-A +A
صدقة يحيى فاضل
التعليم من أسمى الأعمال، ولا نقول المهن وحسب... لأنه أنبل وأرفع من أن يكون مهنة فقط. إنه إضافة إلى ذلك، رسالة سامية، يجب أن يبجل القائم بها، ويقدر العامل عليها بأمانة وإخلاص. وإذا كان الإنسان في أمس الحاجة إلى «الصحة» كي يعيش، ويعمر الأرض، فإنه بحاجة أمس لـ «التعليم»... كي يعيش بعافية وكرامة، ويؤدي دوره، بأكبر إتقان ممكن.

كل دول العالم، ولأهميته البالغة، توفر التعليم العام (الأساسي) لسكانها، ومجانا. ومعظمها يجعل التعليم الابتدائي - على الأقل - إجباريا. وأغلب حكومات العالم تخصص نسبة كبيرة من ميزانياتها للتعليم، وتوفره من المرحلة الابتدائية حتى المرحلة الجامعية، وما بعدها. وبعض الدول تقدم التعليم الجامعي وبعد الجامعي برسوم رمزية.


كل ذلك انطلاقا من كون التعليم هو أهم عناصر تنمية الإنسان وتطويره. ووجود شعب متعلم يسهم في دعم قوة الدولة، ورفع مكانتها بين الأمم. والعكس صحيح. ومن هنا أنشئ التعليم العام (أو الحكومي) المجاني، أو شبه المجاني. وكذلك الحال بالنسبة لـ «الصحة». فهناك دائما رعاية صحية حكومية، مجانية أو شبه مجانية.

ونظرا لتشعب أعمال الحكومات، وتزايد مسؤولياتها نحو مجتمعاتها، خاصة في مجالي الصحة والتعليم، بدأت حكومات العالم منذ عهد طويل، بالسماح بوجود رعاية صحية خاصة، وتعليم خاص... تقدم هاتين الخدمتين الجليلتين بمقابل مادى، ووفق قواعد ومبادئ ونظم صارمة ومحددة.

***

وقد سمحت حكومتنا الرشيدة (ممثلة في وزارة التعليم) بقيام تعليم خاص بالبلاد، وفق أنظمة محددة، ومتابعة مشددة، لضمان قيام مؤسسات التعليم الخاص بأداء دورها كما يجب، بمهنية وجودة وأمانة. ولسنا هنا بصدد تقويم تجربتنا مع التعليم الخاص، بصفة عامة، ولكن هناك بعض الملاحظات عن التعليم الجامعي الخاص، وهو - كما نعرف - قطاع ناشئ، ولكنه يتطور نحو الأفضل. ومع ذلك، نسمع أن هناك بعض مؤسسات التعليم الجامعي الخاص، التي يلاحظ عليها شيء مما يمكن وصفه بـ «التسيب الجامعي». إذ يلاحظ تأكيدها على الجانب التجاري، أكثر من تركيزها على تقديم الخدمة التعليمية والتربوية بمهنية وجودة وأمانة. فأصبح الطالب (أو الطالبة) لديها «زبونا»، يجب إرضاؤه... ولو على حساب العلم والانضباط والجد والاجتهاد.

***

وفي البدء، لابد أن ننوه بمعظم من «يستثمرون» أموالهم وأوقاتهم في مجال التعليم الخاص، سواء العام أو الجامعي. فهؤلاء عزفوا عن استثمار أموالهم في التجارة والعقار وغيرهما، وآثروا الاستثمار في أنبل مجال، وهو مجال التعليم، رغم أن العائد الاستثماري به قد يكون أقل من العائد الاستثماري في مجالات أخرى... هؤلاء يجب أن يشكروا، ويكرموا... كرموز وطنية مضيئة، تساهم في نهضة بلادها في أشرف ميدان.

ومع هذه الصورة المشرقة، هناك - كما يبدو - من دخل مجال الاستثمار في التعليم، طمعا في العائد المادي وحسب، ودون اكتراث جاد بتقديم الخدمة التعليمية المأمولة. فبعض هذه المؤسسات التي أقامها هؤلاء ما زالت - كما يبدو - تتسم بالتسيب الجامعي، وسوء الخدمة التعليمية، رغم محاولات التغطية الإعلامية والدعائية المكثفة التي تقوم بها، ترويجا لنفسها.

