-A +A
محمد مفتي
بعد مقالي السابق «فتاة تايلند» لم أرغب كثيراً في الكتابة مرة أخرى عن هذه القضية، لم أرد الاستطراد كثيراً في تتبع تلك القصة المشبوهة لأسباب عديدة ومتنوعة، غير أن الحفاوة التي حظيت وقوبلت بها الفتاة من كندا طرحت العديد من علامات الاستفهام، وأثارت الريبة والدهشة والتساؤل حول القصة الحقيقية لهذه الفتاة ومن يقف خلفها، مما دفعني لإعادة تناول هذه القضية مرة أخرى محاولاً لفت الانتباه للعديد من الأبعاد التي تكتنف هذا الأمر.

خلال تصفحي لبعض مواقع التواصل الاجتماعي كالفيس بوك وتويتر وإنستجرام وغيرها، وجدت أن الكثير من المراهقين، بل أغلبهم بالفعل مشتركون في تلك المواقع، وهم يتفاعلون مع المحتوى الذي يبث من خلالها بالكثير من الحماس والاهتمام، فهم يتفاعلون مع كل ما يقرأون ويطبقون كل ما يشيع في تلك المواقع، ونظراً لغياب دور الإشراف والمراقبة المفترض على هؤلاء الشباب صغار السن في تلك المرحلة العمرية الحرجة والحساسة، نجد أن المحتوى المطروح في تلك المنصات والمواقع الإعلامية غالباً ما يكون له أثر مدمر على حياتهم الحالية، بل والمستقبلية أيضاً.


وبخلاف ذلك فإنه على ما يبدو أن هناك جهات معينة مشبوهة تقودها جهات خارجية وتشرف عليها، تبحث في حسابات هؤلاء الشباب من المراهقين والمراهقات، وتبدأ في استدراجهم على نحو ممنهج ومخطط ومدروس، تبدأ أولاً في صورة عقد صداقات بريئة معهم حتى تتوثق عرى الصداقة وتتعمق بين الطرفين، ثم يبدأ تلقين هؤلاء المراهقين مفاهيم مغلوطة عن الحرية الشخصية والدينية وخلافه بعد التقاطهم لأول خيط من خيوط المصيدة، ويوماً بعد يوم تتوطد العلاقات حتى تتشبع الضحية بتلك المفاهيم المسمومة وتشعر باقتناعها التام بمدى صحتها، وبعد فترة طالت أم قصرت يتم بعدها تدبير أمر هروبها من أسرتها وتيسير سفرها لخارج البلاد.

يمثل المراهقون صيدا ثميناً يتم اصطياده لمهاجمة دول بعينها، وما إن يتم اصطيادهم حتى تتحول قضيتهم الفردية لقضية اجتماعية تخص المجتمع برمته، وتدريجياً تتسع الدائرة حتى تتحول القضية لقضية سياسية ثم سيادية، تتيح لبعض الدول التدخل في شؤون الدول الأخرى الداخلية، وتخول لها حق إملاء شروطها ومعاييرها الخاصة على تلك المجتمعات، ضاربة بعرض الحائط القيم الخاصة والمثل والعادات والتقاليد السائدة بتلك الدول، وهنا تتضح لنا تماماً أبعاد القضية التي قد يعتقد البعض أنها مجرد قضية فردية خاصة تتعلق بفتاة سعودية واحدة هربت من أهلها لأسباب خاصة تتعلق بها وحدها.

من المؤكد أن اصطياد الشباب في دول مثل المملكة يعد صيداً ثميناً مستهدفاً لجماعات منظمة تقف وراءها دول مشبوهة، وقد تستغرق عملية استدراجهم أياماً بل أسابيع وشهوراً، غير أن جسامة الغنم ومدى أهميته يمنح تلك الجماعات صبراً وطول بال ملموسا، فالتغلغل في تلك المجتمعات المحافظة والمستقرة وتفكيكها أمر يستحق -من وجهة نظرهم- العناء وبذل الجهد، ورهف لم تكن البداية، غير أننا على يقين من أنها ليست النهاية بالتأكيد، ويبدو أن كندا للأسف تقف خلف مخطط مدروس يهدف إلى النيل من المملكة ومن رموزها، وتقوم باستغلال مثل هذه القضايا لدعم توجهها، هذا إن لم تكن بالأساس هي المحرك لها.

وفي خضم تلك المؤامرة الواضحة متكاملة الأركان يدهشني بالفعل تضارب الآراء حيال الدور المتوقع من الدولة تجاه هذه القضية، ففي ظن الكثيرين جهلاً أو عمداً أن قضية الفتاة مجرد قضية عائلية لا دور سياسي ولا بعد أمني فيها، وبالتالي فيفترض من -وجهة نظرهم- ألا تتدخل الدولة بأي صورة، متجاهلين أن دور الدولة شامل ومتكامل ويتضمن كل ما يخص الدولة والمواطنين معاً على كافة الأصعدة، وفي اعتقادي أنه لو مست هذه القضية أحد الأطراف التي انتقدت تدخل الدولة لوجدناهم أول من يقوم -بل ويتوسل- لكي تتدخل الدولة لبذل كل ما يمكن لإعادة ابنتهم إليهم.

ما قامت به الدولة من جهد مشكور لاحتواء الأزمة وقصر نتائجها المأساوية بقدر الإمكان يعد نموذجاً يحتذى به في مجال إدارة الأزمات، غير أن العبء الحقيقي في طريقة تناول هذه النوعية من المشكلات وأشباهها ينصب فعلياً على المؤسسات الإعلامية والمنابر التوعوية التي من المفترض أن يبرز دورها في توجيه الشباب وتحصينهم ضد هذه الأفكار المتطرفة، وهنا يبرز بشدة دور الوقاية والتربية السليمة في مواجهة طوفان هجمات مواقع التواصل الاجتماعي الغثة، قبل حدوث المشكلات من أساسها وتضييع الوقت لاحقاً في البحث عن حلول لها بعد فوات الأوان.

* كاتب سعودي