-A +A
محمد سالم سرور الصبان
إن كان هنالك مفاوضون أصعب من البريطانيين دوليا، فإن مفوضية الاتحاد الأوروبي قد نجحت خلال الأشهر الماضية ومنذ بدء التفاوض على خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، في عدم التنازل عن شيء، في محاولة أوروبية للإبقاء على وحدة الاتحاد حتى ولو كانت ظاهرية.

المفوضية الأوروبية تعرف تماما أن المملكة المتحدة هي في الموقف الأضعف، وذكرتها من اليوم الأول للمفاوضات، أنه لايمكن لبريطانيا أن تختار ما تشاء وتترك ما تشاء (PICK AND CHOOSE) وأن عليها ألا تتوقع حصولها على الكثير مقابل خروجها الطوعي من الاتحاد.


ولو لخصنا مبررات الاتحاد الأوروبي تجاه «البريكست»، نجد التالي:

أولا: هو يعرف أن الحكومة البريطانية مصرة على الخروج وفق مقتضيات الاستفتاء والذي أيد الخروج، وأنه لايمكن التراجع عن ذلك، مما يعني أنها ستخرج من الاتحاد الأوروبي في نهاية المطاف وبأي ثمن كان.

ثانيا: نقطة الضعف هذه صاحب تشدد المعارضين لها في الداخل البريطاني من خلال مجلس العموم، والذين وضعوا رأس رئيسة الوزراء تريزا ماي في حبل المشنقة منذ الجلسة الأولى حول هذا الموضوع. فأصبحت «بنت الناس» بين حبلي مشنقة بريطاني وأوروبي. وكانت خلال المفاوضات جميعها تتنقل بين هذا الحبل وذاك في محاولة للفكاك منهما جميعا مهما كان الثمن.

ثالثا: لقد كان الصراخ البريطاني - البريطاني محزنا، يثير الشفقة، وكان بعض من نعتبرهم كبار الاستشاريين الدوليين يطالبون البريطانيين بإيقاف هذه المفاوضات، والخروج فورا من هذه المعركة الخاسرة وهو ما لم يتم.

وكانت مفوضية الاتحاد الأوروبي تتابع ما يجري في مجلس العموم عبر النقل التلفزيوني المباشر، مهللة وسعيدة مع ازدياد صعوبة مهمة رئيسة الوزراء البريطانية، ويستفيدون من هذه المتابعة في بلورة سقف أعلى في جولاتهم التفاوضية التالية.

رابعا: رغبة الاتحاد الأوروبي في عدم خروج بريطانيا كانت واضحة -ليس حبا في عيون الإنجليز الزرقاء- بل لأن خروجها يعني فتح الباب أمام الآخرين ممن تراودهم فكرة الخروج على غرار المملكة المتحدة، خاصة في ظل تسيد الاتجاه «الشعبوي واليميني المتطرف» لدى الكثير من الدول الأوروبية. وقد ذكر ذلك أكثر من رئيس أوروبي بأن خروج المملكة المتحدة يعني انتهاء الاتحاد تدريجيا.

واحتفظ الاتحاد الأوروبي بهدوئه خلال المفاوضات الماضية لامتلاكه لجميع الأوراق التفاوضية، بل واتجه إلى السيطرة على وسائل التواصل الاجتماعي لتغيير آراء البريطانيين، ودفعهم إلى معارضة الخروج بأي ثمن، بل أكثر من ذلك بدفعهم إلى المطالبة بإجراء استفتاء ثان بحجة أنه قد تم تضليلهم في الاستفتاء الأول.

وبالطبع فقد كان حزب العمال المعارض المدافع الأول لهذا الرأي الأوروبي، «لغرض في نفس يعقوب»، بل وذهبوا إلى أبعد من ذلك بأن استعاد مجلس العموم السيطرة على هذا الملف، ودفع الآخرين لمطالبة رئيسة الوزراء بالاستقالة.

خامسا: كانت المفوضية الأوروبية من الدهاء السياسي بحيث اتهم رئيس المجلس الأوروبي جان كلود يونكر بريطانيا بأنها «أبو الهول» وأنه لو قارنها به لكان أبو الهول أكثر وضوحا وسهولة. وبهذا التصريح كان يحاول أن يزيح أي لوم على الاتحاد الأوروبي، وأن الإنجليز هم السبب فيما جرى من عراقيل خلال التفاوض.

سادسا: لقد دفع الاتحاد الأوروبي بمفاوضات «البريكست» إلى الساحة الخلفية لبريطانيا، وبقي يلعب دور المتفرج على «المصارعة الإنجليزية»، حتى إذا ما انتهت جولة وجاء المفاوضون الإنجليز إلى بروكسل، كانوا متعبين منهكين، يتوسلون حصول أي تقدم من قبل الجانب الأوروبي الذي يهون أمام مطالبات مجلس العموم البريطاني.

ولاحظنا الإنهاك على ملامح السيدة تيريزا ماي وهي تنافح ولا تحقق خروجا من «عنق الزجاجة». بل وفقدت صوتها في بعض جولات التفاوض الداخلي ومع الأوروبيين.

والسؤال المطروح هل تستفيد الدول النامية من مثل هذه الدروس في التفاوض الدولي؟ فهي دروس قد لا يتكرر تقديمها علانية وبأوراق شبه مكشوفة مثل ما حدث مع مفاوضات «البريكست». فلا زال كثير من مفاوضينا ومن خلال التجربة الشخصية لأكثر من ربع قرن، يعتبرون أن الاجتماعات الدولية تحت مظلة الأمم المتحدة أو غيرها، إنما هي فرصة للاستجمام والراحة من عناء العمل محليا، بل الأسوأ أن بعض المفاوضين غير ملم بالموقف التفاوضي ومصالح بلده، وماهية الخطوط الحمراء، ومساحة التفاوض والمناورة الممكنة.

وأذكر مواقف عديدة لمفاوضي الدول النامية الذين يخلدون إلى النوم فوق قاعات الاجتماعات، أو يغادرونها قبل غروب الشمس، بالرغم من معرفتهم بوجود مفاوضات مسائية قد تستغرق إلى صباح اليوم الثاني، متحججين إلى أنهم قد أعطوا أكثر من الدوام الرسمي في بلدانهم - ما يغطي بدل الانتداب - وبالطبع فإن المفاوضين المنافسين يستغلون نقطة الضعف هذه بعدم وجودهم ليلا، ويمررون معظم القرارات الحاسمة.

وفي الختام، فإن الكثير من القرارات الدولية الملزمة تتشكل تباعا من خلال أجهزة الأمم المتحدة، ولا يمكن للمفاوضين من الدول النامية عدم مجاراتهم لهذه التطورات. كما أن الحضور البدني فقط، غير كاف لحماية المصالح، ولا بديل عن تهيئة المفاوض وتسليحه بمختلف المهارات، والتيقن بوجود رغبة حقيقة لديه للمواصلة والاستمرارية، مصحوبة بالمساءلة عما تحقق، ولايقبل منه مقولة «ليس بالإمكان أحسن مما كان». كما تمثل معاهد الدراسات الدبلوسية وما شابهها في الدول النامية، المدرسة التحضيرية الأولى لتمهيد كسب المهارات الأخرى من خلال معارك المفاوضات الدولية.

* المستشار الاقتصادي والنفطي الدولي

sabbanms@