الأمم قد تُهزم في المعارك، وأحياناً تكون الهزيمة ساحقة، في معارك فاصلة. لكن الهزيمة الحقيقية تكمن في فقدان إرادة المقاومة والرضا بذل الهزيمة العسكرية، بدعوى الواقعيّة... بل وحتى الدعوة إلى «الاستمتاع» بذل الهزيمة.. و«العيش» في حالة استسلام، لم يكن العدو يتوقعها، حتى في أكثر أحلامه جموحاً ووحشية.
الشعوب الحرة والحضارات العريقة، قد تواجه في لحظة ما من تاريخها كوارث قاسية، قد تصل لدرجة تهديد كينونة وجودها المادية والحضارية. مع ذلك: لا يمثل هذا الوضع هزيمة حقيقية لها، ولا نصراً مؤزراً لعدوها. التاريخ مليء بملاحم، شكلت منعطفات حادة في مسيرة التاريخ، إلا أنها في النهاية لم تكن على حساب إذلال الشعوب.. ولا المساومة على الحق، ولا توقف مسيرة الحضارة الإنسانية التقدمية.
كما أن التاريخ يقول لنا: إن المحطات الرئيسية في حركة التاريخ لا تحدثها القوى الغاشمة.. ولا يتبناها أقوام حقيرة، من سقط متاع التاريخ.. أو حتى أممٌ، فرضت واقع هيمنتها على العالم، على أسس قيمٍ عنصريةٍ وأساطيرَ دينيةٍ متطرفة. الإمبراطورية اليونانية سقطت برحيل الإسكندر الأكبر. مثل المصير أصاب الاجتياح المغولي للعالم المتحضر. بريطانيا العُظمى فرضت تفسيرها للسلام (Pax Britannica)، لمائة عام (١٨١٥-١٩١٤)، وانتهى بها الأمر لتصبح حبيسة لـ«شوفينية» قومية، فرضتها عليها عزلتها الجغرافية، بعدما يقرب من نصف قرن من عضويتها في الاتحاد الأوروبي.
قد لا نتجاوز الحقيقة.. ولا نتجنى على التاريخ، إذا ما زعمنا: أنه لم يحدث في تاريخ الحضارة الإنسانية المكتوب، أن تواصلت أمةٌ من الأمم مواكبة لحركة التاريخ، مثل ما حققته الأمة العربية الإسلامية. هذه الأمة العظيمة فرضت وجودها على حركة التاريخ، بمعارك فاصلة.. وبقيم إنسانية رفيعة راسخة، تركت بصماتها الغائرة في ضمير ووجدان الإنسانية، ولم تُهزم قط، في معركة فاصلة.. ليتواصَلَ دورها الإيجابي في تاريخ الإنسانية.
بعد كل هذا الإنجاز الحضاري الكبير، الذي حدد مسار حركة التاريخ، في النصف الأخير من تاريخ البشرية المعروف والمكتوب، يأتي ممن هم محسوبون على هذه الأمة العظيمة ليفرضوا عليها «وقوعية» مذلة، لأحقر أمة عرفتها الإنسانية، لم تحقق قط، بصورة جماعية، تطوراً إيجابياً في حركة التاريخ، بل كانت معولاً للهدم والفتن وعدم الاستقرار.. ولم تكن قط، قادرة على العيش بسلام بين المجتمعات التي احتضنتها، وأبداً تشكل مسألة إنسانية وحضارية وثقافية، في مسيرة حركة التاريخ.
هناك من «المثقفين» العرب من يدعو جهاراً، وبلا حياء، أن نتنازل عن أرضنا، بدعوى عدم القدرة على استردادها. فات هؤلاء أن القدس وأكناف زهرة المدائن وبهية المساكن، وحاضرة الأمويين بالشام، خضعت لحملات صليبية متكررة، آخرها استمرت لتسعة عقود (١٠٩٩- ١١٨٧)، إلى أن طُهرت من دنسهم، على يد العرب المسلمين بقيادة الناصر صلاح الدين. طوال ما يقرب من 100 عام لم يصب اليأس الأمة.. ولم تخضع لواقع الاحتلال الصليبي، الذي حوّل باحات المسجد الأقصى إلى إسطبلات لخيله.. وصَفّى جسدياً وثقافياً ودينياً الوجود العربي في أرض الرسالات.
