لا أوجع من الفقد إلا ترقب الفقد، ولا أقسى من الموت إلا حياة قيد الموت، مضى والد زوجتي (عمي عبدالرحمن) إلى بارئه متذللاً عابداً زاهداً، معتزاً بقيمه وثوابته، متمسكاً بمبادئه حتى رمقه الأخير، دون أن يؤثر وجعه على أعرافه وأصالته.
لم يسبق لي الكتابة عن الموتى ولا أحب صوغ الرثائيات، بيد أن ثمة حياة أُلقيت على صهوة رحيله، كنت شاهداً فيها على سيرة موته الممتد بين ديسمبر 2018 وأبريل 2019، تدفعني لتناول الفصل الأخير من سيرة أب شجاع قاوم حياته وموته على نحو استثنائي لئلا تتأثر عائلته من وعثاء أيامه، ومتاعب حياته، وألمه الأخير الذي تمكن من جسده وأنهكه بشكل تدريجي إلى أن قضى عليه.
كان عمي مشعلاً وضاءً يوقد عتمة من يستجير به، يحظى بمحبة أبناء قبيلته وتقدير من يعرفه ويتعامل معه لبساطته وعفويته، لا يحيد عن تقاليد مجتمعه ولا ينازعه أحد في الإقدام والإيثار من أجل تماسك «جماعته» وأبناء عمومته.
قبل أن تشرق شمس العام الميلادي الجاري بأيام، حمله وجعه الذي صبر عليه كثيراً إلى المشفى، ودون أن يعرف حقيقة مرضه بالسرطان قضى أسبوعين كاملين يكابد وجعه، فيما كنا نخفيه عنه خشية تأثره وتدهور حالته، لكن غضبه من غموض وضعه وضبابية المعلومات عن حالته، أثار حنقه على صمت الأطباء، إلى أن اضطروا لتبيان حقيقة مرضه، وأذهلت ردة فعله الشجاعة من حوله، حين أقسم أنه لا يخاف السرطان ولا الموت وأنهما ليسا بيد أحد، وقالها لي: «الله هباه والله قادر يحيله».
في شهره الثاني تفاقمت حالته، وأخبرنا الفريق الطبي بوضوح أن أمر علاجه مستحيل، وأن موته مسألة أسابيع فقط بحسب المؤشرات الطبية، ولم يكن يبدو على عمي سوء حالته في بادئ الأمر على نحو ما قاله الأطباء، كان يصطحبنا إلى ركن منزوٍ في المقهى المجاور للمستشفى حيث أمضى أشهره الأخيرة، كان يتشبث بالحياة ويقاوم وجعه الذي يحمله تارة ويستسلم له تارة أخرى، وكان يتحدث عن ما سيفعله بعد خروجه من المستشفى وعن تزويج ابنه وإقلاعه عن التدخين، وبناء منزل أسرته مباشرة في حال تعافيه تماماً خشية أن يعود إليه المرض، بيد أن حقيقة مرضه كانت مؤلمة قاتلة بعد أن بلغ المرض من جسده حداً لا يمكن السيطرة عليه.
ظل يسألنا عن «جرعات الكيماوي والاستئصال»، وكنا نخفي عنه عدم جدواهما في حالته، كان يذبل شيئاً فشيئاً حتى فقد القدرة على المشي ثم الوقوف، وأدرك أخيراً أن لا علاج لحالته.
في «التخصصي» حيث قضى آخر أيامه، تعلمت أن للحياة وجها أكثر قسوة من الموت، وأن في الموت قصصا عظيمة للحياة والوفاء، كم كان قاسياً أن يحدثك أحدهم عن الحياة وهو في عداد الموتى، وكم هو مؤلم أن تقف كل هذه الدنيا بإمكاناتها العظيمة عاجزة عن إنقاذ حياة من تحب.
في أسابيعه الأخيرة، قضمت الأدوية ذاكرة عمي وأنهكها المرض، كانت تخونه الذاكرة من كل شيء إلا ابنه الوحيد وبناته الثماني، فلم يشغل باله شيء في مرضه أكثر منهن، كان يوصي ابنه «انتبه لأخواتك يا عبدالله» وظل يرددها إلى أن رحل.
