لم يكد العالم يفيق من صدمة المذبحة التي ارتكبها متطرف أسترالي محسوب على المسيحية الكاثوليكية في مسجدين في يوم جمعة المسلمين، حتى فجع بصدمة أكبر وأقسى في ثلاث كنائس كاثوليكية وثلاثة فنادق فاخرة في يوم أحد قيامة المسيح في سريلانكا.
وبقدر ما كان اختيار مسرح الجريمة الأولى وتنفيذها دقيقا، كان اختيار مسرح الجريمة الثانية أكثر دقة وتنفيذها أشد تدميراً. ولعل التشابه في اختيار المكان غير المتوقع، في التوقيت غير المتوقع، مع التركيز على تعظيم الخسائر في الأرواح، هو ما قد يوحي بأن الجريمتين خططتا في غرفة واحدة وإن اختلفت الأيادي المنفذة.
ولئن كشفت الجريمة الأولى عن تماسك النظام السياسي النيوزيلندي واصطفافه بثبات خلف رئيسة الوزراء، فقد كشفت الجريمة الثانية عن انقسام حاد في النظام السياسي السريلانكي الذي تبين أنه نظام ذو رأسين متنافرين منذ تراجع الرئيس مايثريبالا سيريسينا عن إقالة رئيس الوزراء رانيل ويكريميسينغي في 26 أكتوبر ٢٠١٨ وإعادته إلى منصبه بعد ٧ أسابيع من الفوضى بقرار من المحكمة العليا.
ولعل هذا الخلاف الذي نقله وزير الصحة السريلانكي راجيثا سيناراتني للعلن حين أعلن في مؤتمر صحفي بعد الأحداث المؤسفة التي أودت بحياة أكثر من ٣٥٩ إنسانا وجرح أكثر من ٥٠٠ من مختلف الجنسيات عن أن رئيس الوزراء لم يتم إبلاغه بتحذير ورد من استخبارات أجنبية في 11 أبريل الحالي من أن «جماعة التوحيد الإسلامية الوطنية» ستشن هجمات على الكنائس، وأن رئيس الوزراء منذ خلافه مع الرئيس العام الماضي توقف اطلاعه على تقارير المخابرات.
فالدولة التي استقلت عام ١٩٤٨م عن بريطانيا بمسمى (سيلان) وأخذت مسماها الحديث «سريلانكا» منذ عام ١٩٧٢م بنظام جمهوري رئاسي مازالت تضيق بسكانها الذين يزيدون على ٢١ مليون نسمة بموارد محدودة ودخل وطني وصل بالكاد إلى ٨٧.٣٥ دولار عام ٢٠١٧ بمعدلات نمو متناقصة من ٥% عام ٢٠١٥، إلى ٤.٥% في ٢٠١٦، فـ ٣.٣٪ في ٢٠١٧ إضافة إلى عجز متفاقم في الميزان التجاري وإيرادات الدولة وتراكم للدين العام وصل إلى ٧٨.١ من الدخل القومي في ٢٠١٧ رغم الالتزام بتنفيذ برنامج إصلاحي موجه من صندوق النقد الدولي..
وبالتأكيد، فإن هذه الفجوات السياسية والاقتصادية تعتبر مدخلاً مثالياً للنفاذ لزعزعة الأمن والاستقرار ومحاولة فرض أجندات قوى عالمية معادية ومحلية تشعر بالمظلومية أو تدّعيها.
أما تصريحات المتحدث باسم الحكومة السريلانكية يوم الإثنين الماضي بأن التحقيقات كشفت بأن جماعة إسلامية محلية هي التي تقف خلف التفجيرات فما زالت محل شك من مختلف المحللين سواء كانوا عرباً أو أجانب، من غير محللي جريدة (الميرور) البريطانية، حيث يصعب تقبل فكرة أن يكون جزء من المكون الإسلامي المحدود في سريلانكا خلف هذا العمل الإجرامي الذي لا تقدر على تنفيذه سوى أعتى أجهزة الاستخبارات العالمية. فالمكون الإسلامي لا يشكل سوى (10%) من سكان سريلانكا في مقابل (٧٠%) من البوذيين، و(12%) من الهندوس و(٧%) من المسيحيين.
