-A +A
رامي الخليفة العلي
منذ أن تفجرت قضية مقتل السيد جمال خاشقجي رحمه الله، والجانب التركي يعمد إلى استغلال هذه القضية من الناحيتين السياسية والإعلامية، بعيداً عن الجانب الجنائي الذي يفترض بأي دولة مؤسسات أن تلجأ إليه. منذ البداية والجانب السياسي يتولى إدارة القضية وظهور الجانب الجنائي يأتي من أجل ملء فجوات في الاستغلال السياسي والإعلامي. في قضية خاشقجي تكرس مفهوم الإعلام الحربي، وكذا الحرب الإعلامية، فتعرضت المملكة العربية السعودية لأشنع وأقوى حرب إعلامية، تضافرت وتعاونت فيها وسائل إعلامية ذات مشارب مختلفة كل لأسبابه. البعض الذي ينتمي إلى تيار الإخوان المسلمين والبعض الآخر الذي ينتمي إلى قطر والبعض الثالث الذي ينتمي إلى المحور الإيراني والبعض الرابع الذي ينتمي إلى أردوغان وحزبه والبعض الخامس الذي ينتمي إلى اليسار الغربي. وكل هؤلاء على ما بينهم من اختلاف فقد اجتمعوا على مناصبة المملكة العداء لأسباب سياسية وأيديولوجية مختلفة. وتحولت الحكومة التركية إلى المايسترو الذي يدير الجوقة ويمدها بما تحتاج إليه من استراتيجية القطرة قطرة.

لم يصدر عن أجهزة التحقيق وكذا النائب العام التركي سوى بيان يتيم لم يضف فيه جديداً عن المعلومات المتداولة، بينما تحول الساسة الأتراك إلى أجهزة تحقيق يلمحون حيناً ويصرحون أحياناً أخرى، وتحولت بلاتوهات القنوات التلفزيونية إلى محاكم تنصب على الهواء مباشرة. الجهة الوحيدة التي كانت تكشف عن المعلومات هي أجهزة الإعلام التابعة لتلك الجوقة، والهدف هو إبقاء أقصى ضغط إعلامي وسياسي على المملكة العربية السعودية. وإذا ما نظرنا إلى خارطة وسائل الإعلامي التي تولت مسؤولية نشر المعلومات (المسربة!) التركية نجد أنها تنسجم مع التوجهات التركية والهدف الذي يسعى أردوغان إلى تحقيقه. ففي تركيا توزعت خارطة الوسائل الإعلامية على التيارات السياسية وكأنه شد عصب للحياة السياسية لتجاوز الانقسامات التي كانت تعصف بالحياة السياسية حول أردوغان ونهجه الاقتصادي والإداري، وكانت هذه الأسئلة بدأت تطرح بعد تعيين صهر أردوغان وزيراً للمالية والأزمة التي شهدتها الليرة التركية وكذلك أزمة الاقتصاد التركي. فغابت تلك الأسئلة في زوبعة قضية خاشقجي. على الصعيد العربي تم الاستناد إلى الإعلام التابع للإخوان المسلمين ودولة قطر والذي كان منخرطاً أصلاً في حرب إعلامية ضد المملكة العربية السعودية بتأثير الأزمة القطرية، والأزمة التي يعانيها الإخوان المسلمين في مصر ومناطق أخرى في العالم العربي. أما على صعيد الإعلام الغربي فقد كان تركيز الحكومة التركية على الإعلام الأمريكي حصراً، فغابت عن خريطة (التسريبات) ديرشبيغل الألمانية أو اللوموند الفرنسية أو غيرها من وسائل الإعلام الأوروبية الشهيرة، وتم التركيز على وسائل الإعلام الأمريكية باعتبار أن الاستغلال السياسي لا تكتمل ملامحه إلا إذا تم التأثير في الرأي العام الأمريكي، وجاء توقيت القضية مناسباً من الناحية السياسية فهي متزامنة مع انتخابات التجديد النصفي للكونغرس، وبلغ الأمر مبلغه بأن كتب الرئيس التركي رجب طيب أردوغان بنفسه مقالة على صفحات الواشنطن بوست.


هذا الإعلام الحربي وتلك الحرب الإعلامية تريد النيل من المملكة العربية السعودية في دورها القيادي وفي مركزيتها على الساحتين العربية والإسلامية، وأكذوبة أن هناك تمييزاً بين المملكة كدولة وبين القيادة هي تضليل وبهتان. ولو كان الأمر كذلك لذهبت تركيا في معالجتها لهذه القضية إلى الجانب الجنائي والقانوني وتركت هذه الأطراف لكي تقوم بدورها المهني بعيداً عن اللغط الإعلامي والسياسي وهذا ما لم يحدث. الهدف من وراء الحملة الدعائية التي تشن على المملكة العربية السعودية لم تعد خافية على أحد، وآخر ما تريده هي معرفة الحقيقة حول مقتل السيد جمال خاشقجي، وآخر ما تريده هي أن تنتهي هذه القضية سريعاً، وآخر ما تريده هي حرية الصحافة، وآخر ما تريده حقوق الإنسان، بل تريد إطالة أمد هذه القضية إلى أطول فترة ممكنة والاستفادة منها إلى أقصى الحدود. تريد أن تجعل من دماء جمال خاشقجي رحمه الله قميص عثمان، لعل ذلك يفت من عضد المملكة في قضايا سياسية هي مثار خلاف مع المملكة. وتريد أن تجعل من دمائه حصان طروادة لضرب استقرار المملكة.

تاريخياً وتقليدياً المملكة تتعامل مع القضايا الداخلية والإقليمية والدولية بمنتهى الهدوء والحلم وهذا ديدنها على امتداد عقود، وهذا قد يعطي انطباعاً خاطئاً لدى المتربصين بها. هدوؤها وحلمها لا ينبع من قلة الحيلة ولا من انعدام الأوراق السياسية ولا من غياب عوامل القوة، ولكنه نهج ارتضته؛ تجنباً لارتدادات سياسية قد تكون ضارة. ولكن على أولئك أن لا يراهنوا كثيراً على ذلك الحلم لأن للصبر حدوداً، واتقِ الحليم إذا غضب.

* باحث في الفلسفة السياسية، خبير في قضايا الشرق الأوسط

ramialkhalife@