عندما قال ولي العهد الأمير محمد بن سلمان، عراب الرؤية التنموية السعودية 2030، إنه يرى في مستقبل المنطقة «أوروبا جديدة»، لم يكن استشرافه حلماً طوبياً، فنحن الآن دخلنا فعلياً مرحلة «التحول الوطني» و«البدايات» العملية القوية تجاه تحقيق الرؤية، فخلال الأشهر القليلة الماضية حدثت نقلات كبيرة ومتسارعة في العديد من المسارات التنموية وعلى عدة أصعدة، من بينها التقدم في مسائل تمكين المرأة وتطوير القضاء والرقمنة والسياحة والترفيه ومكافحة الفساد وتقليص العمالة غير النظامية وإطلاق عدد كبير من المشاريع الاستثمارية الضخمة لتوليد آلاف الوظائف قريباً، لذا فإن المستجدات الإيجابية متسارعة وبلا توقف، ومن آخر هذه المستجدات التي أرى أنها ستضعنا على أعتاب مرحلة بناء نهضوي بالغ الأهمية، وهي ما أفصح عنه وزير التعليم الدكتور أحمد العيسى أخيرا حول تطوير جديد لمناهج المرحلة الثانوية خلال أيام يشمل مقرراً جديداً لـ «التفكير الناقد» والذي سيطبق مع بداية الفصل الدراسي الثاني لهذا العام.
إن الفكر والفلسفة النقدية أو النقد هو آلية لبناء مجتمع واع ومتحضر قادر أن يميز ما بين الخطأ والصواب ويقاطع المعتقدات المتخلفة، والنقد هو منهجية لتفحص تراثنا الذي ننتمي إليه عوضا عن التبعية وثقافة النقل والتلقين التي هي مصدر معرفتنا وثقافتنا اليوم، وهنا اخترت أن استحضر الفيلسوف الألماني هربرت ماركيوز الذي اعتبر أن هناك قوى خفية في المجتمعات تحاول فرض التفكير التقليدي بدلاً عن التفكير النقدي لتبقي الأوضاع القائمة كما هي لتكبح أي تغيير، لأن النقد الفكري دائماً يرسخ العقلانية ويعري الأفكار الزائفة ويطور المجتمعات، وهذا الطرح أكده أيضاً عالم الاجتماع ماركس هوركهايمر تحت مصطلح العقل التوتاليتاري والأحادي عند الدول والمجتمعات والذي يسحق الفكر النقدي وأفكار التغيير، وهو ما أثر بشكل سلبي على الوعي المجتمعي مع الوقت وتسبب في أن تسود الوصاية على عقل الإنسان والمجتمع وعليه تصبح الأفكار المجتمعية مجرد أفكار سطحية استهلاكية ولا تفكر في الرجوع إلى النقد أو الفعل الثقافي والفكري لتقييم شأن ما ومعالجته بواقعية.
إضافة إلى الاستشهاد بماركيوز وهوركهايمر، لا بد أن نذكر أنهما ينتميان إلى أهم مدرسة نقدية مرت في تاريخ الفكر الأوروبي وهي «مدرسة فرانكفورت» والتي كانت تسمى أيضاً بالنظرية النقدية وهي المدرسة التي تأسست عام 1923 بمعهد العلوم الاجتماعية بفرانكفورت في ألمانيا وضمت كوكبة من المفكرين بينهم ثيودور أدورنو ويورغن هابرماس وألبرخت ويلمر، وتناولت مختلف نماذج الوعي النظري والعلمي وسعت لجعل الفكر النقدي أساساً لإزالة أشكال الاستبداد والتسلط وإيقاظ الوعي الإنساني وانتشاله من التخلف والركود وحاولت أن تؤسس للعقل النقدي مقابل العقل الأداتي النمطي من خلال طرح الأسئلة المعرفية، وكانت المدرسة الوحيدة من نوعها في التاريخ الأوروبي التي اعتمدت على النظرية النقدية من أجل إيقاظ الوعي المجتمعي، كما يجب أن لا نغفل أن أسباب النهضة والازدهار في أوروبا لها جذور قوية في الماضي، فالمجتمعات الأوروبية وصلت لدرجة من الوعي والاقلاع الحضاري بسبب تراكم مجموعة من الأفكار النقدية، بداية من عصر سقراط وأفلاطون وأرسطو، وحين حاربت الكنيسة «أكاديمية أفلاطون» وأغلقتها عام 529 في عهد جستنيان الأول، ووضعت قبضتها على الفلسفة والتعليم والفكر، تراجع النقد والأفكار النقدية فدخلت أوروبا في عصور طويلة من الظلام والتخلف حتى جاء عصر النهضة بالأفكار العقلانية والنقدية من جديد وتزامن ذلك مع ظهور حركات الإصلاح الديني التي قادها مارتن لوثر وجون كالفن ومن بعدهم جان بودان وظلت الأفكار النقدية تتبلور مع كل فيلسوف ومفكر منذ ذلك الوقت حتى تطور المجتمع الأوروبي من خلال النقد الموضوعي الذي شمل مختلف مجالات الحياة.
