لاشك في أن صعود الرئيس الأمريكي ترمب يمثل تحولا جوهريا في السياسة الأمريكية، وإن قام بوضع مقدمات هذه السياسة سلفه أوباما، عبر استراتيجية عدم إقحام الجيش الأمريكي في النزاعات المسلحة.
إلا أن شخصية الرئيس ترمب تكاد أو بالفعل مختلفة عن شخصيات جميع رؤساء الولايات المتحدة، كونه مثار جدل بين جميع الأوساط الاجتماعية والسياسية، داخل الولايات المتحدة وخارجها، كما أنه يعد الرئيس الأمريكي الأول الذي يحاول إضعاف سلطة الكونجرس عليه، بل يغرد حتى خارج سرب الحزب الذي أوصله إلى سدة الرئاسة الأمريكية، ذلك أنه يعول وبصورة مباشرة على حزب أصحاب رؤوس الأموال في دعم توجهاته.
فمع كثرة قراراته غير المتوقعة، إلا أن العالم قد يكون تفاجأ بقرار سحب الولايات المتحدة لقواتها المنتشرة على الأراضي السورية، والتي تقوم بدعم قوات سوريا الديمقراطية في حربها ضد تنظيم داعش، ولا أجد في هذا الموضوع أي عنصر مفاجأة، حيث سبق وأن تحدث الرئيس ترمب عن موضوع هذا الانسحاب في وقت سابق، كما أنه جزء من اﺗﻔﺎق ﻣﻨﺒﺞ اﻟﺴﻮرﻳﺔ، بين الولايات المتحدة وتركيا.
وإذا كان الانسحاب الأمريكي من العراق يعتبر الثاني بعد فيتنام، والذي تشابهت أسبابه بطريقة أو بأخرى مع الانسحاب الأول، لكن يبقى انسحاب الولايات المتحدة الثالث من سوريا مثار تساؤل وتكهنات.
فبعد الحقبة الأولى المتمثلة بالقرارات الاقتصادية والتدخلات العسكرية الدولية، مرورا بالحقبة الثانية القائمة على تفرد أمريكا بالقرارات العسكرية، دون الحاجة حتى إلى مظلة مجلس الأمن، يبدأ اليوم الرئيس ترمب بالحقبة الثالثة وهي جني الثمار أو الحقبة الاقتصادية، والتي سبق الحديث عنها في مقالة سابقة، حيث ستتجسد هذه الحقبة وبصورة واضحة في العقوبات الاقتصادية الأمريكية ضد طهران، وكيف ستخضع أغلب الدول إلى تطبيقها، حتى المعترضة منها، إقرارا بقوة الولايات المتحدة الاقتصادية عالميا.
وأينما ستختفي قوات أمريكية، معنى ذلك سيحل محلها شركات أمنية أمريكية، في خطوة لتحويل الإنفاق العسكري إلى استثمار والحصول على مكاسب مادية، ليبقى العمل الاستخباري هو الفعال على المستوى الحكومي، من خلال تلك الشركات.
وستنحصر مهمة القوات العسكرية الأمريكية بتقديم الدعم اللوجستي وتأمين الطرق الرئيسية، عبر الأقمار الصناعية وبالتنسيق مع المخابرات، التي سوف تعمل بمعية الشركات الأمنية، كما ذكرنا.
كما ستعمد الولايات المتحدة إلى إخلاء ساحة شرق سوريا عسكريا إلى تركيا، فهي لا تريد خسارة الأتراك لصالح الأكراد. فالقضية الكردية والحيلولة دون قيام دولة كردستانية، موضوع متفق عليه دوليا، ولا تجب حتى مناقشته. والغريب أن الأكراد ما زالوا يعولون على الولايات المتحدة في دعم قضيتهم، والتي تمت تسويتها منذ ما يقرب من المائة عام. فمنحهم الاستقلال، أما يعني ضمهم لتركيا، أو تشظي الأخيرة إلى دويلات، وهو موضوع لم يحن وقته بعد.
ويبدو أن الخوف من مسألة انسحاب القوات الأمريكية من سوريا، يكمن في أن هذا الانسحاب سوف يساهم في عودة تنظيم داعش لمحاربة قوات سوريا الديمقراطية من جهة، وكذلك يسمح بتمدد النفوذ الإيراني في مواجهة إسرائيل، من جهة أخرى.
إلا أن الموضوع لا هذا ولا ذاك، بل هو انسحاب مبني على استراتيجية جديدة تقوم على أساس سحب القوات الأمريكية من شرق سوريا إلى العراق، كي تقطع الطريق الرابط بين سوريا وإيران، بالتزامن مع العقوبات الاقتصادية ضد طهران، والتي سوف تكون كفيلة بتجفيف النفوذ الإيراني في سوريا والعراق معا، مما يعني أن العمل سوف يكون له جانبان، أحدهما لوجستي والآخر اقتصادي.
