نحاول في هذا المقال إكمال الإجابة على تساؤل هام، هو: لماذا تسعى بعض الدول، وخاصة النامية، لامتلاك سلاح نووي؟! وللإجابة على هذا التساؤل، نلخص سعي كوريا الشمالية لامتلاك سلاح نووي، كنموذج لدولة من العالم النامي تحاول أن تصبح قوة نووية مرهوبة. هناك ثلاثة «دوافع» (أسباب) رئيسة تدفع أي دولة لامتلاك هذا السلاح، هي: الدافع الأمني – السياسي، الدافع الاقتصادي، الدافع المعنوي – النفسي. وبعد تطبيق هذا المدخل على كوريا الشمالية، رأينا أن كل هذه الدوافع تنطبق على حراكها المعروف لامتلاك إمكانات نووية معتبرة، وحيازة السلاح النووي.
ويعود اهتمام كوريا الشمالية بالطاقة النووية، بشقها العسكري، إلى عام 1955م، عندما قررت حكومتها سراً امتلاك هذه الأسلحة، كسلاح رادع، تجاه التهديدات الأمريكية المتصاعدة في ذلك الحين. وسرعان ما اكتشفت الاستخبارات الأمريكية النشاط النووي الكوري الشمالي، العسكري أصلا، وبدأت في ممارسة ضغوط مكثفة على كوريا الشمالية لثنيها عن مسعاها هذا، أثمرت عن انضمام الأخيرة إلى معاهدة حظر انتشار الأسلحة النووية (NPT) عام 1992م، مع رفض التوقيع على اتفاقية إجراءات الحماية مع الوكالة الدولية للطاقة الذرية. وفي العام التالي، أعلنت كوريا الشمالية عزمها على الانسحاب من معاهدة حظر الانتشار النووي، ثم تراجعت عن الانسحاب، تحت ضغوط أمريكية شديدة.
ولكنها نفذت تهديدها، وانسحبت في العام 1993م. وشرعت في العمل على تطوير قدراتها النووية، غير مبالية بتهديدات أمريكا. وبادرت أمريكا بعقد اتفاق، سنة 1994م، وافقت كوريا الشمالية بمقتضاه على العودة لمعاهدة حظر انتشار الأسلحة النووية وتجميد برنامجها النووي، وخاصة في مجال تخصيب اليورانيوم. ولكن نشبت أزمة حادة بين الجانبين، في الفترة 2003 – 2007م، أدت إلى قيام ما عرف بـ «المحادثات السداسية»، التي ضمت، إضافة إلى كوريا الشمالية وأمريكا، كلا من كوريا الجنوبية واليابان والصين وروسيا، وهدفت للوصول لاتفاق يضمن نزع السلاح النووي من شبه الجزيرة الكورية التي تمثل منطقة استراتيجية هامة لكل القوى الدولية المعاصرة. وفى هذه المحادثات كان مطلب كوريا الشمالية هو أن تعترف أمريكا بسيادتها، وتوقع معاهدة عدم اعتداء معها، تتعهَّد بموجبها بعدم مهاجمة كوريا الشمالية. وذلك مقابل التخلي عن برنامجها النووي.
***
استمرت المفاوضات والمباحثات السداسية خمس سنوات، وأسفرت عن التوصل، في نهاية عام 2007م، إلى إبرام اتفاق بين أمريكا وكوريا الشمالية، تتخلى فيه الأخيرة عن برنامجها النووي العسكري، مقابل الاعتراف الدبلوماسي بها، وحصولها على مساعدات اقتصادية. ولكن كوريا الشمالية تخلَّت عن هذا الاتفاق، وأوقفت في عام 2008م، تفكيك منشآتها النووية، ردًا على ما اعتبرته «مماطلة» الولايات المتحدة وحلفائها في الإيفاء بتعهداتهم، وعدم التزامهم بما تعهدوا به، وخاصة في قضية إزالة اسمها من قائمة الدول الراعية للإرهاب. وأعلنت، يوم 13/3/2009، الانسحاب من هذه المحادثات. ثم قامت بطرد مفتشي الوكالة الدولية للطاقة الذرية الذين كانوا على أراضيها. وكرد فعل على إدانة مجلس الأمن حينئذ لعملية إطلاقها صاروخا باليستيا، استأنفت نشاطها النووي في مفاعل«يونغبيون» وبكثافة غير مسبوقة. ثم مضت في سعيها لامتلاك هذا السلاح. ونجحت بفضل ما لديها من علماء وتقنيين نوويين متميزين.