مات عمي بعد أن امّلق الأمل من يديه، وعضَّ على الحياة بنواجذه، وقلَّبَ
تقويمه الهجري، ووارى أنفاسه الأخيرة بين صفحاته.
لم يسبق لي الكتابة عن الموتى ولا أحب صوغ الرثائيات، بيد أن ثمة حياة أُلقيت على صهوة رحيله، كنت شاهداً فيها على سيرة موته الممتد بين ديسمبر 2018 وأبريل 2019، تدفعني لتناول الفصل الأخير من سيرة أب شجاع قاوم حياته وموته على نحو استثنائي لئلا تتأثر عائلته من وعثاء أيامه، ومتاعب حياته، وألمه الأخير الذي تمكن من جسده وأنهكه بشكل تدريجي إلى أن قضى عليه.
كان عمي مشعلاً وضاءً يوقد عتمة من يستجير به، يحظى بمحبة أبناء قبيلته وتقدير من يعرفه ويتعامل معه لبساطته وعفويته، لا يحيد عن تقاليد مجتمعه ولا ينازعه أحد في الإقدام والإيثار من أجل تماسك «جماعته» وأبناء عمومته.
قبل أن تشرق شمس العام الميلادي الجاري بأيام، حمله وجعه الذي صبر عليه كثيراً إلى المشفى، ودون أن يعرف حقيقة مرضه بالسرطان قضى أسبوعين كاملين يكابد وجعه، فيما كنا نخفيه عنه خشية تأثره وتدهور حالته، لكن غضبه من غموض وضعه وضبابية المعلومات عن حالته، أثار حنقه على صمت الأطباء، إلى أن اضطروا لتبيان حقيقة مرضه، وأذهلت ردة فعله الشجاعة من حوله، حين أقسم أنه لا يخاف السرطان ولا الموت وأنهما ليسا بيد أحد، وقالها لي: «الله هباه والله قادر يحيله».
في شهره الثاني تفاقمت حالته، وأخبرنا الفريق الطبي بوضوح أن أمر علاجه مستحيل، وأن موته مسألة أسابيع فقط بحسب المؤشرات الطبية، ولم يكن يبدو على عمي سوء حالته في بادئ الأمر على نحو ما قاله الأطباء، كان يصطحبنا إلى ركن منزوٍ في المقهى المجاور للمستشفى حيث أمضى أشهره الأخيرة، كان يتشبث بالحياة ويقاوم وجعه الذي يحمله تارة ويستسلم له تارة أخرى، وكان يتحدث عن ما سيفعله بعد خروجه من المستشفى وعن تزويج ابنه وإقلاعه عن التدخين، وبناء منزل أسرته مباشرة في حال تعافيه تماماً خشية أن يعود إليه المرض، بيد أن حقيقة مرضه كانت مؤلمة قاتلة بعد أن بلغ المرض من جسده حداً لا يمكن السيطرة عليه.
ظل يسألنا عن «جرعات الكيماوي والاستئصال»، وكنا نخفي عنه عدم جدواهما في حالته، كان يذبل شيئاً فشيئاً حتى فقد القدرة على المشي ثم الوقوف، وأدرك أخيراً أن لا علاج لحالته.
في «التخصصي» حيث قضى آخر أيامه، تعلمت أن للحياة وجها أكثر قسوة من الموت، وأن في الموت قصصا عظيمة للحياة والوفاء، كم كان قاسياً أن يحدثك أحدهم عن الحياة وهو في عداد الموتى، وكم هو مؤلم أن تقف كل هذه الدنيا بإمكاناتها العظيمة عاجزة عن إنقاذ حياة من تحب.
في أسابيعه الأخيرة، قضمت الأدوية ذاكرة عمي وأنهكها المرض، كانت تخونه الذاكرة من كل شيء إلا ابنه الوحيد وبناته الثماني، فلم يشغل باله شيء في مرضه أكثر منهن، كان يوصي ابنه «انتبه لأخواتك يا عبدالله» وظل يرددها إلى أن رحل.
مات عمي بعد أن امّلق الأمل من يديه، وعضَّ على الحياة بنواجذه، وقلَّبَ
تقويمه الهجري، ووارى أنفاسه الأخيرة بين صفحاته.