وبالتالي، يصعب تقبل أن تتمكن جماعة ضئيلة متطرفة من أقلية دينية فقيرة من السكان من تخطيط وتنفيذ ٧ أعمال إرهابية متزامنة في عدة مدن في جزيرة صغيرة مساحتها في حدود ٦٥ ألف كيلومتر مربع دون أن تنكشف. ويصعب أيضاً تقبل أن يكون الهدف من تلك الأعمال هو الانتقام لشهداء مساجد نيوزيلندا رغم ادعاء تنظيم «داعش» الدموي الغامض، بعد تردد لعدة أيام، عن مسؤوليته عن المجازر. وهذا التشكيك أثاره العديد من المحللين، بالإضافة للعديد من التساؤلات الأخرى التي ما زلنا جميعاً لا نجد لها إجابات شافية، ومنها كيف تمكنت مجموعة صغيرة غامضة كانت معروفة في السابق بتدنيس التماثيل البوذية من شن هجمات متطورة ومنسقة؟ وما هي الشبكة أو الشبكات الإرهابية الدولية، إن وجدت، التي ساعدت في الهجمات وكيف؟ وكيف يعتد بإعلان داعش المتأخر عن مسؤوليته عمّا جرى دون أية تفاصيل وصور وفيديوهات كالمعتاد؟ وما هي أسماء الانتحاريين والأشخاص المحتجزين في ما يتعلق بالهجمات؟ ولماذا يبدو أن الكاثوليك تم استهدافهم في التفجيرات في دولة ذات أغلبية بوذية مع أقلية هندوسية كبيرة؟ ولماذا فشلت السلطات في اتخاذ خطوات جوهرية لمحاولة منع وقوع الهجمات بعد تلقي تقارير عن تهديد وشيك؟ ولماذا تمت مهاجمة الفنادق وقتل الناس دون تمييز إن كان الكاثوليك هم المستهدفون؟
تلك تساؤلات ستبقى مفتوحة حتى تنتهي التحقيقات وتستكمل كافة البيانات والمعلومات وتتكشف كافة الملابسات في هذه القضية المفصلية في تاريخ سريلانكا التي عرفها العرب باسم «سرنديب» وكانت مصدراً للإلهام وحلماً للباحثين عن الثراء، وتردد اسمها بأوصاف وحكايات أقرب ما تكون للأساطير في العديد من كتب التراث العربي وذكرها الرحالة المغربي ابن بطوطة الذي وصل للهند عام ١٣٣٢م ومكث ثمانية أعوام في ضيافة سلطانها الذي قلده القضاء، وزار خلالها سرنديب وقال عنها «ليس مرادي منذ وصلت هذه الجزيرة، إلا زيارة القدم الكريمة، قدم آدم عليه السلام، وهم يسمونه (بابا)، ويسمون حواء (ماما)».
أما الإلهام الشعري فقد رأيناه في قصائد عديدة، منها قصيدة الإمام الشافعي -رضي الله - الذي ذكرها على سبيل الزهد في الدنيا والعيش بكرامة وعزة حين قال في قصيدة شهيرة مطلعها:
أمطري لؤلؤا سماء سرنديب وأفيضي ابار تكرور تبرا
انا ان عشت لست أعدم قوتاً وإذا مت لست أعدم قبرا
ولم يغب ذكر سرنديب عن ذاكرتنا العربية في العصر الحديث حين استقبلت الضابط المصري الشاعر محمود سامي البارودي منفياً بعد انهزام ثورة أحمد عرابي في مصرعام 1882 أمام الإنجليز، ليحتجز فيها سبعة عشر عاماً انتهت في 1900م، حيث نظم هناك قصيدته الشهيرة التي قال فيها:
كفى بمقامي في سرنديب غربة نزعت بها عني ثياب العلائق
ومن رام نيل العز فليصطبر على لقاء المنايا واقتحام المضايق
واليوم تجد سريلانكا نفسها من جديد على حافة الهاوية، ويتوقف مستقبلها على أسلوب تعاملها مع كافة مفردات مرحلة ما بعد الجريمة وفي مقدمتها إصلاح النظام السياسي والحفاظ على السلم الاجتماعي وتوفير الموارد الضرورية لإعادة البناء، والتعويض عن فشل الموسم السياحي في الفترة القادمة.