كما أن الوجود الأمريكي في العراق، سيكون أقرب إلى إيران وأكثر تأثيرا منه في سوريا، وبالتالي لا معنى لوجود قوات أمريكية بعيدة عن مصدر النفوذ الإيراني، الذي يعتبر العراق ساحته ومفتاح قوته في بلاد الشام. فإن كان هناك انسحاب أمريكي من سوريا، سوف يقابله عودة قوية إلى العراق، سواء عن طريق الاقتصاد أو العسكر.
يضاف إلى ذلك، السيطرة الكبيرة لسلاح الجو الروسي على أغلب مناطق سوريا، حيث وجدت واشنطن فيه عملية مكلفة في حال دخلت المنافسة مع هذه الهيمنة، والتي قد تضطر معها إلى طلب دعم الحلفاء، وهو أمر لا يرغب فيه ترمب، في ظل سياسته المستقلة عن حلفائه التاريخيين، ومحاولة تحجيمهم.
أما الأكراد، فكما هو معروف تاريخيا، دائما ما يتركون لدولهم المطالبين بالاستقلال عنها، تتكفل بهم وبقضيتهم. وعلى هذا الأساس، ستأخذ القوات التركية على عاتقها مسألة إنهاء الجماعات الكردية المسلحة، ويبقى للروس مهمة إنهاء الأطراف المسلحة الأخرى بمختلف توجهاتها، وهذه المواضيع ليست بذات أهمية لدى واشنطن. فما يهم الأخيرة في ذلك، هو أن لا تدخل في مواجهة عسكرية مع أحد على الأراضي السورية، وبنفس الوقت يتم توريط تركيا في سوريا، حيث ستستنزف قواتها في القتال هناك، وهي مسألة لم تقدم على فعلها الجيوش العربية، على الرغم من طلب الرئيس الأمريكي مشاركتها في العمليات الدائرة في سوريا، وذلك لمعرفة الدول العربية بنتائج مثل هكذا صراعات.
ومرة أخرى يسقط الأكراد في رهانهم السياسي والعسكري، وهي مشكلة سببها البعد عن الأحداث التاريخية الدولية، وما يرافقها من اتفاقيات ومصالح، فإن كنت سياسيا، ما عليك إلا سبر غور الأحداث المتسلسلة في المنطقة، لتعرف ماذا عليك فعله.
* ينشر هذا المقال بالتزامن مع «سبوتنيك عربي»
إلا أن شخصية الرئيس ترمب تكاد أو بالفعل مختلفة عن شخصيات جميع رؤساء الولايات المتحدة، كونه مثار جدل بين جميع الأوساط الاجتماعية والسياسية، داخل الولايات المتحدة وخارجها، كما أنه يعد الرئيس الأمريكي الأول الذي يحاول إضعاف سلطة الكونجرس عليه، بل يغرد حتى خارج سرب الحزب الذي أوصله إلى سدة الرئاسة الأمريكية، ذلك أنه يعول وبصورة مباشرة على حزب أصحاب رؤوس الأموال في دعم توجهاته.
فمع كثرة قراراته غير المتوقعة، إلا أن العالم قد يكون تفاجأ بقرار سحب الولايات المتحدة لقواتها المنتشرة على الأراضي السورية، والتي تقوم بدعم قوات سوريا الديمقراطية في حربها ضد تنظيم داعش، ولا أجد في هذا الموضوع أي عنصر مفاجأة، حيث سبق وأن تحدث الرئيس ترمب عن موضوع هذا الانسحاب في وقت سابق، كما أنه جزء من اﺗﻔﺎق ﻣﻨﺒﺞ اﻟﺴﻮرﻳﺔ، بين الولايات المتحدة وتركيا.
وإذا كان الانسحاب الأمريكي من العراق يعتبر الثاني بعد فيتنام، والذي تشابهت أسبابه بطريقة أو بأخرى مع الانسحاب الأول، لكن يبقى انسحاب الولايات المتحدة الثالث من سوريا مثار تساؤل وتكهنات.
فبعد الحقبة الأولى المتمثلة بالقرارات الاقتصادية والتدخلات العسكرية الدولية، مرورا بالحقبة الثانية القائمة على تفرد أمريكا بالقرارات العسكرية، دون الحاجة حتى إلى مظلة مجلس الأمن، يبدأ اليوم الرئيس ترمب بالحقبة الثالثة وهي جني الثمار أو الحقبة الاقتصادية، والتي سبق الحديث عنها في مقالة سابقة، حيث ستتجسد هذه الحقبة وبصورة واضحة في العقوبات الاقتصادية الأمريكية ضد طهران، وكيف ستخضع أغلب الدول إلى تطبيقها، حتى المعترضة منها، إقرارا بقوة الولايات المتحدة الاقتصادية عالميا.
