تسرعت منظمة الأوبك بالحديث عن وجود فائض في سوق النفط العالمية حاليًّا -وهو فائض مؤقت-؛ الأمر الذي أدى إلى انخفاض في الأسعار عن مستويات الثمانين دولارًا للبرميل خلال الأسبوعين الماضيين، وبدأ معه الحديث عن كيفية التعامل مع هذا الفائض. وقد تناست أنَّ هذا الفائض المؤقت إنَّما جاء نتيجة الإجراءات الاحترازية التي أقدم عليها المنتجون المالكون لطاقة إنتاجية فائضة، بزيادة إنتاجهم استعدادًا لبدء تطبيق العقوبات الأمريكية على صادرات النفط الإيرانية بدءًا من الأسبوع القادم، الرابع من نوفمبر.
ولاحظنا أنه بتداخل كثير من العوامل في تحديد أسعار النفط، ومنها حالة الاقتصاد العالمي في ظل الحرب التجارية العالمية الدائرة حاليا، وخفض التوقعات لمعدلات النمو العالمي، مما سيؤثر حتما في معدلات الطلب العالمي على النفط في الفترة القادمة، إلا أن العقوبات المنتظرة الأسبوع القادم على إيران تعتبر غير مسبوقة وتؤدي إلى ارتفاعات في الأسعار، وليست كسابقتها في عام 2012، والتي أتت «بلا أنياب».
والأوبك والمنتجون المتعاونون معها، حرصوا -منذ اجتماعهم في يونيو الماضي وما تبعه من اجتماع للجنة مراقبة الاتفاق في سبتمبر الماضي- على أن تكون الزيادة في الإنتاج تدريجية، حتى لا تتشكل تخمة مصطنعة في الأسواق العالمية تدفع بالمنتجين إلى تبني خفضهم للإنتاج النفطي. وجاء ذلك الحرص بناءً على اقتراح القائد الفعلي لسوق النفط، وهي السعودية التي تنتج حاليًّا (10.7) مليون برميل يوميًّا، وتحتفظ بمليون برميل إضافي يوميًّا؛ طاقة فائضة تستخدمها -خلال فترة قصيرة- عند حدوث نقص حقيقي في الأسواق.
وقد لجأ بعض المنتجين إلى فتح صنابير حقولهم لإنتاج أقصى ما لديهم من طاقة نفطية، بما فيهم روسيا؛ فهي تنتج الآن أكثر من (11.4) مليون برميل يوميا، وتعمل على شحذ همتها لتزيد الإنتاج إلى أعلى من ذلك. أمَّا السعوديَّة فقد أخذتْ في إحداث زيادات تدريجية، لتحقيق ذلك الهدف (عدم حدوث تخمة مصطنعة)، وبناءً عليه، لم تستنفد كامل طاقتها الإنتاجية الفائضة بعد.
أما وصول إنتاج الولايات المتحدة مُؤخَّرًا إلى أكثر من أحدَ عشر مليون برميل، فقد أوجدَ انطباعًا لدى الأسواق بأنَّها قد تكون أكثر استعدادًا من الآخرين لمواجهة أيِّ نقص في الإمدادات النفطية العالمية، مع بدء العقوبات. كما أنها ما زالت تحتفظ بحوالى 700 مليون برميل من الاحتياطي الإستراتيجي، والذي تصر على عدم التصرف فيه حاليا.
ولا أعلم مبررات اعتقاد الأوبك بِكَوْنِ الأسواق تشهد فائضًا هذه الأيام؛ وذلكَ أنَّ تسجيل المخزون النفطي الأمريكي لفائض للأسبوع الثالث على التوالي، ليس بالمؤشر الوحيد الذي يقاس بموجبه وجود فائض نفطي من عدمه، فهو يخضع في الأساس لعوامل تتعلق بالسوق الأمريكية. وعلى المملكة أنْ لا تستمع لدعوات خفض أو تجميد إنتاجها النفطي؛ فهذا ما تريده إيران حاليا لتستمتع بأسعار ما فوق الثمانين دولارا قبل ومع بدايات تطبيق العقوبات عليها.
