نودع هذا العام بكثير من الغموض وعدم اليقين بما هو آت وسط الحروب والفوضى والانقسامات التي تشهدها المنطقة وشهدتها خلال الأعوام الماضية، عولنا بها على شرائح الواعين والمثقفين الذين هم بالمفترض الفئة التي تقود الثورات والدول للأهداف المنشودة باعتبارهم التنويريين في مواجهة الدمار والظلام.
بدأ تراجع دورالمثقف من الصف الأول إلى الأطراف، حيث تراجع دوره أمام السياسي والخبير ورجل الأمن والواعظ الديني والتقني والناشط المدني... كل هؤلاء تقدموا بأهميتهم عليه بسبب تراجع الأيديولوجيات في المجتمع وتغلب اليمين على اليسار ودخول الإسلاميين إلى حالة من الشعاراتية لم تساعد على أن يبرز لدينا مثقف بالمعنى العميق، المثقف الذي ينتج مشاريع فكرية متكاملة مثل ما قدم محمد عابد الجابري والطيب التيزيني وحسين حنفي وهؤلاء اليوم في حالة انقراض ولم يعوضوا بمثقفين جدد، المثقفين القادرين على ربط الأجزاء بالكليات...
أنا بطبعي لست ثورية ولا أحب المثقف المصطدم المنتقد المحبط والمكتئب، بل أؤمن بأن الإصلاح يمكن أن يؤدي إلى خطوات أعمق وأكثر تأثيراً، حيث التدرج في التطبيق سيوصلنا إلى الأفكار الكبرى، فالأهداف الكبرى لكي تصل إلى تجسيدها يجب أن تتدرج في الواقع وفي المؤسسات وفي العلاقات في الأفكار والرؤى، فالإصلاح جزء من مرحلة أساسية للبناء، فأنا اليوم أبحث عن دور لمثقف معاصر يتعاطى مع معطيات العصر وينغمس برؤية إصلاحية، وهذا ليس عيباً عليه بل ذكاء منه، فمراجعة الأفكار والتصالح مع ما هو على الأرض والبناء لمنهج إصلاحي سيوفر على الشعوب أزمات قد تمر فيها تفكك بناء الدولة والمجتمع.. .مما يقود إلى سؤالي بهل يمكن أن يكون هناك للمثقف موقف أكثر وعياً وأقل يسارية مما كان بالسابق؟
هناك المتعلم وهناك المثقف، والمثقف هو من لديه القدرة على ربط الأجزاء بالكليات وإحداث منظومة ليتخذ موقفا منطلقا من رؤية واضحة من قضية ما وعندما نجد عددا كبيرا من المتعلمين، وهذا مهم في مجتمع لقياس نسبة التقدم والحداثة في المجتمعات، ولكن عدد المثقفين ودورهم أهم... فالمثقف لا يمكن أن يكون مندمجاً تماماً في حركة ثابتة بل هو متجدد ومتغير وأداته الرئيسية هي القلم واللسان من كتب وصحف ومؤتمرات وله دور كبير في الحراك الاجتماعي والسياسي وتوجيه الأحداث سلباً أو إيجاباً...
قرامشي بتعريفه الواسع يقول إن الناس جميعاً مثقفون أو يمكن أن يكونوا مثقفين ولكن ليس كل شخص قادراً بأن يقوم بدور المثقف بالمجتمع، ومن هذا القول لقرامشي نستطيع أن نستشف بأن الثقافة أو المعرفة أو الوعي وحده لا يكفي، بل يجب أن يكون هناك دور وموقف... وأستكمل ذلك برأي المفكر إدوارد سعيد في كتابه صور «إن أسوأ ما يمكن أن يشوه صورة المثقف هو أن يرتبط موقف أو أن يتغير موقف المثقف وفقاً للحالة المحيطة». قرامشي تحدث عن المثقف (العضوي) الذي هو من أنبل أنواع المثقفين برأيي لأنه جزء منخرط بالمجتمع ولا يعيش في برج عاجي (المثقف النخبوي) خارج النزاعات والانحيازات والاستطفافات، ولكن لديه القدرة أن يكون على مسافة واحدة من السياسي والسلطة بلا تصادم... ولكن هل لنا أن نجاري هذا المثقف ونحتضنه بلا تخوين؟
المثقف ليس استشهادياً وليس بالضرورة انتحارياً.. هو إنسان ممكن أن يخاف.. ممكن أن يكمن.. وممكن أن يكون انتهازياً، فهل يحق للمثقف أن يكون واقعياً بعض الشيء من موقعه المستقل؟ المثقف الذي يرى أن خيارات معينة قد تقود بلاده إلى الكارثة هل له أن يقترح بدائل واقية بهذا المعنى، هل هذا الدور مستهجن عليه أم مطلوب بحالنا الذي نعيشه اليوم؟
كيف للمثقف أن يلعب دوراً في تدوير الزوايا الحادة في حالة الاستقطاب التي تعيشها المنطقة بين القوى السياسية والمذهبية والأيديولوجية والطائفية؟ فنحن بحاجة لدور مثقف أشبه بدور إطفاء الحرائق في المنطقة وليس متسبباً في إشعال المزيد منها، المطلوب من المثقف أن يبلور بدائل قابلة للتطبيق خارج البوتقات والحزبية والتذيل لأصحاب المال بأن يصبح بوقاً لهم، وبالمقابل بألا ينتحر ونترحّم عليه، فالبطولات ليست بالمواجهة بل بالمسايسة والتكتيك لبناء وطن وفق المعطيات وبعيداً عن الهاوية.