ثم إن هذه «الواقعية» التي يتشدقون بها هذه الأيام، ربما يفرضها منطق الدولة، إلا أنها مرفوضة من ضمير الأمة. وعندما لا يلتقي منطق الدولة مع ضمير الأمة وإرادتها فإن هذا يعكس خللا في بناء وشرعية الدولة، لا في وجدان الأمة وإرادتها. كثيرٌ على هذه الأمة.. وتجنٍّ فاحشٍ على تاريخها، أن يُفرض استسلامٌ مذلٌ عليها، من قوة إقليمية لا تنتمي أصلاً إلى المنطقة، ولا تمتلك من القوة الذاتية ما تمكنها من فرض واقعٍ مصطنعٍ لا يمتلك من مقومات القوة الحقيقية، ما يكفل وجوده، دعك من هيمنته على المنطقة.
بميزان القوة المادية، إسرائيل بحرب ١٩٦٧ وصلت إلى أقصى حدود إستراتيجيتها التوسعية في الأرض العربية. من حينها وواقع احتلالها في حالة جزر متتالٍ. لقد تخلت عن سيناء.. وخرجت، بعد 20 سنة، مُذلَّة من لبنان.. وقبلت مرغمة على رفرفة العلم الفلسطيني في الأراضي المحتلة من فلسطين.. وأُرغمت على خروجٍ مذلٍ من قطاع غزة، ولم تتمكن من إطفاء جذوة المقاومة، في ضمير وإرادة مليون ونصف إنسان، رغم الحصار الجائر.. ورغم الحملات العسكرية، التي استمر بعضها لعشرات الأيام. إسرائيل لم تستطع إخضاع قطاع غزة لغطرسة قوتها العسكرية، في أقسى صور الهزائم المنكرة، لما يتردد عن قوة الردع، التي تمتلكها الدولة العبرية.
إن ما يتشدق به البعض من «حكمة» تبصر فارق ميزان القوة بين العرب وإسرائيل، زاعمين أن العرب ليس لديهم إلا الصراخ والعويل لمواجهة «واقعٍ» تفرضه قوة لا قِبَل لهم بها، إنما هم يدعون إلى هزيمةٍ مذلةٍ لقومهم بدون قتال. إنهم يروّجون لـ «نصرٍ» رخيصٍ لقومٍ مغتصبين عنصريين مهووسين دينياً بأساطير شيطانية، يدفعهم ومن يدعمهم، كرهٌ متأصلٌ للسلام.
الواقعية الحقيقية هي في تبصر حركة التاريخ وتتبع خطى مسيرتها الخيرة، ليسود السلام أرض الرسالات والعالم. أما الترويج لهزيمةٍ رخيصةٍ لا يستطع دفع تكلفتها ولا يقبل بها، حتى العدو نفسه، فإنها وقوعية مُذلّة، لها تبعات وجودية، على مصير هذه الأمة العظيمة برسالتها الخالدة.
* كاتب سعودي
talalbannan@icloud.com
الشعوب الحرة والحضارات العريقة، قد تواجه في لحظة ما من تاريخها كوارث قاسية، قد تصل لدرجة تهديد كينونة وجودها المادية والحضارية. مع ذلك: لا يمثل هذا الوضع هزيمة حقيقية لها، ولا نصراً مؤزراً لعدوها. التاريخ مليء بملاحم، شكلت منعطفات حادة في مسيرة التاريخ، إلا أنها في النهاية لم تكن على حساب إذلال الشعوب.. ولا المساومة على الحق، ولا توقف مسيرة الحضارة الإنسانية التقدمية.
كما أن التاريخ يقول لنا: إن المحطات الرئيسية في حركة التاريخ لا تحدثها القوى الغاشمة.. ولا يتبناها أقوام حقيرة، من سقط متاع التاريخ.. أو حتى أممٌ، فرضت واقع هيمنتها على العالم، على أسس قيمٍ عنصريةٍ وأساطيرَ دينيةٍ متطرفة. الإمبراطورية اليونانية سقطت برحيل الإسكندر الأكبر. مثل المصير أصاب الاجتياح المغولي للعالم المتحضر. بريطانيا العُظمى فرضت تفسيرها للسلام (Pax Britannica)، لمائة عام (١٨١٥-١٩١٤)، وانتهى بها الأمر لتصبح حبيسة لـ«شوفينية» قومية، فرضتها عليها عزلتها الجغرافية، بعدما يقرب من نصف قرن من عضويتها في الاتحاد الأوروبي.
قد لا نتجاوز الحقيقة.. ولا نتجنى على التاريخ، إذا ما زعمنا: أنه لم يحدث في تاريخ الحضارة الإنسانية المكتوب، أن تواصلت أمةٌ من الأمم مواكبة لحركة التاريخ، مثل ما حققته الأمة العربية الإسلامية. هذه الأمة العظيمة فرضت وجودها على حركة التاريخ، بمعارك فاصلة.. وبقيم إنسانية رفيعة راسخة، تركت بصماتها الغائرة في ضمير ووجدان الإنسانية، ولم تُهزم قط، في معركة فاصلة.. ليتواصَلَ دورها الإيجابي في تاريخ الإنسانية.
