-A +A
صدقة يحيى فاضل
«الاستقرار السياسي» (Political Stability) ضروري للحياة البشرية... ربما بقدر ضرورة الماء والهواء لها. فبدون استقرار سياسي مناسب، لا يمكن لدولاب الحياة العامة في أي مجتمع، أن يدور. لأن انعدام الاستقرار السياسي (وسيادة عدم الاستقرار السياسي) غالبا ما ينتج عنه اضطراب، يحيل حياة المجتمع، أي مجتمع، إلى جحيم لا يطاق، ويعطل سير الحياة العامة، بشكل طبيعي، وبناء. «الاستقرار السياسي» يعني: استتباب الأمن والنظام... القائمين على أسس مقبولة، من قبل غالبية المعنيين، بفئاتهم المختلفة. سيادة الاستقرار السياسي تضمن سير الحياة بشكل طبيعي، في إطار «السلام» الذي لابد من توافره - بقدر مناسب - لقيام حياة إنسانية طبيعية. وعندما يختفي «الاستقرار السياسي» في أي مجتمع، سرعان ما يظهر مكانه «عدم الاستقرار السياسي» (Political Instability). وهو معكوس «الاستقرار السياسي».

والمقصود بـ «عدم الاستقرار السياسي» غالباً ما يكون: تصاعد احتمال حدوث الاضطرابات، والقلاقل، والحروب... عندما يكون عدم الاستقرار السياسي سافراً. وعندما يصبح مبطناً (أي غير سافر) فإنه يعني: استتباب النظام (القانون) والأمن، على أسس غير مقبولة لغالبية المعنيين، بفئاتهم المختلفة. أو هو: استتباب الأمن والنظام على أسس غير مقبولة من قبل غالبية السكان المعنيين. بما يعنى أنه ليس استقرارا حقيقيا، بل عابرا وظرفيا، ووضعا قابلا للانفجار والتدهور في أي لحظة. إن انعدام «الاستقرار السياسي» ينتج عنه إما قيام استقرار سياسي مفروض بالقوة والإكراه، أو عدم استقرار سياسي سافر... و«عدم الاستقرار السياسي»، بنوعيه هذين، يعني: حدوث، أو احتمال حدوث، صراعات واضطرابات، ومآس، وحروب... ومؤشراته يمكن أن تتدرج من التململ الكلامي... إلى العنف والنزاعات والحروب.


«عدم الاستقرار السياسي» المفروض (المبطن) أو السافر، هو كالقنبلة الموقوتة، القابلة للانفجار في أي وقت... لتنسف كل ما حولها، وتدمر في لحظات ما يحيط بها من مظاهر إنسانية وحضارية، تم بناؤها في سنوات. لذلك، يظل «الاستقرار السياسي» الصحيح والحقيقي مطلباً ملحاً، وضرورياً، لقيام ونمو المجتمعات، بشكل طبيعي، وسليم. ويتم بناء الاستقرار السياسي عبر «التنمية السياسية» الإيجابية... وإهمال هذه التنمية غالبا ما يؤدي إلى: نمو وسيادة «عدم الاستقرار السياسي»... السافر، أو المبطن. أما الشروع فيها، والاضطلاع بما تقتضيه، فيؤدي إلى: استتباب الاستقرار السياسي، وتقوية اللحمة الوطنية، وخاصة في المدى الطويل.

إن نمو وسيادة الاستقرار السياسي يعني: سيادة الأمن والنظام، والسلام... ومؤشراته يمكن أن تتدرج من: زهو الشخص بمجتمعه، وتنظيمه، إلى تماسك المجتمع، وتكافله، في كل الظروف، وأصعب الأزمات... وبهذا، تصبح التنمية السياسية الإيجابية واجباً ضرورياً... تقع مسئولية القيام به على الحكومات، والنخب، والشعوب أيضاً. والحكومات الرشيدة تعتبر التنمية السياسية الإيجابية في مقدمة أولوياتها. فلا بد من القيام بهذا الواجب الأساسي، إذا أريد للمجتمعات السعادة، وأريد لها «السلام»... الذي يكفل لها البقاء والتواجد، والنمو، بشكل سليم.