لقد ركزت كوريا الشمالية على القوة العسكرية، فأصبحت بالفعل أحد أكبر القوى العسكرية في العالم. واتجهت لتطوير سلاح نووي... فأمست لديها ترسانة نووية ضاربة منذ العام 2009م. ومن أهم ما تمتلكه كوريا الشمالية عسكريا الآن: 1.2 مليون جندي (و5.5 مليون قوات احتياطية)، 5025 دبابة، 4100 عربة قتالية، حوالى 2500 صاروخ باليستى، 1030 طائرة مقاتلة واعتراضية، 76 غواصة حربية صغيرة، 25 كاسحة ألغام، 11 فرقاطة. هذا، إضافة إلى حوالى 30 رأسا نوويا.
وما زال اقتصاد كوريا الشمالية يعانى من ضعف وتدهور خطيرين، بسبب سياساتها الاقتصادية وضعف مواردها، والمقاطعة الاقتصادية المفروضة عليها، والتي أسهمت في عزلتها وإفقارها. كما أن استمرار توجهها الشيوعي، ومطالبتها بكوريا الجنوبية، أدى إلى عدائها الشديد مع الولايات المتحدة، وحلفائها، وخاصة كوريا الجنوبية واليابان. وما زالت، رسميا، في حالة حرب مع كوريا الجنوبية. ولكنها تحتفظ بعلاقات صداقة وثيقة مع الصين، حليفتها الرئيسة، وجارتها في الشمال.
***
ولعل أبرز ما يهم حكومة كوريا الشمالية هو: ضمان بقاء نظامها السياسي الديكتاتوري، خاصة في ظل هذا الاتجاه العالمي والمد الدولي المؤكد على الديمقراطية، والرافض للديكتاتورية، والذى أسفر عن انهيار الأنظمة الشمولية المستبدة، وإقامة نظم تمثيلية مكانها. وتعتقد هذه الحكومة أن امتلاكها للسلاح النووي سيحقق لها المنعة، والحماية، ضد التهديدات الداخلية والخارجية الكبيرة التي تواجهها. فبعد انهيار المعسكر الشرقي وزوال الاتحاد السوفييتي سنة 1991م، بقيت هناك عدة دول«شيوعية» التوجه الاقتصادي – السياسي... تتبع الفكر الاشتراكي المتطرف، ويحكمها نظام الحزب الواحد («الشيوعي») أبرزها الآن: الصين، كوريا الشمالية، فيتنام، كوبا. وهذه الدول ما زالت تدار من قبل نظام الحزب الشيوعي (الواحد) في كل منها، رغم وجود مطالب محلية ودولية متزايدة في أغلبها، تطالب بالانفتاح، وبضرورة السماح بوجود أحزاب أخرى... تتنافس – مع الحزب الشيوعي – للحصول على قدر من «السلطة»، يحدده الناخبون في البلاد المعنية. ومعروف أن هناك تيارا قوميا كوريا يسعى لإعادة توحيد الكوريتين، ويتواجد أنصاره في كل أرجاء شبه الجزيرة الكورية. ويغلب الاتجاه الديمقراطى على هذا التيار.
***
ومعروف أنه لا يمكن لأى جهة أن تحصل على أسلحة نووية بالشراء من الغير، أو سرقتها، أو الحصول عليها كـ «هدية» من الغير. الطريق الوحيد – تقريبا – للحصول على هذا السلاح هو إنتاجه محليا، وغالبا عبر استغلال منشآت نووية أقيمت للاستخدام السلمى للطاقة النووية. وليس أمام الدول التي تريد حيازة هذا النوع من الأسلحة إلا الطريق الأخير. فإن توفرت في أي دولة «دوافع» امتلاك السلاح النووي، بقوة كافية، فإنها قد تسير في هذا الطريق. ولكن عليها عندئذ أن تواجه معارضة أمريكية ودولية هائلة، قد تحيل حلمها هذا إلى كابوس... تتصدع من جبروته وقسوته الجبال. ونادرا ما تنجح أي دولة في التغلب على هذه المعارضة، وتجاوز هذا الكابوس، كما فعلت كوريا الشمالية، ولكن بدفع ثمن باهظ.