كما أن جميع المدارس الفكرية التي تعاقبت في التاريخ الأوروبي منذ عصر النهضة قامت على النقد، عبر التجريبيين والعقلانيين وفلاسفة التنوير، بالإضافة إلى طروحات نيتشه وفرويد والتفكيكية والبنيوية والوجودية والماركسية التي كانت لها مدارس فكرية قدمت طروحات نقدية، كما تظل لإيمانويل كانط «فيلسوف التنوير» مكانته المثلى فهو الذي وضع أسس الاتجاه النقدي في الفلسفة الغربية ودافع عن الاستعمال العمومي للنقد في كل المجالات وجاء من ورائه هيغيل «الأب الروحي لكل الفلسفات الحديثة والمعاصرة» بمنهجيات النقد التي تعتمد على النفي والجدل كمنظور لنقد جميع المواضيع الإنسانية، معتبراً أن النقد والجدل أو «الديالكتيك» قوة من أجل التحول والتغيير.
وقد انعكس تطور النقد في الفلسفة والفكر الأوروبي في حركية مجتمعية وسياسية كبيرة انخرط فيها المثقفون والسياسيون بكل تأكيد، ولكن كان للطلاب والمجتمع المدني وأبناء الطبقة المتوسطة دور كبير جداً في نقل هذه الأفكار للواقع وبناء مجتمع نقدي متنور، وتجلى هذا الأمر في حجم الحراك التنويري الذي حدث في القرن الثامن عشر والثورة الفرنسية وحركة الطلبة في أواخر الستينات في فرنسا وأوروبا.
وفي عالمنا العربي كان التيار النقدي موجوداً بشكل قوي في بعض المراحل التاريخية ولكن المشكلة التي وقعت هي غياب حراك مجتمعي يواكب الأفكار النقدية التي ظهرت، كما تضافرت الأنظمة السياسية والقوى الدينية المحافظة على قمع النقد، وتاريخياً، بدأ النقد والعقلانية في التاريخ العربي الإسلامي عند «المعتزلة» في زمن الدولة العباسية، إذ اعتمدوا على العقل في تأسيس عقائدهم وقدموه على النقل والنص ودافعوا عن النقد واختلاف الرأي وكان لهم إسهام كبير في إصلاح المجتمع المسلم في مسألة حرية الفكر وترك المسألة السياسية بعيدة عن التوظيف الديني، وهذه الفرقة الكلامية حوربت بشكل كبير مثل ما تعرضت له أعمال ابن رشد النقدية للقمع وأحرقت كتبه واتهم بالكفر، وكذلك ابن تيمية الذي تعرضت طروحاته في السنوات الأخيرة للتشويه والتدليس، إلا أنه كان أحد العلماء المسلمين الذين خدموا النقد وسعى إلى تحرير الفكر الإسلامي من استبداد الخرافة، كما خدم ابن خلدون على تحرير الفكر الإسلامي من استبداد العنف المادي، ولا ننسى الأعمال النقدية الكبيرة للفارابي وابن سينا وفلاسفة آخرين.
وفي العقود الأخيرة، ظهر في عالمنا العربي المعاصر عدد من المفكرين والمثقفين الداعمين للفكر النقدي، من بينهم محمد عابد الجابري الذي عمل على نقد العقل العربي والتراث وتحليل النظام المعرفي، واعتبر بشفافية في «تكوين العقل العربي» أن السبب الرئيس في تأخرنا وتقدم أوروبا هو «استقالة» العقل عند العرب، في حين تقدم الأوروبيون عندما بدأ عقلهم في الاستيقاظ ومساءلة نفسه، ولا نغفل «ناقد طروحات الجابري»، جورج طرابيشي الذي قال إن العقل لا يكون عقلاً إلا إذا كان نقديا، وكذلك عبدالله العروي الذي اعتمد على النزعة النقدية في مشروع كتابه الأبرز «الأيدولوجيا العربية المعاصرة»، وإدوارد سعيد الذي كان من المؤثرين في النقد الحضاري والاستشراق، بالإضافة إلى أسماء أخرى عديدة.
