يقول المثل «تسير الثورات على البطون الفارغة»، هكذا انبثق ما سمي بـ«ربيع الثورات» في الوطن العربي، حين بلغ الجوع والفقر والعوز مبلغه ببائع خضروات كادح يجول في أزقة سيدي بوزيد في تونس، فأضرم النار في جسده في لحظة يأس، لتشتعل من بعده عدة دول عربية، وبذات المبدأ يتكرر المشهد اليوم في السودان الذي يقف على أعتاب ثورة ثالثة انطلقت شرارتها من عطبرة بعد أن رفع النظام التوتاليتاري (الشمولي) أسعار المواد الاستهلاكية الأساسية بما يفوق قدرة الكادحين على سد رمق العيش، فانفجرت شوارع السودان ولم يستطع النظام هذه المرة فرض تقاليد الحكم بالحديد والنار عبر آلة القمع التي لم ولن تجدي نفعاً في ظل حالة البؤس التي وصلت لها الطبقات الكادحة، فسقطت واجهة النظام، متمثلة في الرئيس عمر البشير الذي تم عزله لامتصاص غضب الشارع السوداني الذي واصل حالة من الغليان اسقطت بديل البشير في غضون 24 ساعة، وقدمت القوة الأبرز المحركة للشارع السوداني «تجمع المهنيين» جملة من المطالب خلقت من الحالة السودانية نموذجاً مختلفاً عن سائر الحركات الاحتجاجية التي اندلعت في العالم العربي، ربما تشترك في الدوافع والمسببات ولكنها تختلف في الرؤية والأهداف، وتثير العديد من التساؤلات عن هذا المكون الجديد، وإلى أين سيقود الشارع.
وبالرغم من أن الأحزاب السودانية، الموالية والمعارضة والمستقلة، التي تصل إلى أكثر من مائة حزب، إلا أن أيا من هذه الأحزاب لم يحظ بأي تأثير في الشارع السوداني كما فعل «تجمع المهنيين»، وهو مكون جديد على الساحة، وغريب جداً، فلا يعد حزباً سياسياً، ولا هو نقابة بمفهوم المكون النقابي، نشأ هذا المكون في 2012 من قبل مجموعة من أكاديميي جامعة الخرطوم ثم تفرع بلا أي هيكلية ظاهرة، ليصبح عبارة عن تجمع تكنوقراطي من أطباء وأساتذة جامعات وصحافيين ومحامين ومثقفين وغيرهم من أصحاب المهن الرفيعة، والهدف المعلن لهم هو الاحتجاج على سياسات النظام ورفع أسعار السلع الأساسية، جمعهم العالم الافتراضي ثم استنسخت أفكارهم ومبادئهم في المدن السودانية الواحدة تلو الأخرى، بلا مركزية ولا واجهة قيادية تعرف عن نفسها، ومع ذلك هي القوة الفعلية المحركة للشارع وهي الحاضنة الأم لمطالب الشعب السوداني والمؤثر الفعلي في الحراك الثوري القائم وحلقة الوصل بين «قوى الحرية والتغيير» و«المهديين».
«تجمع المهنيين» هو بقايا الطبقة البرجوازية التي سحقها نظام البشير لتندمج نتيجة التخبطات الاقتصادية والسياسية مع الأغلبية الساحقة من البروليتاريين الكادحين، فغالبية من ينتمي إلى هذا التجمع أصبحوا «عمالا مقابل الأجر»، حالهم من حال البروليتاريين في صراع دائم مع محدودية الدخل وشبح الفقر والبطالة، وهو ما جعل منهم طبقة ثورية خصبة تجمع ما بين قوة الأفكار والعامل البشري، والهدف الأساسي من مجمل مطالبهم هو اقتلاع النظام وتدمير بنيته الشمولية تماما، وبالتالي تحجيم دور القطاعات العسكرية والأمنية لتقتصر على دورها الأساسي فقط في الحفاظ على الأمن، مقابل إقامة منظومة مدنية صرفة تقوم على إدارة المرحلة الانتقالية عبر تسلم السلطة التنفيذية والتشريعية والقضائية لاعتماد التشريعات الضامنة لتحقيق مفهوم الدولة المدنية القائمة على نظام ديمقراطي؛ وهو حلم بالنسبة لكل مواطن سوداني كان إلى عهد قريب حلماً فانتازياً صعب المنال أمام واقع المعوقات المتجذرة التي خلقها النظام السابق بتفتيته للأحزاب وتحالفه مع الإخوان المسلمين والتجذر الأيديولوجي داخل مفاصل الدولة والدولة العميقة لنظام البشير.
