-A +A
طارق فدعق
هو أحد مشتقات البترول، وكان من أكثر أنواع الوقود انتشارا في العالم مع مطلع القرن العشرين، وسبحان الله أنه دخل حياة الناس اليومية بسرعة عجيبة، ثم بدا عليه وكأنه اختفى بسرعة عجيبة أيضا. ولكن هذه المقولة غير دقيقة، فالعديد من البشر لا زالوا يعتمدون على الجاز في حياتهم اليوم، وكل يوم للإضاءة والتدفئة. وهناك بعض الاستخدامات غير المتوقعة لهذا الوقود العجيب... أكتب هذا المقال أثناء جلوسي فوق حوالى مائة وستين ألف لتر من الجاز، ما يكفي لتعبئة خزانات ألف وسبعمائة سيارة «لاند كروزر». والتفاصيل حيال هذه المعلومة الغريبة بعد حوالى 246 كلمة من هذه النقطة. وإليكم بعض الخلفيات العجيبة لموضع الجاز بشكل عام: كان ولا يزال إيجاد مصادر للطاقة من التحديات الأساسية للحضارات المختلفة. وتاريخيا، كان موضوع الحصول على الوقود الملائم للإضاءة والتدفئة من الصعوبات الجوهرية للبشر. ولفترة طويلة كانت الزيوت النباتية هي المهيمنة على مصادر الطاقة للإضاءة، وتحديدا كان زيت الزيتون هو سيد الساحة في عالم الإضاءة المنزلية والبلدية. ولكن لا يخفى على الجميع أن بالرغم من مزاياه الكثيرة.... توفره، ونظافة احتراقه، وسلامة حفظه ونقله، كان يعاني ذلك المصدر من ارتفاع قيمته، فهو أغلى وأثمن من أن يستخدم للحرق اليومي للإضاءة المنزلية. واستمر الوضع لفترات تاريخية طويلة إلى أن اكتشف العالم المسلم «أبو بكر الرازي» آلية التقطير للزيوت الطبيعية الخارجة من الأرض، ومنها المواد الزيتية التي من الممكن أن تستخدم كبدائل لزيت الزيتون. وتخيلوا أن هذا العالم المسلم العبقري اكتشف ذلك عام 250 هجرية، ولكن التقنيات الصناعية آنذاك لم تسمح باستغلال تلك الزيوت إلى مطلع القرن العشرين عندما تم إعادة اكتشاف مزايا منتجات البترول وتصنيعه بتكلفة معقولة. ومن أروع تلك المنتجات هي «الجاز»، اكتسح ساحة تزويد البشر بالطاقة، ولم يكن ذلك للإضاءة فحسب، بل وللطبخ أيضا. ومن أهم التقنيات التي استخدمته كانت «الدافور» الرائع، والفوانيس بأشكالها وأنواعها المختلفة. وتم استخدامه للتبريد أيضا، فكان الكثير من الثلاجات أيام زمان تستخدم هذا الوقود. وإحدى مميزاته الرائعة هي تكلفته المنخفضة، وكمية الطاقة الرهيبة المخزنة بداخله، فهي تفوق جميع ما تجده في الزيوت من المصادر النباتية أو الحيوانية. وكمثال، فلنقارن كمية الطاقة في كيلوجرام من الحلاوة الطحينية بكمية الطاقة في نفس الوزن من الجاز، سنجد أن الجاز يحتوي على حوالى عشرة أمثال الطاقة في الحلاوة. وهذه ميزة كبيرة لطائرتنا البوينج 777 التي تحتاج تلك للطاقة المكثفة لتنطلق إلى سرعة حوالى 900 كيلومتر في الساعة ولتطير على ارتفاع يفوق العشرة كيلومترات، علما بأن وزنها يفوق الربع مليون كيلوجرام، وطبعا لا أدعي أنه يمكننا تحويل الحلاوة الطحينية إلى وقود للبوينج، ولكن المثال لمقارنة «كثافة» الطاقة الكامنة في الجاز. أضف إلى ذلك أيضا سهولة حمل تلك الكميات الهائلة منه في خزانات الطائرة كونه في حالة سائلة تيسر بمشيئة الله نقله وتخزينه بيسر مما يجعله الوقود الاستثنائي للطائرات، وللصواريخ أيضا. وأخيرا فإحدى مميزاته أيضا هي هدوءه النسبي فهو لا يشتعل بسرعة وعصبية مثل البنزين مما يضيف ميزة السلامة إلى خصائصه. ولا يتجمد إلا على درجة حرارة منخفضة جدا مما يجعله مناسبا لوقود الطائرات لأن بيئة عملها تتطلب تحمل درجات حرارة منخفضة للغاية تصل إلى ما هو دون ستين درجة تحت الصفر.

أمنيـــة


تركت إحدى خصائص الجاز المميزة إلى نهاية المقال وهي رائحته الشديدة المميزة الطاردة. وأحد الأمثلة الرائعة في الحجاز هي أن «يشمم أحدهم الجاز» ومعناها «التطفيش» في أقوى أدواره. والغريب أن هناك ما هو أقوى منه في الروائح الطاردة ومنها المواد الكبريتية، والنشادر، ولكن ربما كانت شهرة الجاز أوسع نطاقا بسبب انتشاره ومعرفة الناس بتلك الرائحة. والأسبوع الماضي تعرضت شخصيا لتجربة شم الجاز بقوة، وكانت تجربة مؤلمة وشديدة التأثير، فكتبت هذا المقال. أتمنى أن يقينا الله شرور الجاز بأشكاله وأنواعه المختلفة.

وهو من وراء القصد.

* كاتب سعودي