* كاتب سعودي
ويعود اهتمام كوريا الشمالية بالطاقة النووية، بشقها العسكري، إلى عام 1955م، عندما قررت حكومتها سراً امتلاك هذه الأسلحة، كسلاح رادع، تجاه التهديدات الأمريكية المتصاعدة في ذلك الحين. وسرعان ما اكتشفت الاستخبارات الأمريكية النشاط النووي الكوري الشمالي، العسكري أصلا، وبدأت في ممارسة ضغوط مكثفة على كوريا الشمالية لثنيها عن مسعاها هذا، أثمرت عن انضمام الأخيرة إلى معاهدة حظر انتشار الأسلحة النووية (NPT) عام 1992م، مع رفض التوقيع على اتفاقية إجراءات الحماية مع الوكالة الدولية للطاقة الذرية. وفي العام التالي، أعلنت كوريا الشمالية عزمها على الانسحاب من معاهدة حظر الانتشار النووي، ثم تراجعت عن الانسحاب، تحت ضغوط أمريكية شديدة.
ولكنها نفذت تهديدها، وانسحبت في العام 1993م. وشرعت في العمل على تطوير قدراتها النووية، غير مبالية بتهديدات أمريكا. وبادرت أمريكا بعقد اتفاق، سنة 1994م، وافقت كوريا الشمالية بمقتضاه على العودة لمعاهدة حظر انتشار الأسلحة النووية وتجميد برنامجها النووي، وخاصة في مجال تخصيب اليورانيوم. ولكن نشبت أزمة حادة بين الجانبين، في الفترة 2003 – 2007م، أدت إلى قيام ما عرف بـ «المحادثات السداسية»، التي ضمت، إضافة إلى كوريا الشمالية وأمريكا، كلا من كوريا الجنوبية واليابان والصين وروسيا، وهدفت للوصول لاتفاق يضمن نزع السلاح النووي من شبه الجزيرة الكورية التي تمثل منطقة استراتيجية هامة لكل القوى الدولية المعاصرة. وفى هذه المحادثات كان مطلب كوريا الشمالية هو أن تعترف أمريكا بسيادتها، وتوقع معاهدة عدم اعتداء معها، تتعهَّد بموجبها بعدم مهاجمة كوريا الشمالية. وذلك مقابل التخلي عن برنامجها النووي.
***
استمرت المفاوضات والمباحثات السداسية خمس سنوات، وأسفرت عن التوصل، في نهاية عام 2007م، إلى إبرام اتفاق بين أمريكا وكوريا الشمالية، تتخلى فيه الأخيرة عن برنامجها النووي العسكري، مقابل الاعتراف الدبلوماسي بها، وحصولها على مساعدات اقتصادية. ولكن كوريا الشمالية تخلَّت عن هذا الاتفاق، وأوقفت في عام 2008م، تفكيك منشآتها النووية، ردًا على ما اعتبرته «مماطلة» الولايات المتحدة وحلفائها في الإيفاء بتعهداتهم، وعدم التزامهم بما تعهدوا به، وخاصة في قضية إزالة اسمها من قائمة الدول الراعية للإرهاب. وأعلنت، يوم 13/3/2009، الانسحاب من هذه المحادثات. ثم قامت بطرد مفتشي الوكالة الدولية للطاقة الذرية الذين كانوا على أراضيها. وكرد فعل على إدانة مجلس الأمن حينئذ لعملية إطلاقها صاروخا باليستيا، استأنفت نشاطها النووي في مفاعل«يونغبيون» وبكثافة غير مسبوقة. ثم مضت في سعيها لامتلاك هذا السلاح. ونجحت بفضل ما لديها من علماء وتقنيين نوويين متميزين.