وأينما ستختفي قوات أمريكية، معنى ذلك سيحل محلها شركات أمنية أمريكية، في خطوة لتحويل الإنفاق العسكري إلى استثمار والحصول على مكاسب مادية، ليبقى العمل الاستخباري هو الفعال على المستوى الحكومي، من خلال تلك الشركات.
وستنحصر مهمة القوات العسكرية الأمريكية بتقديم الدعم اللوجستي وتأمين الطرق الرئيسية، عبر الأقمار الصناعية وبالتنسيق مع المخابرات، التي سوف تعمل بمعية الشركات الأمنية، كما ذكرنا.
كما ستعمد الولايات المتحدة إلى إخلاء ساحة شرق سوريا عسكريا إلى تركيا، فهي لا تريد خسارة الأتراك لصالح الأكراد. فالقضية الكردية والحيلولة دون قيام دولة كردستانية، موضوع متفق عليه دوليا، ولا تجب حتى مناقشته. والغريب أن الأكراد ما زالوا يعولون على الولايات المتحدة في دعم قضيتهم، والتي تمت تسويتها منذ ما يقرب من المائة عام. فمنحهم الاستقلال، أما يعني ضمهم لتركيا، أو تشظي الأخيرة إلى دويلات، وهو موضوع لم يحن وقته بعد.
ويبدو أن الخوف من مسألة انسحاب القوات الأمريكية من سوريا، يكمن في أن هذا الانسحاب سوف يساهم في عودة تنظيم داعش لمحاربة قوات سوريا الديمقراطية من جهة، وكذلك يسمح بتمدد النفوذ الإيراني في مواجهة إسرائيل، من جهة أخرى.
إلا أن الموضوع لا هذا ولا ذاك، بل هو انسحاب مبني على استراتيجية جديدة تقوم على أساس سحب القوات الأمريكية من شرق سوريا إلى العراق، كي تقطع الطريق الرابط بين سوريا وإيران، بالتزامن مع العقوبات الاقتصادية ضد طهران، والتي سوف تكون كفيلة بتجفيف النفوذ الإيراني في سوريا والعراق معا، مما يعني أن العمل سوف يكون له جانبان، أحدهما لوجستي والآخر اقتصادي.
كما أن الوجود الأمريكي في العراق، سيكون أقرب إلى إيران وأكثر تأثيرا منه في سوريا، وبالتالي لا معنى لوجود قوات أمريكية بعيدة عن مصدر النفوذ الإيراني، الذي يعتبر العراق ساحته ومفتاح قوته في بلاد الشام. فإن كان هناك انسحاب أمريكي من سوريا، سوف يقابله عودة قوية إلى العراق، سواء عن طريق الاقتصاد أو العسكر.
يضاف إلى ذلك، السيطرة الكبيرة لسلاح الجو الروسي على أغلب مناطق سوريا، حيث وجدت واشنطن فيه عملية مكلفة في حال دخلت المنافسة مع هذه الهيمنة، والتي قد تضطر معها إلى طلب دعم الحلفاء، وهو أمر لا يرغب فيه ترمب، في ظل سياسته المستقلة عن حلفائه التاريخيين، ومحاولة تحجيمهم.
أما الأكراد، فكما هو معروف تاريخيا، دائما ما يتركون لدولهم المطالبين بالاستقلال عنها، تتكفل بهم وبقضيتهم. وعلى هذا الأساس، ستأخذ القوات التركية على عاتقها مسألة إنهاء الجماعات الكردية المسلحة، ويبقى للروس مهمة إنهاء الأطراف المسلحة الأخرى بمختلف توجهاتها، وهذه المواضيع ليست بذات أهمية لدى واشنطن. فما يهم الأخيرة في ذلك، هو أن لا تدخل في مواجهة عسكرية مع أحد على الأراضي السورية، وبنفس الوقت يتم توريط تركيا في سوريا، حيث ستستنزف قواتها في القتال هناك، وهي مسألة لم تقدم على فعلها الجيوش العربية، على الرغم من طلب الرئيس الأمريكي مشاركتها في العمليات الدائرة في سوريا، وذلك لمعرفة الدول العربية بنتائج مثل هكذا صراعات.
ومرة أخرى يسقط الأكراد في رهانهم السياسي والعسكري، وهي مشكلة سببها البعد عن الأحداث التاريخية الدولية، وما يرافقها من اتفاقيات ومصالح، فإن كنت سياسيا، ما عليك إلا سبر غور الأحداث المتسلسلة في المنطقة، لتعرف ماذا عليك فعله.
* ينشر هذا المقال بالتزامن مع «سبوتنيك عربي»