وبالرغم من البدايات القديمة للنقد في تاريخ الفكر العربي عموماً إلا أن النظرية النقدية لا تزال لم تكتمل، ولا يزال واقعنا الراهن يعتمد على الموروث القديم من ناحية واللجوء إلى توريد الأفكار الجاهزة والثقافات الأجنبية من ناحية أخرى، وهنا تتجلى أهمية تدريس النقد والفكر النقدي لتفعيل وتوظيف ملكة العقل في تنقية الصالح من الموروث وفهم الواقع الذي نعيشه وبناء المستقبل، فالعقل هو الأداة التي لا غنى عنها في سبيل تحقيق التغيير المنشود تجاه التطور والتنمية المستدامة.. أو كما قال أنيس منصور: «العقل كالبارشوت، يجب أن ينفتح».
* كاتب سعودي
ktashkandi@okaz.com.sa
@khalid_tashkndi
إن الفكر والفلسفة النقدية أو النقد هو آلية لبناء مجتمع واع ومتحضر قادر أن يميز ما بين الخطأ والصواب ويقاطع المعتقدات المتخلفة، والنقد هو منهجية لتفحص تراثنا الذي ننتمي إليه عوضا عن التبعية وثقافة النقل والتلقين التي هي مصدر معرفتنا وثقافتنا اليوم، وهنا اخترت أن استحضر الفيلسوف الألماني هربرت ماركيوز الذي اعتبر أن هناك قوى خفية في المجتمعات تحاول فرض التفكير التقليدي بدلاً عن التفكير النقدي لتبقي الأوضاع القائمة كما هي لتكبح أي تغيير، لأن النقد الفكري دائماً يرسخ العقلانية ويعري الأفكار الزائفة ويطور المجتمعات، وهذا الطرح أكده أيضاً عالم الاجتماع ماركس هوركهايمر تحت مصطلح العقل التوتاليتاري والأحادي عند الدول والمجتمعات والذي يسحق الفكر النقدي وأفكار التغيير، وهو ما أثر بشكل سلبي على الوعي المجتمعي مع الوقت وتسبب في أن تسود الوصاية على عقل الإنسان والمجتمع وعليه تصبح الأفكار المجتمعية مجرد أفكار سطحية استهلاكية ولا تفكر في الرجوع إلى النقد أو الفعل الثقافي والفكري لتقييم شأن ما ومعالجته بواقعية.
إضافة إلى الاستشهاد بماركيوز وهوركهايمر، لا بد أن نذكر أنهما ينتميان إلى أهم مدرسة نقدية مرت في تاريخ الفكر الأوروبي وهي «مدرسة فرانكفورت» والتي كانت تسمى أيضاً بالنظرية النقدية وهي المدرسة التي تأسست عام 1923 بمعهد العلوم الاجتماعية بفرانكفورت في ألمانيا وضمت كوكبة من المفكرين بينهم ثيودور أدورنو ويورغن هابرماس وألبرخت ويلمر، وتناولت مختلف نماذج الوعي النظري والعلمي وسعت لجعل الفكر النقدي أساساً لإزالة أشكال الاستبداد والتسلط وإيقاظ الوعي الإنساني وانتشاله من التخلف والركود وحاولت أن تؤسس للعقل النقدي مقابل العقل الأداتي النمطي من خلال طرح الأسئلة المعرفية، وكانت المدرسة الوحيدة من نوعها في التاريخ الأوروبي التي اعتمدت على النظرية النقدية من أجل إيقاظ الوعي المجتمعي، كما يجب أن لا نغفل أن أسباب النهضة والازدهار في أوروبا لها جذور قوية في الماضي، فالمجتمعات الأوروبية وصلت لدرجة من الوعي والاقلاع الحضاري بسبب تراكم مجموعة من الأفكار النقدية، بداية من عصر سقراط وأفلاطون وأرسطو، وحين حاربت الكنيسة «أكاديمية أفلاطون» وأغلقتها عام 529 في عهد جستنيان الأول، ووضعت قبضتها على الفلسفة والتعليم والفكر، تراجع النقد والأفكار النقدية فدخلت أوروبا في عصور طويلة من الظلام والتخلف حتى جاء عصر النهضة بالأفكار العقلانية والنقدية من جديد وتزامن ذلك مع ظهور حركات الإصلاح الديني التي قادها مارتن لوثر وجون كالفن ومن بعدهم جان بودان وظلت الأفكار النقدية تتبلور مع كل فيلسوف ومفكر منذ ذلك الوقت حتى تطور المجتمع الأوروبي من خلال النقد الموضوعي الذي شمل مختلف مجالات الحياة.