لقد ركزت كوريا الشمالية على القوة العسكرية، فأصبحت بالفعل أحد أكبر القوى العسكرية في العالم. واتجهت لتطوير سلاح نووي... فأمست لديها ترسانة نووية ضاربة منذ العام 2009م. ومن أهم ما تمتلكه كوريا الشمالية عسكريا الآن: 1.2 مليون جندي (و5.5 مليون قوات احتياطية)، 5025 دبابة، 4100 عربة قتالية، حوالى 2500 صاروخ باليستى، 1030 طائرة مقاتلة واعتراضية، 76 غواصة حربية صغيرة، 25 كاسحة ألغام، 11 فرقاطة. هذا، إضافة إلى حوالى 30 رأسا نوويا.
وما زال اقتصاد كوريا الشمالية يعانى من ضعف وتدهور خطيرين، بسبب سياساتها الاقتصادية وضعف مواردها، والمقاطعة الاقتصادية المفروضة عليها، والتي أسهمت في عزلتها وإفقارها. كما أن استمرار توجهها الشيوعي، ومطالبتها بكوريا الجنوبية، أدى إلى عدائها الشديد مع الولايات المتحدة، وحلفائها، وخاصة كوريا الجنوبية واليابان. وما زالت، رسميا، في حالة حرب مع كوريا الجنوبية. ولكنها تحتفظ بعلاقات صداقة وثيقة مع الصين، حليفتها الرئيسة، وجارتها في الشمال.
***
ولعل أبرز ما يهم حكومة كوريا الشمالية هو: ضمان بقاء نظامها السياسي الديكتاتوري، خاصة في ظل هذا الاتجاه العالمي والمد الدولي المؤكد على الديمقراطية، والرافض للديكتاتورية، والذى أسفر عن انهيار الأنظمة الشمولية المستبدة، وإقامة نظم تمثيلية مكانها. وتعتقد هذه الحكومة أن امتلاكها للسلاح النووي سيحقق لها المنعة، والحماية، ضد التهديدات الداخلية والخارجية الكبيرة التي تواجهها. فبعد انهيار المعسكر الشرقي وزوال الاتحاد السوفييتي سنة 1991م، بقيت هناك عدة دول«شيوعية» التوجه الاقتصادي – السياسي... تتبع الفكر الاشتراكي المتطرف، ويحكمها نظام الحزب الواحد («الشيوعي») أبرزها الآن: الصين، كوريا الشمالية، فيتنام، كوبا. وهذه الدول ما زالت تدار من قبل نظام الحزب الشيوعي (الواحد) في كل منها، رغم وجود مطالب محلية ودولية متزايدة في أغلبها، تطالب بالانفتاح، وبضرورة السماح بوجود أحزاب أخرى... تتنافس – مع الحزب الشيوعي – للحصول على قدر من «السلطة»، يحدده الناخبون في البلاد المعنية. ومعروف أن هناك تيارا قوميا كوريا يسعى لإعادة توحيد الكوريتين، ويتواجد أنصاره في كل أرجاء شبه الجزيرة الكورية. ويغلب الاتجاه الديمقراطى على هذا التيار.
***
ومعروف أنه لا يمكن لأى جهة أن تحصل على أسلحة نووية بالشراء من الغير، أو سرقتها، أو الحصول عليها كـ «هدية» من الغير. الطريق الوحيد – تقريبا – للحصول على هذا السلاح هو إنتاجه محليا، وغالبا عبر استغلال منشآت نووية أقيمت للاستخدام السلمى للطاقة النووية. وليس أمام الدول التي تريد حيازة هذا النوع من الأسلحة إلا الطريق الأخير. فإن توفرت في أي دولة «دوافع» امتلاك السلاح النووي، بقوة كافية، فإنها قد تسير في هذا الطريق. ولكن عليها عندئذ أن تواجه معارضة أمريكية ودولية هائلة، قد تحيل حلمها هذا إلى كابوس... تتصدع من جبروته وقسوته الجبال. ونادرا ما تنجح أي دولة في التغلب على هذه المعارضة، وتجاوز هذا الكابوس، كما فعلت كوريا الشمالية، ولكن بدفع ثمن باهظ.
* كاتب سعودي