أما العقوبات القادمة على صادرات إيران النفطية فهي لا محالة ستؤثر عليها، وستقترب من الصفر إنْ لم تصل إليه، وذلك للأسباب التالية:
أولا: أن تطبيق الولايات المتحدة لهذه العقوبات مرتبط بعقوبات على الدول والشركات التي تستمر في شراء النفط الإيراني، وبالتالي ومع وجود بائعين آخرين في الأسواق، فإنَّه يمكن تفادي هذه العقوبات المضادة بالامتناع عن شراء النفط الإيراني.
ثانيا: حتى الدول التي تعتمد بشكل كبير على ما تستورده من النفط الإيراني، مثل الهند، قد أعلنت مؤخرًا أنَّها استطاعت توفير البديل من السعودية وغيرها، وأنها لن تشتري برميلًا واحدًا من إيران. ولحقتْ بها الصين الأسبوع الماضي، حيث صرحت بعدم تعاقدها -وذلك بدءًا من الأسبوع القادم- على شراء أية كمية من النفط الإيراني؛ خوفًا من مزيد من العقوبات عليها، وهي المنشغلة معها (الولايات المتحدة) في حرب تجارية لا أحد يعرف متى تنتهي.
وقد سبقت الهند والصين كلٌّ من اليابان وكوريا الجنوبية وغيرهما في إيقاف استيرادهما للنفط الإيراني. بل وحتى العراق أوقف إرسال شحنات نفطية إلى إيران أو استقبال نفط إيراني ليتم تصديره تحت علم العراق، وهي صورة من صور التهريب الذي قد لا تتحمل دولة العراق بكل مشاكلها عقوبات أمريكية بسببها.
ثالثًا: هنالك دول لم تعلن عن موقفها من مقاطعة النفط الإيراني، وعلى رأسها روسيا التي أعتقد أنها ستستمر في شرائه، كما فعلت في العقوبات الماضية حينما لجأت إلى أسلوب مقايضة النفط الإيراني بالسلع الروسية. أمَّا تركيا، ولتخوفها من العقوبات الأمريكية، فقد طلبت إعفاءها لتستمر في شراء النفط الإيراني.
رابعًا: أنَّ إيران قد تعودت أسلوب تهريب النفط، من خلال العقوبات السابقة، وأصبحت محترفة في ذلك. وهي قد أغرت في الماضي زبائنها بخصومات سعرية كبيرة؛ لذا فلا يُستبعد استمرار قيامها بذلك مع تضييق الخناق عليها. لكن في كل الأحوال ستكون كميات محدودة «لا تُسمنُ ولا تُغني من جوع».
خامسا: أتاحت الولايات المتحدة لنفسها بديلين لمواجهة أية أزمة قادمة في الإمدادات النفطية:
1: منحها إعفاءات لبعض الدول من عقوبات شرائها للنفط الإيراني. لكنها لم تعلن عن أسماء هذه الدول ولن تعلنها. فهي تريد تفعيل هذا البديل في حالات محدودة فقط، وسيتم ذلك إذا رأت أنَّ هنالك نقصًا في الإمدادات العالمية للنفط، لم يتمكن المنتجون من سَدِّه.
2: استخدامها، وكملجأ أخير، لبعض كميات الاحتياطي الأمريكي الإستراتيجي، التي يمكن أن تسدَّ حاجتها لفترة تقارب ثلاثة أشهر، كما أنها في نفس الوقت تُخفف من حدة أية ارتفاعات في أسعار النفط.
وختامًا، فسوقُ النفط العالمية أمام أزمة قادمة شعارها «نقص الإمدادات»، وهنا يأتي دور المملكة العربية السعودية؛ فهي وحدها تستطيع أن تُعيد للأسواق استقرارها من خلال مرونة طاقتها الإنتاجية، ومن خلال خبرتها التاريخية في ضبط أسواق النفط. فالعالم بحاجة إلى هذا الدور القيادي حتى لا تجمح أسعار النفط لتصلَ إلى ما يزيد على مائة دولار للبرميل.
