أهداني صديق عزيز كتاباً بعنوان (رسائل عظماء الملوك في الشرق الأدنى القديم). تأليف تريفور برايس، وترجمة رفعت السيد علي، وهو كتاب يستمد مادته من المراسلات الملكية في العصر البرونزي المتأخر بين ملوك الشرق الأدنى القديم ومصر.
أوضح المؤلف في مقدمته المقصود بمنطقة الشرق الأدنى، لأن دلالاته غير دقيقة، فذكر أن هذا المصطلح يُطلق على المنطقة الجغرافية التي تضم دولاً كثيرة تمتد من تركيا في الغرب حتى العراق في الشرق، وجنوباً من سوريا والأردن إلى فلسطين، حتى التخوم الشرقية لشبه جزيرة سيناء.
وحدد أن ما يُطلق عليه العصر البرونزي المتأخر، يمتد من بداية القرن السابع عشر قبل الميلاد إلى بدايات القرن الثاني عشر قبل الميلاد، أي أن هذه الفترة تغطي خمسمائة عام.
وقد أشار المؤلف إلى سبب اعتماده على الرسائل المكتوبة على الألواح الطينية في تأريخ المنطقة ومعرفة السمات الشخصية لملوكها، فذكر أنها تكشف لنا جوانب لم تكن لتظهر من خلال وثائقهم الأخرى أو تماثيلهم ونصبهم التذكارية. ولأن هذه الرسائل تمكننا من إعادة رؤية المرحلة كما عاشها أصحابها.
إن توثيق الأحداث من خلال المراسلات يكون بعيداً عن الأهواء والمواقف السياسية ويعطي صورة أقرب للحقيقة من خلال الرسائل المتبادلة بين الملوك، التي تعكس وجهة نظر كل طرف في رسالته للطرف الآخر، خاصة إذا علمنا أن من عادات تلك الفترة أن يكتب المُرسل أولاً ما وصله من الطرف الثاني ثم يقوم بالرد عليه.
من أهم النتائج السياسية التي استخلصها المؤلف، هي صعوبة السيطرة الدائمة على هذه المناطق الواسعة. والحقيقة إن ما وصل إليه الكاتب من استنتاج يصدق وينطبق على عصرنا الحديث، فرغم كل ما يوفره ويقدمه هذا العصر من وسائل الاتصالات وترسانات الأسلحة، فإن من الصعب على أي قوة عظمى السيطرة الدائمة على أية منطقة من مناطق الشرق الأدنى شديد التعقيد.
ولهذا فقد شدني وأذهلني التطابق العجيب بين الأحداث التاريخية التي وقعت في ذلك الزمن البعيد وبين ما يحدث في عالمنا الحديث، وهو ما يجب أن نتأمل فيه، ونأخذ منه الدرس والعبرة؛ فقد سقط كثير من الإمبراطوريات نتيجة رغبتها في التوسع وضم الممالك الأخرى إلى مملكتها، كما نشاهده اليوم من أطماع تركيا وإيران التوسعية.
كما توقفت معجباً من عدم اشتغال القسيطيين بالحروب التوسعية كغيرهم من الدول في ذلك العصر، وكذلك أمام ما حققه القسيطيون من إنجازات باهرة؛ فقد كان القسيطيون مهاجرين استقروا في جنوب ما بين النهرين، وكان أول ظهور لهم على مسرح الأحداث أثناء حكم حمورابي. وعلى الرغم من أنهم بدو رعاة، فقد نجحوا في السيطرة والهيمنة على إمبراطورية متقدمة لآماد زمنية طويلة؛ ووصلوا لبابل مرة أخرى بعد انهيار سلالة حمورابي إلى مركز إحدى القوى الدولية العظمى في العصر البرونزي المتأخر.
وكانت أهم إنجازاتهم في المجال الثقافي والفكري والمعرفي، لأنهم لم يكتفوا بالمحافظة على فكر وثقافة حمورابي وسلالته، بل تعدوها وأضافوا إليها وأصبح لهم إنجازاتهم الخاصة الثقافية والفكرية والمعرفية؛ ولهذا انتعشت الفنون والعلوم والآداب تحت حكمهم، وأصبحت اللغة الأكادية لغة المعاملات بين الممالك، ولغة المراسلات الدبلوماسية بينها. كما أصبحت الممالك الأخرى تسعى إلى بابل للتعلم منها والاستعانة بأهل الاختصاص والمهارات في الطب والنحت والحكمة والتنبؤ والنقش والكتابة والخطوط.
لقد ابتعد القسيطيون عن العدوان والأطماع التوسعية، واهتموا بالتنمية والعلوم والتجارة والبناء والتشييد، فحققوا الاستقرار والأمن والأمان، وحافظوا لقرون طويلة على مملكتهم. والعبرة المستفادة منذ ذلك أن التنمية والازدهار، وانتعاش الفنون والعلوم والآدب، هي الطريق للاستقرار والتطور والنجاح على كافة الأصعدة وفي كل النواحي.
