-A +A
صدقة يحيى فاضل
يفترض أن يكون «الإعلام» -في أي مكان- لسان حال من يتبعه. ذلك من طبيعة الأمور وبديهياتها. فالإعلام يعبر عن «واقع» معين، ويصفه ويوضحه. وكلما كان الإعلام حرا ولا يخضع سوى للقوانين العامة، كان أصدق وأدق. والعكس صحيح تماما. وللإعلام دور مؤثر في الآخرين في المدى القريب، وقدرة على «تجميل»، أو «تسفيه»، واقع أو وقائع معينة، أو أقوال وأفعال البعض وأوضاعهم. وكلما جانب الحقيقة اقترب من دائرة «الكذب» والتمويه، وانكشف أمره وبانت سوءته، وانصرف الناس عنه. فـ«حبل الإعلام قصير».. وفى نهاية المطاف، فإن الإعلام لا يمكن أن يبني بيوتا لا عماد لها، أو يشيد قصورا في الهواء. يقول مثل حجازي شهير، تدليلا على عدم القدرة على تجميل القبيح في المدى الطويل: «تتعب المقينة في الوجه الغلس». أي يصعب على خبيرة التجميل أن تزين وجها قبيحا أصلا. وهناك مثل مشابه وفي ذات الموضوع يقول ما معناه: «الجميل جميل ولو صحى لتوه من النوم»... بمعنى: يصعب تقبيح الجميل، أو تجميل القبيح، وإن حاول البعض.

و«السياسة» هي: الإدارة العليا للبلاد، أي بلاد. وهي، في الجانب الأهم منها، عبارة عن: الأهداف التي يسعى طرف لتحقيقها تجاه طرف معين آخر، والوسائل التي يتبعها، أو يمكن أن يتبعها، لتحقيق تلك الأهداف. وأهم «وسائل» تحقيق أهداف السياسة بصفة عامة، والسياسة الخارجية بصفة أخص، هي: الدبلوماسية، والأدوات الاقتصادية، ثم الإعلام والأدوات النفسية، والقوة المسلحة أخيرا. وتظل الوسيلة الإعلامية محدودة التأثير في المدى الطويل، خاصة في حالات وجود مصادر إعلامية منافسة، أو محايدة، قوية ومسموعة وموضوعية، إلى أقصى حد ممكن. وتصبح غير فعالة إطلاقا عندما تكون السياسات (الأهداف والوسائل) للطرف المعني مؤذية، أو غير مقبولة من قبل غالبية المعنيين الآخرين. هنا يقع الإعلام «المدافع» في مأزق لا يحسد عليه.


***

ويتفاقم التعثر على المستوى الدولي، في حالات عدم قيام الدولة -أي دولة- بالعملية السياسية الهامة، وهي: التنمية المستدامة، أو «تقوية الذات» بشكل ومضمون سليمين، أو فشل هذه التقوية. لذلك، تظل السياسات المقبولة (من قبل أغلب المعنيين) والتنمية الإيجابية المتواصلة، هي الطريق الأسلم والأصح للبقاء والتقدم والازدهار، واكتساب تقدير واحترام الآخرين بالفعل. فعمل أي دولة على تقوية ذاتها إيجابا، بشكل سليم ومدروس ومتواصل، ونجاحها في ذلك، غالبا ما يضمن للدولة المعنية حاضرا جميلا، ومستقبلا أجمل. وذلك هو أفضل وأقوى إعلام لصالحها. وهو يغرس بالفعل احترام الطرف المعني في قلوب وأعين الناس، بشتى فئاتهم ومشاربهم. وغالبا ما يحصل العكس في حالة وجود سياسات لا تحظى بقبول ومباركة الغالبية المعنية، وتوقف عملية تقوية الذات، أو فشل التنمية وتعثرها.

إن السياسات النزيهة التي تقبل غالبية المعنيين بها، داخليا وخارجيا، هي خير «دعاية» للطرف الذي يقوم بها. أما الدولة التي تتخذ سياسات لا تحظى بقبول معظم المعنيين، فإنها ستجد صعوبة بالغة، خاصة في المدى الطويل، في «تسويق» نفسها، كما تحب، وقبول المعنيين بها، واحترامهم لها، مهما تفننت في تمرير تلك السياسات إعلاميا. فالفيصل هنا هو مضمون سياساتها (لا ما تدعيه). هل هو مرض للغالبية المعنية أم لا ؟! أما الطرف الذى لا يكترث برأي الغالبية، فلا يجب أن يضيع وقته وجهده في الكذب والادعاء الذي غالبا ما يزيد الطينه بلة.

وبالنسبة لتنمية أي دولة، فإنها عملية مستمرة تعني: قيام شعب وحكومة الدولة بتنمية وإصلاح وتطوير وتقوية دولتهم (بمعنى «القوة» الشامل) لجعلها دائما دولة قوية محترمة، قادرة (لأقصى حد ممكن ومتصور) لحماية نفسها، وحفظ حقوقها ورعاية مصالحها، وضمان استقلالها وسيادتها، ورفع شأنها، بسواعد وعقول أبنائها. و«القوة» (Power) لا تقتصر على القوة المسلحة، بالطبع، وإنما تشمل كل «عناصر» قوة الدولة الخشنة والناعمة المعروفة. تنمية الذات تعني: تنمية وتطوير هذه العناصر، بأساليب تنمية كل منها العصرية المعتمدة علميا وعالميا.

وكل دولة تواجه دائما وبطبيعة الحال وطبيعة العلاقات الدولية، أخطارا وتحديات داخلية وخارجية شتى. وخير وأنجع وسيلة لمواجهة هذه التحديات هي: اتخاذ سياسات رشيدة مقبولة، من قبل أغلب المعنيين بهذه السياسات، وفي مقدمتهم شعبها. إضافة إلى تقوية الذات (بالمعنى المشار إليه) وباستمرار. أي تنمية وتطوير كل عناصر القوة فيها، بشكل متواصل. وهذا يحصل عندما يتوفر للدولة نظام سياسي سليم مستقر وفاعل. فالنظام المذكور هو الجهاز الذي يدير الدولة، ويوجهها إما للأمام أو إلى الخلف.

إن تجاهل هذه الحقائق، غالبا ما يعني: حصول تدهور متواصل في سمعة و«قوة» الدولة المعنية... وبالتالي، حصول تدهور متواصل في قدرتها على مواجهة التحديات المختلفة، وفي نوعية الحياة فيها، خاصة عندما لا يحصل تدهور وضعف مماثل في قوة الأطراف المنافسة لها. وفي هذه الحالات، لا يجب «لوم» الإعلام (على عجزه) بل لوم السياسة (على تقصيرها)...

* كاتب سعودي