***

ويقول علماء السياسة المتخصصون في دراسة النظم السياسية: إن الحكم الجمهوري الديكتاتوري، وخاصة العسكري، لا ولن يحقق «الاستقرار السياسي» الضروري، لأي بلد يبتلى به، في المدى الطويل. وما قد يتحقق في ظل هكذا نظام من «هدوء وأمن» إنما هو أمر ظرفي مؤقت... لا يمكن أن يوصف بأنه استقرار حقيقي ثابت، ومستدام، بل هو عدم استقرار سياسي مبطن، يمكن أن يتحول إلى عدم استقرار سياسي سافر في أي لحظة. ويمضي هؤلاء للقول إن: ما يضمن تحقق الاستقرار السياسي الحقيقي فعلا، في المدى الطويل، هو رضا غالبية المعنيين بالطريقة التي تدار بها بلادهم، وتساس بها شؤونهم. وهذا «الرضا» لا يتحقق غالبا إلا عبر مشاركة هؤلاء في إدارة شؤونهم وأمورهم العامة، بطريقة أو أخرى.

***

وعندما نطبق هذه النظرية على معظم النظم الجمهورية التي تحكم بعض أقطار العالم العربي، نجد أن كثيرا من نظم الحكم الجمهورية عبارة عن ديكتاتوريات عسكرية، فشلت فشلا ذريعا في تحقيق الاستقرار السياسي، والحد الأدنى من العيش الكريم، والسعادة العامة لشعوبها، بدليل ما آلت اليه الأحوال السياسية والاقتصادية والاجتماعية في دولها من تدهور وانحطاط. فحق لهذه الشعوب المطالبة بتغيير هذه الأنظمة، واستبدالها بأنظمة تمثيلية... تدير شؤونهم كما يريدون، وبما يحقق رغباتهم وحاجاتهم ومصالحهم وتطلعاتهم.

هبت بعض هذه الشعوب مطالبة بهذا الحق. وها هي الآن شعوب الجزائر والسودان وقد اضطرت لإعلان حاجتها ومطالبتها هذه، والتعبير عن رغبتها، في تظاهرات شعبية سلمية مكثفة، ما زالت مستمرة منذ أشهر.

***

اختار الشعبان العربيان الجزائري والسوداني أيام الجمع المتتالية بخاصة للخروج جماعات كثيفة، تدعي أنها تمثل الشعب، وتطالب بـ«رحيل» النظام... كل النظام القائم في بلادهم منذ عقود. لم تقتصر المطالبة على رحيل «رأس» النظام، بل شملت كل النظام، ومن جذوره. ومعروف أن كلا من النظامين الجزائري والسوداني المرفوضين شعبيا، تجذر في بلاده، وضرب بأطنابه في كل مفاصل الدولة العميقة فيها. نظام الجزائر، برئاسة عبدالعزيز بوتفليقة، استمر حوالى 20 عاما، بينما بقي النظام السوداني، برئاسة عمر البشير، بالسلطة 30 عاما. ولكن، مازال كل من النظامين قائما، حتى كتابة هذه الأسطر، وإن ذهب رأس كل نظام. إنه حكم القلة العسكرية المهيمن على الدولة العميقة في كل من الجزائر والسودان، وغيرهما.

لقد استجاب كل من النظامين العسكريين، الجزائري والسوداني، جزئيا للضغوط الشعبية الهائلة على كل منهما، والمطالبة بإزاحتهما، بـ «خلع» رأس النظام، وتولي بعض من رموزه مقاليد السلطة، حتى إجراء الانتخابات الرئاسية والبرلمانية المأمولة. كانت تلك استجابة جزئية ناقصة للهبة الشعبية في كل من الجزائر والسودان. وقد أثبت الشعبان العربيان أنهما من أكثر الشعوب وعيا سياسيا، وأنهما أكبر من أن تنطلي عليهما حيل النظام، وتمسكه المقيت بالسلطة... أثبت الشعبان رقيهما ووعيهما، وتحركهما السلمي والحضاري للمطالبة بحقوقهما.

***

لكل ذلك، يبدو أن الهبتين الشعبيتين لن تتوقفا حتى تحقيق هدفيهما النهائيين... أي غاية كل منهما من هذا الحراك الشعبي، ألا وهي استئصال شأفة النظام في كل من بلديهما، وإقامة نظام سياسي قائم على دستور تقبله وترضى عنه غالبية الشعب في كليهما. وإن تحقق لهما ذلك - ويبدو ذلك ممكنا - يكون الشعبان قد أسسا لنظام سياسي صلب، قائم على رضا الأغلبية. وهذا الرضا سيكون خير ضامن لصلابة وصلاح هذا النظام، وضمان الاستقرار السياسي في البلدين، في المدى الطويل، عكس ما هو موجود الآن في بعض الجمهوريات بالعالم النامي.

* كاتب سعودي

sfadil50@hotmail.com