كما أن جميع المدارس الفكرية التي تعاقبت في التاريخ الأوروبي منذ عصر النهضة قامت على النقد، عبر التجريبيين والعقلانيين وفلاسفة التنوير، بالإضافة إلى طروحات نيتشه وفرويد والتفكيكية والبنيوية والوجودية والماركسية التي كانت لها مدارس فكرية قدمت طروحات نقدية، كما تظل لإيمانويل كانط «فيلسوف التنوير» مكانته المثلى فهو الذي وضع أسس الاتجاه النقدي في الفلسفة الغربية ودافع عن الاستعمال العمومي للنقد في كل المجالات وجاء من ورائه هيغيل «الأب الروحي لكل الفلسفات الحديثة والمعاصرة» بمنهجيات النقد التي تعتمد على النفي والجدل كمنظور لنقد جميع المواضيع الإنسانية، معتبراً أن النقد والجدل أو «الديالكتيك» قوة من أجل التحول والتغيير.
وقد انعكس تطور النقد في الفلسفة والفكر الأوروبي في حركية مجتمعية وسياسية كبيرة انخرط فيها المثقفون والسياسيون بكل تأكيد، ولكن كان للطلاب والمجتمع المدني وأبناء الطبقة المتوسطة دور كبير جداً في نقل هذه الأفكار للواقع وبناء مجتمع نقدي متنور، وتجلى هذا الأمر في حجم الحراك التنويري الذي حدث في القرن الثامن عشر والثورة الفرنسية وحركة الطلبة في أواخر الستينات في فرنسا وأوروبا.
وفي عالمنا العربي كان التيار النقدي موجوداً بشكل قوي في بعض المراحل التاريخية ولكن المشكلة التي وقعت هي غياب حراك مجتمعي يواكب الأفكار النقدية التي ظهرت، كما تضافرت الأنظمة السياسية والقوى الدينية المحافظة على قمع النقد، وتاريخياً، بدأ النقد والعقلانية في التاريخ العربي الإسلامي عند «المعتزلة» في زمن الدولة العباسية، إذ اعتمدوا على العقل في تأسيس عقائدهم وقدموه على النقل والنص ودافعوا عن النقد واختلاف الرأي وكان لهم إسهام كبير في إصلاح المجتمع المسلم في مسألة حرية الفكر وترك المسألة السياسية بعيدة عن التوظيف الديني، وهذه الفرقة الكلامية حوربت بشكل كبير مثل ما تعرضت له أعمال ابن رشد النقدية للقمع وأحرقت كتبه واتهم بالكفر، وكذلك ابن تيمية الذي تعرضت طروحاته في السنوات الأخيرة للتشويه والتدليس، إلا أنه كان أحد العلماء المسلمين الذين خدموا النقد وسعى إلى تحرير الفكر الإسلامي من استبداد الخرافة، كما خدم ابن خلدون على تحرير الفكر الإسلامي من استبداد العنف المادي، ولا ننسى الأعمال النقدية الكبيرة للفارابي وابن سينا وفلاسفة آخرين.
وفي العقود الأخيرة، ظهر في عالمنا العربي المعاصر عدد من المفكرين والمثقفين الداعمين للفكر النقدي، من بينهم محمد عابد الجابري الذي عمل على نقد العقل العربي والتراث وتحليل النظام المعرفي، واعتبر بشفافية في «تكوين العقل العربي» أن السبب الرئيس في تأخرنا وتقدم أوروبا هو «استقالة» العقل عند العرب، في حين تقدم الأوروبيون عندما بدأ عقلهم في الاستيقاظ ومساءلة نفسه، ولا نغفل «ناقد طروحات الجابري»، جورج طرابيشي الذي قال إن العقل لا يكون عقلاً إلا إذا كان نقديا، وكذلك عبدالله العروي الذي اعتمد على النزعة النقدية في مشروع كتابه الأبرز «الأيدولوجيا العربية المعاصرة»، وإدوارد سعيد الذي كان من المؤثرين في النقد الحضاري والاستشراق، بالإضافة إلى أسماء أخرى عديدة.
وبالرغم من البدايات القديمة للنقد في تاريخ الفكر العربي عموماً إلا أن النظرية النقدية لا تزال لم تكتمل، ولا يزال واقعنا الراهن يعتمد على الموروث القديم من ناحية واللجوء إلى توريد الأفكار الجاهزة والثقافات الأجنبية من ناحية أخرى، وهنا تتجلى أهمية تدريس النقد والفكر النقدي لتفعيل وتوظيف ملكة العقل في تنقية الصالح من الموروث وفهم الواقع الذي نعيشه وبناء المستقبل، فالعقل هو الأداة التي لا غنى عنها في سبيل تحقيق التغيير المنشود تجاه التطور والتنمية المستدامة.. أو كما قال أنيس منصور: «العقل كالبارشوت، يجب أن ينفتح».
* كاتب سعودي
ktashkandi@okaz.com.sa
@khalid_tashkndi