أبرز ما يمكن الخروج به من أحداث الفوضى والاضطرابات والمظاهرات التي اجتاحت عواصم الشرق الأوسط منذ العام ٢٠١١ ذلك التجلي الذي يمكن وصفه بديكتاتورية الشارع.
فجأة أصبح للشارع سلطة وقوة يمكن من خلالها أن يؤثر في مجريات الكيان وشكله ومستقبله أيضا.
الشارع بكل اختلافاته وعيوبه وطائفيته وتشدده وانفعاله. كانت واحدة من أسوأ لحظات التاريخ الحديث في المنطقة العربية، ولحظة متردية وبدائية جدا على الصعيد الحضاري والمدني.
انقض الشارع على المؤسسة، وبدعم من قوى عالمية ومن خلال الإيمان بنظريات التغيير المنفلتة بات الشارع حاكما ومهيمنا وتراجعت المؤسسات على كل صعيد.
طفت على السطح كل عيوب وأزمات الشارع التي ظلت المؤسسات والأنظمة تديرها ضمن منظومة الدولة، وبالرغم من كثير من الأخطاء التي كانت تضمها تلك المؤسسات إلا أنها كانت أكثر براغماتية وأمنا من حالة الانفلات التي حدثت حينما أصبح الشارع حاكما.
اتجه الشارع أول ما اتجه إلى التدين بوصفه سلطة مهيمنة يمكن الانطلاق منها واحتكارها لفرض هيمنة أكبر على مختلف الشرائح والطبقات الاجتماعية لكي يتحولوا إما إلى أتباع مطيعين أو إلى خصوم منبوذين، وسرعان ما تشكلت أكثر من جماعة دينية اتخذت كل منها نموذجا دينيا مغايرا واتسعت بذلك رقعة المواجهات والمعارك مع المؤسسات ومع بعضها البعض.
المؤسسة السياسية العربية وأجهزتها الأمنية والاقتصادية والاجتماعية كانت الضامن الأول لحالة الاستقرار الجزئي الذي شهدته المنطقة العربية منذ انتهاء حقبة الاستعمار، ورغم الأخطاء والضعف الذي شاب أداء كثير من تلك المؤسسات ومع تكرار الانقلابات في حقبة ما إلا أنها حافظت على تشكيل كيانات يمكن لها أن تتطور وأن تحمي الشارع من جنونه. ترافق مع تلك الأحداث في العام ٢٠١١ تصاعد في وصفها بأنها انعكاس لروح الشباب الطموح والجيل الجديد والثورات المستقبلية، لكن شيئا من ذلك لم يحدث وسرعان ما قفزت إلى المنصات تلك الوجوه الهرمة المستبدة وسيطرت على المشهد. النموذج الذي شهدناه في مصر يمكن أن يكون أفضل مثال على خطورة انقضاض الشارع على المؤسسات. وفي أحلك الظروف بين أحداث الخامس والعشرين من يناير وثورة الثلاثين من يونيو فإن ما حافظ على مصر من الانزلاق لهاوية خطيرة كانت أبرز مؤسستين شامختين في مصر هما المؤسسة العسكرية والمؤسسة العدلية القضائية.
بحدة أقل كان المشهد مماثلا نوعا ما في تونس، لم يستبد الشارع بالأمر طويلا، حين ظهرت ملامح التيه والانقسام واضطراب الأمن كانت المؤسسات التونسية هي التي تولت زمام الأمور واستطاعت إدارة الشارع والحفاظ على الدولة.
لكن الذي حدث في ليبيا كان صارخا للغاية فمنذ الأساس لم تكن هناك مؤسسات حقيقية تتمتع بأدنى قدر من العراقة والرسوخ وكل شيء كان يدور في فلك استبدادي واحد لم يحمل أي تطلعات تنموية أو مدنية، ولم يكن للمؤسسات أي وجود فعلي، وبمجرد أن تنمّر الشارع ونزل إلى الساحات والميادين انهار كل شيء، وربما بصورة مماثلة يكون المشهد قريبا من ذلك في سوريا.
الشارع العربي مليء بألغام الطائفية والتشدد والقبلية والعنصرية، وحينما نزل إلى الشوارع والميادين نزل متسلحا بكل تلك الألغام.
كل الكيانات الوطنية الحديثة هي كيانات مؤسساتية تتمثل وظيفتها الكبرى في إدارة وضبط كل ذلك التنوع بالقانون وبالأنظمة، وكل ما قامت به دول الاستقرار في المنطقة منذ اندلاع أحداث الفوضى في المنطقة العربية كان موجها لدعم الدولة الوطنية ومؤسساتها.