والعالم أجمع واثق من قيامها بذلك كل الثقة وكما تعود منها تاريخيًّا.
* المستشار الاقتصادي والنفطي الدولي
sabbanms@
ولاحظنا أنه بتداخل كثير من العوامل في تحديد أسعار النفط، ومنها حالة الاقتصاد العالمي في ظل الحرب التجارية العالمية الدائرة حاليا، وخفض التوقعات لمعدلات النمو العالمي، مما سيؤثر حتما في معدلات الطلب العالمي على النفط في الفترة القادمة، إلا أن العقوبات المنتظرة الأسبوع القادم على إيران تعتبر غير مسبوقة وتؤدي إلى ارتفاعات في الأسعار، وليست كسابقتها في عام 2012، والتي أتت «بلا أنياب».
والأوبك والمنتجون المتعاونون معها، حرصوا -منذ اجتماعهم في يونيو الماضي وما تبعه من اجتماع للجنة مراقبة الاتفاق في سبتمبر الماضي- على أن تكون الزيادة في الإنتاج تدريجية، حتى لا تتشكل تخمة مصطنعة في الأسواق العالمية تدفع بالمنتجين إلى تبني خفضهم للإنتاج النفطي. وجاء ذلك الحرص بناءً على اقتراح القائد الفعلي لسوق النفط، وهي السعودية التي تنتج حاليًّا (10.7) مليون برميل يوميًّا، وتحتفظ بمليون برميل إضافي يوميًّا؛ طاقة فائضة تستخدمها -خلال فترة قصيرة- عند حدوث نقص حقيقي في الأسواق.
وقد لجأ بعض المنتجين إلى فتح صنابير حقولهم لإنتاج أقصى ما لديهم من طاقة نفطية، بما فيهم روسيا؛ فهي تنتج الآن أكثر من (11.4) مليون برميل يوميا، وتعمل على شحذ همتها لتزيد الإنتاج إلى أعلى من ذلك. أمَّا السعوديَّة فقد أخذتْ في إحداث زيادات تدريجية، لتحقيق ذلك الهدف (عدم حدوث تخمة مصطنعة)، وبناءً عليه، لم تستنفد كامل طاقتها الإنتاجية الفائضة بعد.
أما وصول إنتاج الولايات المتحدة مُؤخَّرًا إلى أكثر من أحدَ عشر مليون برميل، فقد أوجدَ انطباعًا لدى الأسواق بأنَّها قد تكون أكثر استعدادًا من الآخرين لمواجهة أيِّ نقص في الإمدادات النفطية العالمية، مع بدء العقوبات. كما أنها ما زالت تحتفظ بحوالى 700 مليون برميل من الاحتياطي الإستراتيجي، والذي تصر على عدم التصرف فيه حاليا.
ولا أعلم مبررات اعتقاد الأوبك بِكَوْنِ الأسواق تشهد فائضًا هذه الأيام؛ وذلكَ أنَّ تسجيل المخزون النفطي الأمريكي لفائض للأسبوع الثالث على التوالي، ليس بالمؤشر الوحيد الذي يقاس بموجبه وجود فائض نفطي من عدمه، فهو يخضع في الأساس لعوامل تتعلق بالسوق الأمريكية. وعلى المملكة أنْ لا تستمع لدعوات خفض أو تجميد إنتاجها النفطي؛ فهذا ما تريده إيران حاليا لتستمتع بأسعار ما فوق الثمانين دولارا قبل ومع بدايات تطبيق العقوبات عليها.