بعد كل هذا الإنجاز الحضاري الكبير، الذي حدد مسار حركة التاريخ، في النصف الأخير من تاريخ البشرية المعروف والمكتوب، يأتي ممن هم محسوبون على هذه الأمة العظيمة ليفرضوا عليها «وقوعية» مذلة، لأحقر أمة عرفتها الإنسانية، لم تحقق قط، بصورة جماعية، تطوراً إيجابياً في حركة التاريخ، بل كانت معولاً للهدم والفتن وعدم الاستقرار.. ولم تكن قط، قادرة على العيش بسلام بين المجتمعات التي احتضنتها، وأبداً تشكل مسألة إنسانية وحضارية وثقافية، في مسيرة حركة التاريخ.
هناك من «المثقفين» العرب من يدعو جهاراً، وبلا حياء، أن نتنازل عن أرضنا، بدعوى عدم القدرة على استردادها. فات هؤلاء أن القدس وأكناف زهرة المدائن وبهية المساكن، وحاضرة الأمويين بالشام، خضعت لحملات صليبية متكررة، آخرها استمرت لتسعة عقود (١٠٩٩- ١١٨٧)، إلى أن طُهرت من دنسهم، على يد العرب المسلمين بقيادة الناصر صلاح الدين. طوال ما يقرب من 100 عام لم يصب اليأس الأمة.. ولم تخضع لواقع الاحتلال الصليبي، الذي حوّل باحات المسجد الأقصى إلى إسطبلات لخيله.. وصَفّى جسدياً وثقافياً ودينياً الوجود العربي في أرض الرسالات.
ثم إن هذه «الواقعية» التي يتشدقون بها هذه الأيام، ربما يفرضها منطق الدولة، إلا أنها مرفوضة من ضمير الأمة. وعندما لا يلتقي منطق الدولة مع ضمير الأمة وإرادتها فإن هذا يعكس خللا في بناء وشرعية الدولة، لا في وجدان الأمة وإرادتها. كثيرٌ على هذه الأمة.. وتجنٍّ فاحشٍ على تاريخها، أن يُفرض استسلامٌ مذلٌ عليها، من قوة إقليمية لا تنتمي أصلاً إلى المنطقة، ولا تمتلك من القوة الذاتية ما تمكنها من فرض واقعٍ مصطنعٍ لا يمتلك من مقومات القوة الحقيقية، ما يكفل وجوده، دعك من هيمنته على المنطقة.
بميزان القوة المادية، إسرائيل بحرب ١٩٦٧ وصلت إلى أقصى حدود إستراتيجيتها التوسعية في الأرض العربية. من حينها وواقع احتلالها في حالة جزر متتالٍ. لقد تخلت عن سيناء.. وخرجت، بعد 20 سنة، مُذلَّة من لبنان.. وقبلت مرغمة على رفرفة العلم الفلسطيني في الأراضي المحتلة من فلسطين.. وأُرغمت على خروجٍ مذلٍ من قطاع غزة، ولم تتمكن من إطفاء جذوة المقاومة، في ضمير وإرادة مليون ونصف إنسان، رغم الحصار الجائر.. ورغم الحملات العسكرية، التي استمر بعضها لعشرات الأيام. إسرائيل لم تستطع إخضاع قطاع غزة لغطرسة قوتها العسكرية، في أقسى صور الهزائم المنكرة، لما يتردد عن قوة الردع، التي تمتلكها الدولة العبرية.
إن ما يتشدق به البعض من «حكمة» تبصر فارق ميزان القوة بين العرب وإسرائيل، زاعمين أن العرب ليس لديهم إلا الصراخ والعويل لمواجهة «واقعٍ» تفرضه قوة لا قِبَل لهم بها، إنما هم يدعون إلى هزيمةٍ مذلةٍ لقومهم بدون قتال. إنهم يروّجون لـ «نصرٍ» رخيصٍ لقومٍ مغتصبين عنصريين مهووسين دينياً بأساطير شيطانية، يدفعهم ومن يدعمهم، كرهٌ متأصلٌ للسلام.
الواقعية الحقيقية هي في تبصر حركة التاريخ وتتبع خطى مسيرتها الخيرة، ليسود السلام أرض الرسالات والعالم. أما الترويج لهزيمةٍ رخيصةٍ لا يستطع دفع تكلفتها ولا يقبل بها، حتى العدو نفسه، فإنها وقوعية مُذلّة، لها تبعات وجودية، على مصير هذه الأمة العظيمة برسالتها الخالدة.
* كاتب سعودي
talalbannan@icloud.com