* كاتب سعودي
فجأة أصبح للشارع سلطة وقوة يمكن من خلالها أن يؤثر في مجريات الكيان وشكله ومستقبله أيضا.
الشارع بكل اختلافاته وعيوبه وطائفيته وتشدده وانفعاله. كانت واحدة من أسوأ لحظات التاريخ الحديث في المنطقة العربية، ولحظة متردية وبدائية جدا على الصعيد الحضاري والمدني.
انقض الشارع على المؤسسة، وبدعم من قوى عالمية ومن خلال الإيمان بنظريات التغيير المنفلتة بات الشارع حاكما ومهيمنا وتراجعت المؤسسات على كل صعيد.
طفت على السطح كل عيوب وأزمات الشارع التي ظلت المؤسسات والأنظمة تديرها ضمن منظومة الدولة، وبالرغم من كثير من الأخطاء التي كانت تضمها تلك المؤسسات إلا أنها كانت أكثر براغماتية وأمنا من حالة الانفلات التي حدثت حينما أصبح الشارع حاكما.
اتجه الشارع أول ما اتجه إلى التدين بوصفه سلطة مهيمنة يمكن الانطلاق منها واحتكارها لفرض هيمنة أكبر على مختلف الشرائح والطبقات الاجتماعية لكي يتحولوا إما إلى أتباع مطيعين أو إلى خصوم منبوذين، وسرعان ما تشكلت أكثر من جماعة دينية اتخذت كل منها نموذجا دينيا مغايرا واتسعت بذلك رقعة المواجهات والمعارك مع المؤسسات ومع بعضها البعض.
المؤسسة السياسية العربية وأجهزتها الأمنية والاقتصادية والاجتماعية كانت الضامن الأول لحالة الاستقرار الجزئي الذي شهدته المنطقة العربية منذ انتهاء حقبة الاستعمار، ورغم الأخطاء والضعف الذي شاب أداء كثير من تلك المؤسسات ومع تكرار الانقلابات في حقبة ما إلا أنها حافظت على تشكيل كيانات يمكن لها أن تتطور وأن تحمي الشارع من جنونه. ترافق مع تلك الأحداث في العام ٢٠١١ تصاعد في وصفها بأنها انعكاس لروح الشباب الطموح والجيل الجديد والثورات المستقبلية، لكن شيئا من ذلك لم يحدث وسرعان ما قفزت إلى المنصات تلك الوجوه الهرمة المستبدة وسيطرت على المشهد. النموذج الذي شهدناه في مصر يمكن أن يكون أفضل مثال على خطورة انقضاض الشارع على المؤسسات. وفي أحلك الظروف بين أحداث الخامس والعشرين من يناير وثورة الثلاثين من يونيو فإن ما حافظ على مصر من الانزلاق لهاوية خطيرة كانت أبرز مؤسستين شامختين في مصر هما المؤسسة العسكرية والمؤسسة العدلية القضائية.
بحدة أقل كان المشهد مماثلا نوعا ما في تونس، لم يستبد الشارع بالأمر طويلا، حين ظهرت ملامح التيه والانقسام واضطراب الأمن كانت المؤسسات التونسية هي التي تولت زمام الأمور واستطاعت إدارة الشارع والحفاظ على الدولة.
لكن الذي حدث في ليبيا كان صارخا للغاية فمنذ الأساس لم تكن هناك مؤسسات حقيقية تتمتع بأدنى قدر من العراقة والرسوخ وكل شيء كان يدور في فلك استبدادي واحد لم يحمل أي تطلعات تنموية أو مدنية، ولم يكن للمؤسسات أي وجود فعلي، وبمجرد أن تنمّر الشارع ونزل إلى الساحات والميادين انهار كل شيء، وربما بصورة مماثلة يكون المشهد قريبا من ذلك في سوريا.
الشارع العربي مليء بألغام الطائفية والتشدد والقبلية والعنصرية، وحينما نزل إلى الشوارع والميادين نزل متسلحا بكل تلك الألغام.
كل الكيانات الوطنية الحديثة هي كيانات مؤسساتية تتمثل وظيفتها الكبرى في إدارة وضبط كل ذلك التنوع بالقانون وبالأنظمة، وكل ما قامت به دول الاستقرار في المنطقة منذ اندلاع أحداث الفوضى في المنطقة العربية كان موجها لدعم الدولة الوطنية ومؤسساتها.
* كاتب سعودي