أما العقوبات القادمة على صادرات إيران النفطية فهي لا محالة ستؤثر عليها، وستقترب من الصفر إنْ لم تصل إليه، وذلك للأسباب التالية:
أولا: أن تطبيق الولايات المتحدة لهذه العقوبات مرتبط بعقوبات على الدول والشركات التي تستمر في شراء النفط الإيراني، وبالتالي ومع وجود بائعين آخرين في الأسواق، فإنَّه يمكن تفادي هذه العقوبات المضادة بالامتناع عن شراء النفط الإيراني.
ثانيا: حتى الدول التي تعتمد بشكل كبير على ما تستورده من النفط الإيراني، مثل الهند، قد أعلنت مؤخرًا أنَّها استطاعت توفير البديل من السعودية وغيرها، وأنها لن تشتري برميلًا واحدًا من إيران. ولحقتْ بها الصين الأسبوع الماضي، حيث صرحت بعدم تعاقدها -وذلك بدءًا من الأسبوع القادم- على شراء أية كمية من النفط الإيراني؛ خوفًا من مزيد من العقوبات عليها، وهي المنشغلة معها (الولايات المتحدة) في حرب تجارية لا أحد يعرف متى تنتهي.
وقد سبقت الهند والصين كلٌّ من اليابان وكوريا الجنوبية وغيرهما في إيقاف استيرادهما للنفط الإيراني. بل وحتى العراق أوقف إرسال شحنات نفطية إلى إيران أو استقبال نفط إيراني ليتم تصديره تحت علم العراق، وهي صورة من صور التهريب الذي قد لا تتحمل دولة العراق بكل مشاكلها عقوبات أمريكية بسببها.
ثالثًا: هنالك دول لم تعلن عن موقفها من مقاطعة النفط الإيراني، وعلى رأسها روسيا التي أعتقد أنها ستستمر في شرائه، كما فعلت في العقوبات الماضية حينما لجأت إلى أسلوب مقايضة النفط الإيراني بالسلع الروسية. أمَّا تركيا، ولتخوفها من العقوبات الأمريكية، فقد طلبت إعفاءها لتستمر في شراء النفط الإيراني.
رابعًا: أنَّ إيران قد تعودت أسلوب تهريب النفط، من خلال العقوبات السابقة، وأصبحت محترفة في ذلك. وهي قد أغرت في الماضي زبائنها بخصومات سعرية كبيرة؛ لذا فلا يُستبعد استمرار قيامها بذلك مع تضييق الخناق عليها. لكن في كل الأحوال ستكون كميات محدودة «لا تُسمنُ ولا تُغني من جوع».
خامسا: أتاحت الولايات المتحدة لنفسها بديلين لمواجهة أية أزمة قادمة في الإمدادات النفطية:
1: منحها إعفاءات لبعض الدول من عقوبات شرائها للنفط الإيراني. لكنها لم تعلن عن أسماء هذه الدول ولن تعلنها. فهي تريد تفعيل هذا البديل في حالات محدودة فقط، وسيتم ذلك إذا رأت أنَّ هنالك نقصًا في الإمدادات العالمية للنفط، لم يتمكن المنتجون من سَدِّه.
2: استخدامها، وكملجأ أخير، لبعض كميات الاحتياطي الأمريكي الإستراتيجي، التي يمكن أن تسدَّ حاجتها لفترة تقارب ثلاثة أشهر، كما أنها في نفس الوقت تُخفف من حدة أية ارتفاعات في أسعار النفط.
وختامًا، فسوقُ النفط العالمية أمام أزمة قادمة شعارها «نقص الإمدادات»، وهنا يأتي دور المملكة العربية السعودية؛ فهي وحدها تستطيع أن تُعيد للأسواق استقرارها من خلال مرونة طاقتها الإنتاجية، ومن خلال خبرتها التاريخية في ضبط أسواق النفط. فالعالم بحاجة إلى هذا الدور القيادي حتى لا تجمح أسعار النفط لتصلَ إلى ما يزيد على مائة دولار للبرميل.
والعالم أجمع واثق من قيامها بذلك كل الثقة وكما تعود منها تاريخيًّا.
* المستشار الاقتصادي والنفطي الدولي
sabbanms@