«الشيءُ بالشيءِ يُذكرُ». نقلتني السيول التي أودت بحياة عشرات من طلبة مدرسة في غور الأردن، وما تلاها من مداهمة السيول عددا من المدن العربية، إلى الذكر بالخير والثناء على سائق حافلة كنت من بين ركَّابها في رحلة من مكَّة المكرَّمة إلى الطائف في صيف يوم قائظ قبل نحو 60 عامًا.
انطلقت بنا الحافلة من مواقف النقل في إجياد باتِّجاه واحة الزيماء التي أنعم الله على سكَّانها بالماء والخضرة، ومياهها العذبة ترفد مياه العاصمة المقدَّسة. توقَّف السائق في واحدة من مقاهي الزيماء؛ لها إطلالة على حقول خضراء مثمرة تكثر فيها أشجار الموز كأنَّه محلَّى بالعسل... تناولنا الشاي المعطَّر بمطيِّبات الأعشاب، ومن بعد اتَّجه السائق نحو الطريق اللولبي صعودًا إلى السيل الصغير، ومن هناك باتِّجاه السيل الكبير. فجأة، توقَّف في جوف الوادي مُجيلا نظره يمنةً ويسرةً، ومن ثمَّ اندفع بالحافلة صعودًا إلى هضبة مرتفعة، مُردِّدًا بِصَوتٍ عالٍ دعاء السلامة.
كان ذاك التوقُّف المفاجئ والصعود بسرعة إلى الهضبة موضع استغراب الركَّاب؛ بعد أن شاهدناه يفرش بساطًا ويبدأ بتحضير الشاي، متابعًا النظر إلى السماء ومسبِّحًا. لم يعجب التوقُّف المفاجئ والخروج من الطريق بعض الركَّاب وهم على مسافة قصيرة من وصولهم وجهتهم في الطائف!
وبنظرة الواثق ممَّا يعمل، ابتسم مشيرًا بيده إلى برق يلمع نذيرًا بقدوم هطول أمطار غزيرة. وأضاف راجيًا أن يلتزموا الهدوء لأنَّ السيل قادم بعد قليل. وما كانت إلا دقائق ليندفع سيل عارم قالعًا الشجر وجارفًا التربة والأحجار وكاد السيل يصلنا...
هدأ السيل، وتوقَّف تدفُّق المياه. توجَّهنا لأخذ مقاعدنا في الحافلة. وعاد سائقنا طيِّب الذكر ليحول دون ذلك، ويطلب مرَّة ثانية أن نلتزم الهدوء، لأنَّ السيل القادم أشدُّ من السابق. صدق حدسه، وبدقائق شاهدنا سيلا أشدَّ هيجانًا وقوَّة جارفًا مع الحجر والشجر مركبات كانت في وسط الوادي وحمولات سيَّارات نقل.
مع الألم والحزن على تلك المركبات ومن فيها، ذكَّرنا السائق بأهوال يوم القيامة «يَوْمَ لا يَنْفَع مَالٌ وَلا بَنُونَ إِلا مَنْ أَتَى اللهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ». وفي ركعتي شكر لله تعالى على سلامتنا من سيل جارف مهلك، الفضل فيه بعد الله لسائقنا تولاه الله برحمته حيًّا أو في ديار الحقِّ.
من الحافلة، شاهدنا على طرفي الطريق مناظر مروعة، فقدَّرنا كفاءة السائق... واليوم والذاكرة تنقلني إلى ذكرى ذلك اليوم، أتساءل كم من سائقي المركبات والحافلات في بلداننا على دراية بمسارات السيول عندما تبرق السماء وترعد وتمطر؛ فيتجنَّبوها لسلامتهم وسلامة من معهم!
* كاتب سعودي
انطلقت بنا الحافلة من مواقف النقل في إجياد باتِّجاه واحة الزيماء التي أنعم الله على سكَّانها بالماء والخضرة، ومياهها العذبة ترفد مياه العاصمة المقدَّسة. توقَّف السائق في واحدة من مقاهي الزيماء؛ لها إطلالة على حقول خضراء مثمرة تكثر فيها أشجار الموز كأنَّه محلَّى بالعسل... تناولنا الشاي المعطَّر بمطيِّبات الأعشاب، ومن بعد اتَّجه السائق نحو الطريق اللولبي صعودًا إلى السيل الصغير، ومن هناك باتِّجاه السيل الكبير. فجأة، توقَّف في جوف الوادي مُجيلا نظره يمنةً ويسرةً، ومن ثمَّ اندفع بالحافلة صعودًا إلى هضبة مرتفعة، مُردِّدًا بِصَوتٍ عالٍ دعاء السلامة.
كان ذاك التوقُّف المفاجئ والصعود بسرعة إلى الهضبة موضع استغراب الركَّاب؛ بعد أن شاهدناه يفرش بساطًا ويبدأ بتحضير الشاي، متابعًا النظر إلى السماء ومسبِّحًا. لم يعجب التوقُّف المفاجئ والخروج من الطريق بعض الركَّاب وهم على مسافة قصيرة من وصولهم وجهتهم في الطائف!
وبنظرة الواثق ممَّا يعمل، ابتسم مشيرًا بيده إلى برق يلمع نذيرًا بقدوم هطول أمطار غزيرة. وأضاف راجيًا أن يلتزموا الهدوء لأنَّ السيل قادم بعد قليل. وما كانت إلا دقائق ليندفع سيل عارم قالعًا الشجر وجارفًا التربة والأحجار وكاد السيل يصلنا...
هدأ السيل، وتوقَّف تدفُّق المياه. توجَّهنا لأخذ مقاعدنا في الحافلة. وعاد سائقنا طيِّب الذكر ليحول دون ذلك، ويطلب مرَّة ثانية أن نلتزم الهدوء، لأنَّ السيل القادم أشدُّ من السابق. صدق حدسه، وبدقائق شاهدنا سيلا أشدَّ هيجانًا وقوَّة جارفًا مع الحجر والشجر مركبات كانت في وسط الوادي وحمولات سيَّارات نقل.
مع الألم والحزن على تلك المركبات ومن فيها، ذكَّرنا السائق بأهوال يوم القيامة «يَوْمَ لا يَنْفَع مَالٌ وَلا بَنُونَ إِلا مَنْ أَتَى اللهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ». وفي ركعتي شكر لله تعالى على سلامتنا من سيل جارف مهلك، الفضل فيه بعد الله لسائقنا تولاه الله برحمته حيًّا أو في ديار الحقِّ.
من الحافلة، شاهدنا على طرفي الطريق مناظر مروعة، فقدَّرنا كفاءة السائق... واليوم والذاكرة تنقلني إلى ذكرى ذلك اليوم، أتساءل كم من سائقي المركبات والحافلات في بلداننا على دراية بمسارات السيول عندما تبرق السماء وترعد وتمطر؛ فيتجنَّبوها لسلامتهم وسلامة من معهم!
* كاتب سعودي