***

إن «سمعة» أي جامعة هي أمر شفاف، ومؤشر على مدى جودة الخدمة التعليمية التي تقدمها لطلابها، والأبحاث العلمية التي تساهم بها لخدمة مجتمعها. ومعروف، أن الجامعة الخاصة تعتمد، في بقائها واستمرارها، على رسوم الخدمة. وهناك علاقة طردية بين مدى جودة أي جامعة ومدى دعمها ماليا. عندما تتسيب أي جامعة خاصة، فإن نوعية «رديئة» من الطلاب تتدفق عليها، فيزيد دخل الجامعة المادي، في المدى القصير، ولكن سمعتها تتدهور، ومكانتها تضعف. الأمر الذي، إن لم يتم تداركه، يتسبب في ضعف إقبال الطلاب عليها، وتراجع دخلها المادي، في المدى الطويل. هناك نوعية من الطلاب لا تبحث إلا عن «شهادات»... فإذا تم مجاراتها، وتلبية هدفها بسهولة، من قبل أي جامعة، فإن ذلك يعتبر بداية لمرض ووهن الجامعة، وربما موتها.

حري بالجامعات الخاصة أن لا تقع في شراك هذا الفخ، وأن لا يكون هدفها الأول جمع الأموال، والمتاجرة ببضاعتها. لا بد أن يكون الهدف الأساسي لأي جامعة خاصة هو تقديم العلم لطلابه، بأقصى قدر ممكن من المهنية والجودة والأمانة، وبتكاليف معقولة، وميسرة، وليس مبالغا فيها، كما يحدث في بعض الحالات. وجميل أن يكون همّ وزارة تعليمنا الأول تجاه الجامعات الخاصة هو ضمان قيامها بالدور التعليمي والتربوي المطلوب منها، وجودة مخرجاتها. فهذا هو الهدف الذي يجب أن تكون الأهداف الأخرى هامشية بجانبه.

***

تعمل وزارة تعليمنا للحيلولة دون وقوع أي كلية أو جامعة خاصة في فخ «التجارة». فلا يجب التغاضي عن التسيب الجامعي، الذي غالبا ما يبدأ بتعيين إداريين فاشلين علميا وأخلاقيا، لإدارة دفة هذه المؤسسات. ويستشري هذا الفساد بتعامل الكلية أو الجامعة مع طلابها تعاملا غير سوي، قوامه «تدليع» الطلاب... لأنهم «زبائن» يشترون منها الشهادات. فيدخل الطالب للمحاضرات وقتما يشاء، ويخرج وقتما يشاء، بل ولا يحضر إلا وقتما يشاء... وإن تراكم الغياب عليه يكفي أن يطلب رفعه، ويحضر أي مسوغ لإلغائه. ثم تقدم له امتحانات سهلة، غالبا ما تكون عبارة عن التأشير بـ: صح / خطأ. وعلى الأساتذة أن يعوا ذلك، فلا يقدموا على «ترسيب» أي طالب، طالما حضر، ولو بعض المحاضرات، وطالما دفع الرسوم.

أما الأستاذ الذى يدقق، ويعمل بأمانة وإخلاص، فغالبا ما يلغى عقده، أو تدبر له مكيدة، أو تلصق به تهمة، للتخلص منه... تماما كما يحصل في بعض المستوصفات الخاصة. حيث يتم التخلص من الطبيب الذى لا يجلب دخلا (مناسبا) للمستوصف.

عندما تحصل هذه السلوكيات في بعض الكليات أو الجامعات الخاصة، تصبح هذه المؤسسات في حالات تسيب جامعي معيب... ويتحول دورها ليصبح متاجرة بالتعليم، وتمسى مخرجاتها هزيلة، بالمقاييس العلمية الرصينة.

* كاتب سعودي

sfadil50@hotmail.com