* اقتصادي وباحث إستراتيجي سعودي
alitawati@
وبقدر ما كان اختيار مسرح الجريمة الأولى وتنفيذها دقيقا، كان اختيار مسرح الجريمة الثانية أكثر دقة وتنفيذها أشد تدميراً. ولعل التشابه في اختيار المكان غير المتوقع، في التوقيت غير المتوقع، مع التركيز على تعظيم الخسائر في الأرواح، هو ما قد يوحي بأن الجريمتين خططتا في غرفة واحدة وإن اختلفت الأيادي المنفذة.
ولئن كشفت الجريمة الأولى عن تماسك النظام السياسي النيوزيلندي واصطفافه بثبات خلف رئيسة الوزراء، فقد كشفت الجريمة الثانية عن انقسام حاد في النظام السياسي السريلانكي الذي تبين أنه نظام ذو رأسين متنافرين منذ تراجع الرئيس مايثريبالا سيريسينا عن إقالة رئيس الوزراء رانيل ويكريميسينغي في 26 أكتوبر ٢٠١٨ وإعادته إلى منصبه بعد ٧ أسابيع من الفوضى بقرار من المحكمة العليا.
ولعل هذا الخلاف الذي نقله وزير الصحة السريلانكي راجيثا سيناراتني للعلن حين أعلن في مؤتمر صحفي بعد الأحداث المؤسفة التي أودت بحياة أكثر من ٣٥٩ إنسانا وجرح أكثر من ٥٠٠ من مختلف الجنسيات عن أن رئيس الوزراء لم يتم إبلاغه بتحذير ورد من استخبارات أجنبية في 11 أبريل الحالي من أن «جماعة التوحيد الإسلامية الوطنية» ستشن هجمات على الكنائس، وأن رئيس الوزراء منذ خلافه مع الرئيس العام الماضي توقف اطلاعه على تقارير المخابرات.
فالدولة التي استقلت عام ١٩٤٨م عن بريطانيا بمسمى (سيلان) وأخذت مسماها الحديث «سريلانكا» منذ عام ١٩٧٢م بنظام جمهوري رئاسي مازالت تضيق بسكانها الذين يزيدون على ٢١ مليون نسمة بموارد محدودة ودخل وطني وصل بالكاد إلى ٨٧.٣٥ دولار عام ٢٠١٧ بمعدلات نمو متناقصة من ٥% عام ٢٠١٥، إلى ٤.٥% في ٢٠١٦، فـ ٣.٣٪ في ٢٠١٧ إضافة إلى عجز متفاقم في الميزان التجاري وإيرادات الدولة وتراكم للدين العام وصل إلى ٧٨.١ من الدخل القومي في ٢٠١٧ رغم الالتزام بتنفيذ برنامج إصلاحي موجه من صندوق النقد الدولي..
وبالتأكيد، فإن هذه الفجوات السياسية والاقتصادية تعتبر مدخلاً مثالياً للنفاذ لزعزعة الأمن والاستقرار ومحاولة فرض أجندات قوى عالمية معادية ومحلية تشعر بالمظلومية أو تدّعيها.
أما تصريحات المتحدث باسم الحكومة السريلانكية يوم الإثنين الماضي بأن التحقيقات كشفت بأن جماعة إسلامية محلية هي التي تقف خلف التفجيرات فما زالت محل شك من مختلف المحللين سواء كانوا عرباً أو أجانب، من غير محللي جريدة (الميرور) البريطانية، حيث يصعب تقبل فكرة أن يكون جزء من المكون الإسلامي المحدود في سريلانكا خلف هذا العمل الإجرامي الذي لا تقدر على تنفيذه سوى أعتى أجهزة الاستخبارات العالمية. فالمكون الإسلامي لا يشكل سوى (10%) من سكان سريلانكا في مقابل (٧٠%) من البوذيين، و(12%) من الهندوس و(٧%) من المسيحيين.
