت تعد دوما تجربة خاطئة، في تعزيز مبدأ المحاصصة الطائفية والدينية على حساب الهوية والانتماء الوطني، وإضعاف اللحمة الوطنية وزعزعة هيبة وسلطة الدولة.

ورغم عدم حال الرضا العربي، وبينه الموقف السعودي، لاستنساخ العراق للتجربة اللبنانية، فإن المملكة قادرة على التعايش مع اختيار الشعب العراقي، واحترام هذا الاختيار لكونه من الشؤون الداخلية للعراق، والمملكة تحترم، بشكل صارم، مبدأ عدم التدخل في شؤون الآخرين واحترام سيادة واستقلال الدول الأخرى.


المطلوب تحقيقه من مثلث القيادة العراقية العليا الجديد اليوم يمكن اختزاله في كلمة واحدة لها تشعبات متعددة وهي كلمة «الاستقرار». وتحقيق الاستقرار له متطلبات متعددة تتضمن تحقيق استقلال الدولة وضمان استقلالية قراراتها السياسية، ما يعني إنهاء النفوذ والتسلط الإيراني على مسار السياسة العراقية، ويعني استعادة سلطة وهيبة الدولة أمام نفوذ الميليشيات والجماعات الطائفية المسلحة وضمان احتكار السلاح بيد الدولة فقط، بما يضمن تحقيق إصلاحات إدارية جذرية تنهي حالة الفساد المستشري وسرقة المال العام، ومحاربة ظاهرة الانفلات الأمني وانتشار جماعات الجريمة المنظمة وغير المنظمة، وكذلك إنهاء سلطة العشائر التي استفحلت في حياة المواطن واستحوذت على سلطات الدولة في مواضع متعددة، وبناء قوات مسلحة وأجهزة أمنية مهنية محترفة ذات هوية وطنية تدين بالولاء للوطن، بعيدا عن الانتماءات والولاءات الطائفية أو العرقية، ويعني ما هو أكثر من هذا وهو توفير الحاجات الأساسية للمواطن العراقي الذي عانى الويلات خلال الأعوام الخمسة عشر الماضية.

التزام القيادة العراقية الجديدة بهذه المتطلبات ليس لتحقيق مصالح السعودية، أو لتحقيق مصالح أي دولة عربية أخرى، بل لتحقيق مصلحة العراق الذاتية ومصالح شعبه في المقام الأول، كما سينتفع الآخرون، وفي مقدمتهم جيران العراق من الدول العربية من تعزيز استقرار الدولة وتثبيت أمنها وسيادتها واستقلال قراراتها السياسية. لذا ما تتمناه المملكة العربية السعودية من القيادة العراقية الجديدة ليس بالكثير، بل ما يمثل السلوك والمسار الطبيعي لأي دولة من دول العالم ذات قيمة وحظوة كدولة العراق ذات المكانة التاريخية والحضارة العريقة والتميز الإقليمي.

ما حدث خلال الأعوام الخمسة عشر الماضية هو خضوع العراق العربي لاحتلالين خارجيين شرسين ومدمرين، الأول رسمي ومرئي وعلني وشاخص وهو الاحتلال العسكري الأمريكي المتمثل بالجندي، والدبابة، والطائرة الأمريكية، هذا الاحتلال الذي جثم على أرض العراق وخنق شعبه لسنوات طويلة، والثاني وهو الاحتلال الإيراني غير الرسمي للدولة والسيطرة على مقدراتها، وهو الاحتلال الأشد والأكثر تدميرا وعبثية. وعلى القيادة العراقية الجديدة الاعتراف بصوت عالٍ بوجود احتلالين، الأول وهو الأمريكي وربما يكون زائلا وذا تأثيرات محدودة على مسيرة الدولة وحياة المواطن، ولكن يجب الاستمرار في محاربته واحتواء آثاره السلبية، والثاني وهو الاحتلال الإيراني الذي تسرب إلى جميع مفاصل الدولة وزوايا اتخاذ القرار في العراق، وهو الأخطر والأكثر استمرارًا وتأثيرًا، فهذا الاحتلال تمكن من بناء أسس قوية وجذور عميقة داخل البيت السياسي العراقي، وكرس آليته الأساسية القائمة على متانة الولاء الطائفي، وتمكن من قتل الانتماء الوطني العراقي، وتصفية الهوية والانتماء القومي العربي لشعب العراق، وتهميش تاريخ وحضارة العراق العريق، وما نقوله عن الدمار الذي أحدثه الاحتلال الإيراني للعراق لا يشكل إلا جزءا يسيرا من الحقيقة الكاملة، ومن الصورة الخفية والمخفية لهذا الأخطبوط الذي سخر جميع إمكاناته وقدراته للاستحواذ على واحدة من أهم الدول العربية من حيث المكانة والقدرات والموارد الطبيعية والبشرية.

الأسئلة المشروعة اليوم والتي تتردد في العالم العربي هي: هل ستعمل القيادة العراقية الجديدة على تحقيق «الاستقرار» بجميع متطلباته، وهل ستكون راغبة ومستعدة وقادرة على دفع الثمن المطلوب لمهمة تحقيق الاستقرار. هل تحرير العراق من السيطرة الإيرانية سيكون أحد أهدافها المعلنة، أو غير المعلنة؟ المملكة، وجميع الأشقاء العرب، سيباركون هذا التوجه، وسيكونون على أهبة الاستعداد لمد يد الدعم والمساعدة للعراق الجريح والمحتل، ولكن ستبقى المبادرة الحقيقية والأساسية وبشكل حصري لتحقيق هذا الهدف بيد القيادة العراقية، لذا نقول للقيادة العراقية الجديد إن أشقاءكم في العالم العربي، والمملكة العربية السعودية وجميع دول مجلس التعاون الخليجي، في انتظار المبادرة المباركة للشد على أيديكم، ومباركة توجهاتكم لإعادة بلدكم إلى دورها الطبيعي في المنطقة والعالم، إذ نقدم لكم التهنئة بتوليكم المناصب القيادة في العراق، نذكركم أن مع المنصب تأتي المسؤولية، ومسؤوليتكم الكبرى التي تنتظركم هي إنقاذ بلدكم من الاحتلال المعلن وغير المعلن، ونحن على يقين أنكم ستولون مصلحة بلادكم جل اهتمامكم، وسيكون شعبكم أمام أعينكم، وفقكم الله إن كانت مصلحة العراق واستقلاليته وسيادته ورفاهية شعبه ستكون هي دليلكم وهمكم الأول والأخير.

* رئيس مركز الخليج للأبحاث