* كاتبة سعودية
WwaaffaaA@
بدأ تراجع دورالمثقف من الصف الأول إلى الأطراف، حيث تراجع دوره أمام السياسي والخبير ورجل الأمن والواعظ الديني والتقني والناشط المدني... كل هؤلاء تقدموا بأهميتهم عليه بسبب تراجع الأيديولوجيات في المجتمع وتغلب اليمين على اليسار ودخول الإسلاميين إلى حالة من الشعاراتية لم تساعد على أن يبرز لدينا مثقف بالمعنى العميق، المثقف الذي ينتج مشاريع فكرية متكاملة مثل ما قدم محمد عابد الجابري والطيب التيزيني وحسين حنفي وهؤلاء اليوم في حالة انقراض ولم يعوضوا بمثقفين جدد، المثقفين القادرين على ربط الأجزاء بالكليات...
أنا بطبعي لست ثورية ولا أحب المثقف المصطدم المنتقد المحبط والمكتئب، بل أؤمن بأن الإصلاح يمكن أن يؤدي إلى خطوات أعمق وأكثر تأثيراً، حيث التدرج في التطبيق سيوصلنا إلى الأفكار الكبرى، فالأهداف الكبرى لكي تصل إلى تجسيدها يجب أن تتدرج في الواقع وفي المؤسسات وفي العلاقات في الأفكار والرؤى، فالإصلاح جزء من مرحلة أساسية للبناء، فأنا اليوم أبحث عن دور لمثقف معاصر يتعاطى مع معطيات العصر وينغمس برؤية إصلاحية، وهذا ليس عيباً عليه بل ذكاء منه، فمراجعة الأفكار والتصالح مع ما هو على الأرض والبناء لمنهج إصلاحي سيوفر على الشعوب أزمات قد تمر فيها تفكك بناء الدولة والمجتمع.. .مما يقود إلى سؤالي بهل يمكن أن يكون هناك للمثقف موقف أكثر وعياً وأقل يسارية مما كان بالسابق؟
هناك المتعلم وهناك المثقف، والمثقف هو من لديه القدرة على ربط الأجزاء بالكليات وإحداث منظومة ليتخذ موقفا منطلقا من رؤية واضحة من قضية ما وعندما نجد عددا كبيرا من المتعلمين، وهذا مهم في مجتمع لقياس نسبة التقدم والحداثة في المجتمعات، ولكن عدد المثقفين ودورهم أهم... فالمثقف لا يمكن أن يكون مندمجاً تماماً في حركة ثابتة بل هو متجدد ومتغير وأداته الرئيسية هي القلم واللسان من كتب وصحف ومؤتمرات وله دور كبير في الحراك الاجتماعي والسياسي وتوجيه الأحداث سلباً أو إيجاباً...
قرامشي بتعريفه الواسع يقول إن الناس جميعاً مثقفون أو يمكن أن يكونوا مثقفين ولكن ليس كل شخص قادراً بأن يقوم بدور المثقف بالمجتمع، ومن هذا القول لقرامشي نستطيع أن نستشف بأن الثقافة أو المعرفة أو الوعي وحده لا يكفي، بل يجب أن يكون هناك دور وموقف... وأستكمل ذلك برأي المفكر إدوارد سعيد في كتابه صور «إن أسوأ ما يمكن أن يشوه صورة المثقف هو أن يرتبط موقف أو أن يتغير موقف المثقف وفقاً للحالة المحيطة». قرامشي تحدث عن المثقف (العضوي) الذي هو من أنبل أنواع المثقفين برأيي لأنه جزء منخرط بالمجتمع ولا يعيش في برج عاجي (المثقف النخبوي) خارج النزاعات والانحيازات والاستطفافات، ولكن لديه القدرة أن يكون على مسافة واحدة من السياسي والسلطة بلا تصادم... ولكن هل لنا أن نجاري هذا المثقف ونحتضنه بلا تخوين؟
المثقف ليس استشهادياً وليس بالضرورة انتحارياً.. هو إنسان ممكن أن يخاف.. ممكن أن يكمن.. وممكن أن يكون انتهازياً، فهل يحق للمثقف أن يكون واقعياً بعض الشيء من موقعه المستقل؟ المثقف الذي يرى أن خيارات معينة قد تقود بلاده إلى الكارثة هل له أن يقترح بدائل واقية بهذا المعنى، هل هذا الدور مستهجن عليه أم مطلوب بحالنا الذي نعيشه اليوم؟
كيف للمثقف أن يلعب دوراً في تدوير الزوايا الحادة في حالة الاستقطاب التي تعيشها المنطقة بين القوى السياسية والمذهبية والأيديولوجية والطائفية؟ فنحن بحاجة لدور مثقف أشبه بدور إطفاء الحرائق في المنطقة وليس متسبباً في إشعال المزيد منها، المطلوب من المثقف أن يبلور بدائل قابلة للتطبيق خارج البوتقات والحزبية والتذيل لأصحاب المال بأن يصبح بوقاً لهم، وبالمقابل بألا ينتحر ونترحّم عليه، فالبطولات ليست بالمواجهة بل بالمسايسة والتكتيك لبناء وطن وفق المعطيات وبعيداً عن الهاوية.
* كاتبة سعودية
WwaaffaaA@