*مستشار قانوني
@osamayamani
yamani.osama@gmail.com
أوضح المؤلف في مقدمته المقصود بمنطقة الشرق الأدنى، لأن دلالاته غير دقيقة، فذكر أن هذا المصطلح يُطلق على المنطقة الجغرافية التي تضم دولاً كثيرة تمتد من تركيا في الغرب حتى العراق في الشرق، وجنوباً من سوريا والأردن إلى فلسطين، حتى التخوم الشرقية لشبه جزيرة سيناء.
وحدد أن ما يُطلق عليه العصر البرونزي المتأخر، يمتد من بداية القرن السابع عشر قبل الميلاد إلى بدايات القرن الثاني عشر قبل الميلاد، أي أن هذه الفترة تغطي خمسمائة عام.
وقد أشار المؤلف إلى سبب اعتماده على الرسائل المكتوبة على الألواح الطينية في تأريخ المنطقة ومعرفة السمات الشخصية لملوكها، فذكر أنها تكشف لنا جوانب لم تكن لتظهر من خلال وثائقهم الأخرى أو تماثيلهم ونصبهم التذكارية. ولأن هذه الرسائل تمكننا من إعادة رؤية المرحلة كما عاشها أصحابها.
إن توثيق الأحداث من خلال المراسلات يكون بعيداً عن الأهواء والمواقف السياسية ويعطي صورة أقرب للحقيقة من خلال الرسائل المتبادلة بين الملوك، التي تعكس وجهة نظر كل طرف في رسالته للطرف الآخر، خاصة إذا علمنا أن من عادات تلك الفترة أن يكتب المُرسل أولاً ما وصله من الطرف الثاني ثم يقوم بالرد عليه.
من أهم النتائج السياسية التي استخلصها المؤلف، هي صعوبة السيطرة الدائمة على هذه المناطق الواسعة. والحقيقة إن ما وصل إليه الكاتب من استنتاج يصدق وينطبق على عصرنا الحديث، فرغم كل ما يوفره ويقدمه هذا العصر من وسائل الاتصالات وترسانات الأسلحة، فإن من الصعب على أي قوة عظمى السيطرة الدائمة على أية منطقة من مناطق الشرق الأدنى شديد التعقيد.
ولهذا فقد شدني وأذهلني التطابق العجيب بين الأحداث التاريخية التي وقعت في ذلك الزمن البعيد وبين ما يحدث في عالمنا الحديث، وهو ما يجب أن نتأمل فيه، ونأخذ منه الدرس والعبرة؛ فقد سقط كثير من الإمبراطوريات نتيجة رغبتها في التوسع وضم الممالك الأخرى إلى مملكتها، كما نشاهده اليوم من أطماع تركيا وإيران التوسعية.
كما توقفت معجباً من عدم اشتغال القسيطيين بالحروب التوسعية كغيرهم من الدول في ذلك العصر، وكذلك أمام ما حققه القسيطيون من إنجازات باهرة؛ فقد كان القسيطيون مهاجرين استقروا في جنوب ما بين النهرين، وكان أول ظهور لهم على مسرح الأحداث أثناء حكم حمورابي. وعلى الرغم من أنهم بدو رعاة، فقد نجحوا في السيطرة والهيمنة على إمبراطورية متقدمة لآماد زمنية طويلة؛ ووصلوا لبابل مرة أخرى بعد انهيار سلالة حمورابي إلى مركز إحدى القوى الدولية العظمى في العصر البرونزي المتأخر.
وكانت أهم إنجازاتهم في المجال الثقافي والفكري والمعرفي، لأنهم لم يكتفوا بالمحافظة على فكر وثقافة حمورابي وسلالته، بل تعدوها وأضافوا إليها وأصبح لهم إنجازاتهم الخاصة الثقافية والفكرية والمعرفية؛ ولهذا انتعشت الفنون والعلوم والآداب تحت حكمهم، وأصبحت اللغة الأكادية لغة المعاملات بين الممالك، ولغة المراسلات الدبلوماسية بينها. كما أصبحت الممالك الأخرى تسعى إلى بابل للتعلم منها والاستعانة بأهل الاختصاص والمهارات في الطب والنحت والحكمة والتنبؤ والنقش والكتابة والخطوط.
لقد ابتعد القسيطيون عن العدوان والأطماع التوسعية، واهتموا بالتنمية والعلوم والتجارة والبناء والتشييد، فحققوا الاستقرار والأمن والأمان، وحافظوا لقرون طويلة على مملكتهم. والعبرة المستفادة منذ ذلك أن التنمية والازدهار، وانتعاش الفنون والعلوم والآدب، هي الطريق للاستقرار والتطور والنجاح على كافة الأصعدة وفي كل النواحي.
*مستشار قانوني
@osamayamani
yamani.osama@gmail.com