ولا شك أن «تجمع المهنيين» أصبح قوة مهيبة في الشارع السوداني، لا أحد يستطيع مواجهة هذه الكتلة الصاعدة وتقويض مطالبها، ولكن على هذا التجمع أن يقود محاولة تصحيحية لترهات الماضي التي جعلت السودان منذ استقلاله عام 1956 إلى يومنا هذا في حالة متواصلة من الغليان والصراع بين الشمولية والمدنية، أفضت إلى ثورتين شعبيتين عام 1964 و1985 تخللها أكثر من 11 انقلاباً، وهو صراع طويل ضد الحكم العسكري الشمولي الذي حكم السودان خمسة عقود امتدت عبر ثلاث فترات انقلابية؛ (انقلاب الفريق إبراهيم عبود عام 58، وانقلاب النميري عام 69، ثم انقلاب البشير عام 89)، في حين شهد السودان ثلاث حكومات مدنية لم يتجاوز إجمالي فترة حكمها عقدا من الزمان.
السودان الشقيق أصبح الآن على مفترق الطريق ما بين مخاض تحقيق مفهوم الدولة المدنية العصرية أو إعادة إنتاج مرحلة سوار الذهب التي سلم فيها الحكم للمدنيين بلا قاعدة تشريعية صلبة تسير عليها، وبالتالي فإن هذه المرحلة المفصلية تتطلب بناء الثقة بين السلطة العسكرية والمدنية المرتقبة وعدم توظيف قوة «المهنيين» الصاعدة في أي ممارسة استبدادية، وحان الوقت لتوافق هذا المكون مع المجلس العسكري وتقديم نفسه والتعريف بالشخصيات القائمة عليه، وأن يساهم «المهنيين» في ضمان انقضاء مرحلة انتقالية سلمية تحقق طموحات الشعب السوداني لتجنب البلاد العودة إلى مربع الخلافات والانجراف نحو الصدام والفوضى الخلاقة وتكرار التجارب المريرة لثورات الربيع.
* كاتب سعودي
ktashkandi@okaz.com.sa
@khalid_tashkndi
وبالرغم من أن الأحزاب السودانية، الموالية والمعارضة والمستقلة، التي تصل إلى أكثر من مائة حزب، إلا أن أيا من هذه الأحزاب لم يحظ بأي تأثير في الشارع السوداني كما فعل «تجمع المهنيين»، وهو مكون جديد على الساحة، وغريب جداً، فلا يعد حزباً سياسياً، ولا هو نقابة بمفهوم المكون النقابي، نشأ هذا المكون في 2012 من قبل مجموعة من أكاديميي جامعة الخرطوم ثم تفرع بلا أي هيكلية ظاهرة، ليصبح عبارة عن تجمع تكنوقراطي من أطباء وأساتذة جامعات وصحافيين ومحامين ومثقفين وغيرهم من أصحاب المهن الرفيعة، والهدف المعلن لهم هو الاحتجاج على سياسات النظام ورفع أسعار السلع الأساسية، جمعهم العالم الافتراضي ثم استنسخت أفكارهم ومبادئهم في المدن السودانية الواحدة تلو الأخرى، بلا مركزية ولا واجهة قيادية تعرف عن نفسها، ومع ذلك هي القوة الفعلية المحركة للشارع وهي الحاضنة الأم لمطالب الشعب السوداني والمؤثر الفعلي في الحراك الثوري القائم وحلقة الوصل بين «قوى الحرية والتغيير» و«المهديين».