وبالتالي، يصعب تقبل أن تتمكن جماعة ضئيلة متطرفة من أقلية دينية فقيرة من السكان من تخطيط وتنفيذ ٧ أعمال إرهابية متزامنة في عدة مدن في جزيرة صغيرة مساحتها في حدود ٦٥ ألف كيلومتر مربع دون أن تنكشف. ويصعب أيضاً تقبل أن يكون الهدف من تلك الأعمال هو الانتقام لشهداء مساجد نيوزيلندا رغم ادعاء تنظيم «داعش» الدموي الغامض، بعد تردد لعدة أيام، عن مسؤوليته عن المجازر. وهذا التشكيك أثاره العديد من المحللين، بالإضافة للعديد من التساؤلات الأخرى التي ما زلنا جميعاً لا نجد لها إجابات شافية، ومنها كيف تمكنت مجموعة صغيرة غامضة كانت معروفة في السابق بتدنيس التماثيل البوذية من شن هجمات متطورة ومنسقة؟ وما هي الشبكة أو الشبكات الإرهابية الدولية، إن وجدت، التي ساعدت في الهجمات وكيف؟ وكيف يعتد بإعلان داعش المتأخر عن مسؤوليته عمّا جرى دون أية تفاصيل وصور وفيديوهات كالمعتاد؟ وما هي أسماء الانتحاريين والأشخاص المحتجزين في ما يتعلق بالهجمات؟ ولماذا يبدو أن الكاثوليك تم استهدافهم في التفجيرات في دولة ذات أغلبية بوذية مع أقلية هندوسية كبيرة؟ ولماذا فشلت السلطات في اتخاذ خطوات جوهرية لمحاولة منع وقوع الهجمات بعد تلقي تقارير عن تهديد وشيك؟ ولماذا تمت مهاجمة الفنادق وقتل الناس دون تمييز إن كان الكاثوليك هم المستهدفون؟
تلك تساؤلات ستبقى مفتوحة حتى تنتهي التحقيقات وتستكمل كافة البيانات والمعلومات وتتكشف كافة الملابسات في هذه القضية المفصلية في تاريخ سريلانكا التي عرفها العرب باسم «سرنديب» وكانت مصدراً للإلهام وحلماً للباحثين عن الثراء، وتردد اسمها بأوصاف وحكايات أقرب ما تكون للأساطير في العديد من كتب التراث العربي وذكرها الرحالة المغربي ابن بطوطة الذي وصل للهند عام ١٣٣٢م ومكث ثمانية أعوام في ضيافة سلطانها الذي قلده القضاء، وزار خلالها سرنديب وقال عنها «ليس مرادي منذ وصلت هذه الجزيرة، إلا زيارة القدم الكريمة، قدم آدم عليه السلام، وهم يسمونه (بابا)، ويسمون حواء (ماما)».
أما الإلهام الشعري فقد رأيناه في قصائد عديدة، منها قصيدة الإمام الشافعي -رضي الله - الذي ذكرها على سبيل الزهد في الدنيا والعيش بكرامة وعزة حين قال في قصيدة شهيرة مطلعها:
أمطري لؤلؤا سماء سرنديب وأفيضي ابار تكرور تبرا
انا ان عشت لست أعدم قوتاً وإذا مت لست أعدم قبرا
ولم يغب ذكر سرنديب عن ذاكرتنا العربية في العصر الحديث حين استقبلت الضابط المصري الشاعر محمود سامي البارودي منفياً بعد انهزام ثورة أحمد عرابي في مصرعام 1882 أمام الإنجليز، ليحتجز فيها سبعة عشر عاماً انتهت في 1900م، حيث نظم هناك قصيدته الشهيرة التي قال فيها:
كفى بمقامي في سرنديب غربة نزعت بها عني ثياب العلائق
ومن رام نيل العز فليصطبر على لقاء المنايا واقتحام المضايق
واليوم تجد سريلانكا نفسها من جديد على حافة الهاوية، ويتوقف مستقبلها على أسلوب تعاملها مع كافة مفردات مرحلة ما بعد الجريمة وفي مقدمتها إصلاح النظام السياسي والحفاظ على السلم الاجتماعي وتوفير الموارد الضرورية لإعادة البناء، والتعويض عن فشل الموسم السياحي في الفترة القادمة.
* اقتصادي وباحث إستراتيجي سعودي
alitawati@