«تجمع المهنيين» هو بقايا الطبقة البرجوازية التي سحقها نظام البشير لتندمج نتيجة التخبطات الاقتصادية والسياسية مع الأغلبية الساحقة من البروليتاريين الكادحين، فغالبية من ينتمي إلى هذا التجمع أصبحوا «عمالا مقابل الأجر»، حالهم من حال البروليتاريين في صراع دائم مع محدودية الدخل وشبح الفقر والبطالة، وهو ما جعل منهم طبقة ثورية خصبة تجمع ما بين قوة الأفكار والعامل البشري، والهدف الأساسي من مجمل مطالبهم هو اقتلاع النظام وتدمير بنيته الشمولية تماما، وبالتالي تحجيم دور القطاعات العسكرية والأمنية لتقتصر على دورها الأساسي فقط في الحفاظ على الأمن، مقابل إقامة منظومة مدنية صرفة تقوم على إدارة المرحلة الانتقالية عبر تسلم السلطة التنفيذية والتشريعية والقضائية لاعتماد التشريعات الضامنة لتحقيق مفهوم الدولة المدنية القائمة على نظام ديمقراطي؛ وهو حلم بالنسبة لكل مواطن سوداني كان إلى عهد قريب حلماً فانتازياً صعب المنال أمام واقع المعوقات المتجذرة التي خلقها النظام السابق بتفتيته للأحزاب وتحالفه مع الإخوان المسلمين والتجذر الأيديولوجي داخل مفاصل الدولة والدولة العميقة لنظام البشير.
ولا شك أن «تجمع المهنيين» أصبح قوة مهيبة في الشارع السوداني، لا أحد يستطيع مواجهة هذه الكتلة الصاعدة وتقويض مطالبها، ولكن على هذا التجمع أن يقود محاولة تصحيحية لترهات الماضي التي جعلت السودان منذ استقلاله عام 1956 إلى يومنا هذا في حالة متواصلة من الغليان والصراع بين الشمولية والمدنية، أفضت إلى ثورتين شعبيتين عام 1964 و1985 تخللها أكثر من 11 انقلاباً، وهو صراع طويل ضد الحكم العسكري الشمولي الذي حكم السودان خمسة عقود امتدت عبر ثلاث فترات انقلابية؛ (انقلاب الفريق إبراهيم عبود عام 58، وانقلاب النميري عام 69، ثم انقلاب البشير عام 89)، في حين شهد السودان ثلاث حكومات مدنية لم يتجاوز إجمالي فترة حكمها عقدا من الزمان.
السودان الشقيق أصبح الآن على مفترق الطريق ما بين مخاض تحقيق مفهوم الدولة المدنية العصرية أو إعادة إنتاج مرحلة سوار الذهب التي سلم فيها الحكم للمدنيين بلا قاعدة تشريعية صلبة تسير عليها، وبالتالي فإن هذه المرحلة المفصلية تتطلب بناء الثقة بين السلطة العسكرية والمدنية المرتقبة وعدم توظيف قوة «المهنيين» الصاعدة في أي ممارسة استبدادية، وحان الوقت لتوافق هذا المكون مع المجلس العسكري وتقديم نفسه والتعريف بالشخصيات القائمة عليه، وأن يساهم «المهنيين» في ضمان انقضاء مرحلة انتقالية سلمية تحقق طموحات الشعب السوداني لتجنب البلاد العودة إلى مربع الخلافات والانجراف نحو الصدام والفوضى الخلاقة وتكرار التجارب المريرة لثورات الربيع.
* كاتب سعودي
ktashkandi@okaz.com.sa
@khalid_tashkndi