لأننا نعيش عصراً رقمياً مليئاً بالمصائد المعلوماتية والمكائد التسويقية ومتخماً بالمطالبات الاقتصادية والاتجاهات الاجتماعية، والتي في غالبها ترتكز على البيانات فمن الطبيعي أن نتعرض إلى سيل جارف من الإحصاءات المُباشرة واستطلاعات الرأي والادعاءات الإحصائية في القنوات الإعلامية ووسائل التواصل الاجتماعي. من المؤسف أننا أصبحنا مُستهلكين سلبيين للدعاية الإحصائية، والأسوأ من هذا أننا أصبحنا أنفسنا الوسيلة التي تُعيد تدوير مثل هذه الدعايات.
يقول أحد الخبراء الإحصائيين بعد أن ضاق ذرعاً بالتشوهات الإحصائية التي يتعرض لها العامة، موجهاً النصيحة لهم: «لمجرد أنها بيانات، فهذا لا يعني أنها صادقة. ولمجرد أنها كمية فهذا لا يعني أنها موضوعية». ولعلي أضيف إلى ذلك أن كونها تُقدَّم من خلال رسومات مُزخرفة وأشكال جذابة فهذا لا يعني أنها موثوقة. كل البيانات الإحصائية تقريباً تُثير أسئلة وفضولا وتُشرّع أبواب التساؤل وبعضا من الشكوك، لكن القاعدة الأساسية هنا أنه إذا كانت الإحصاءات بالفعل تستحق التوقف عندها ومشاركتها مع الآخرين، فإنها إذن تستحق الفهم في المقام الأول.
تهدف سلسلة المقالات هذه عن الإحصاءات إلى استزراع الوعي الإحصائي وتقديم بعض النصائح الواقعية وتؤكد على ضرورة احترام السياق الذي ترد به الأرقام والإحصاءات. بالطبع هذه لن تجعلك خبيراً بالإحصاء، لكن من المؤمل أن تجعلك أقل عرضة للتضليل الإحصائي أو الوقوع في قراءات انطباعية خاطئة. كل هذا من أجل أن تصبح مستهلكاً ذكياً للمعلومات والإحصاءات وأن يكون لديك القدرة على اكتشاف الادعاءات الخاطئة ومعرفة أن الإحصاءات والبيانات كذلك تتطلب تفكيراً نقدياً.
يسرد ويكيبيديا بعضاً من الأسباب العمومية التي يمكن أن تؤدي إلى خداع البيانات في الإعلام منها: أن المصدر خبير في موضوع ما لكنه ليس خبيراً إحصائياً، أو أن المصدر خبير إحصائي لكن ليس خبيراً في الموضوع ذاته. أمر ثالث مرتبط بأن الموضوع قيد الدراسة غير محدد بشكل جيد. يقول داريل هوف مؤلف الكتاب الإحصائي الأكثر مبيعاً: «إن المتوسطات والعلاقات والاتجاهات والرسوم البيانية ليست دائماً كما تبدو. قد يكون هناك أبعد مما تراه العين، وربما كان هناك قدر أقل من ذلك بكثير».
من أكثر الدراسات النظرية طرافةً تلك التي قسمت عدداً من الأفراد بشكل عشوائي إلى مجموعتين منفصلتين. حيث تم سؤال أفراد المجموعة الأولى عما إذا كانوا يعتقدون أنه بالإمكان توفير 20% من دخلهم الشهري. وقد أجاب حوالى 50% منهم بنعم. أما المجموعة الثانية فقد تم سؤال أفرادها عمّا إذا كان يمكنهم العيش على 80% من دخلهم الشهري (ضمناً يعني توفير 20%). أفاد ما يقارب 80% بالموافقة. قد تكون عزيزي القارئ بالفعل قد اكتشفت أن السؤال هو نفسه، لكن تم طرحه بطريقتين مختلفتين ومن ثمّ كان التفاوت الجلي في النتيجتين. يقول القائم على هذه التجربة -البسيطة في ظاهرها- إن كيفية تأطير الأشياء يمكن أن يلعب دوراً كبيراً في تفسير بعض الإحصاءات. ولكن بحكم طبيعتها، فإنه غالباً لا يمكن إساءة استخدام الإحصاءات إلا عندما يتخلى الجمهور عن مهمة التحقق منها، وتحديداً اختبار تماسك الحجج أو الأدلة «الإحصائية» من عدمها.
عزيزي القارئ عندما تقرأ تقريراً عن علاقة التدخين بالزواج أو عن علاقة الإنترنت بالذكاء أو علاقة التطعيم بالتوحد أو عن زيادة حالات التحرش أو اتساع الفجوة بين أجور الجنسين، فتذكر دائماً مقولة أحد رؤساء الجمعية الإحصائية الملكية في بريطانيا: «إذا كان الأمر مفاجئا أو غير بديهي بدرجة كافية ليكون ملفتاً لانتباهي، فمن المحتمل أنه خاطئ».
* كاتب سعودي
Dr__Melfi@
يقول أحد الخبراء الإحصائيين بعد أن ضاق ذرعاً بالتشوهات الإحصائية التي يتعرض لها العامة، موجهاً النصيحة لهم: «لمجرد أنها بيانات، فهذا لا يعني أنها صادقة. ولمجرد أنها كمية فهذا لا يعني أنها موضوعية». ولعلي أضيف إلى ذلك أن كونها تُقدَّم من خلال رسومات مُزخرفة وأشكال جذابة فهذا لا يعني أنها موثوقة. كل البيانات الإحصائية تقريباً تُثير أسئلة وفضولا وتُشرّع أبواب التساؤل وبعضا من الشكوك، لكن القاعدة الأساسية هنا أنه إذا كانت الإحصاءات بالفعل تستحق التوقف عندها ومشاركتها مع الآخرين، فإنها إذن تستحق الفهم في المقام الأول.
تهدف سلسلة المقالات هذه عن الإحصاءات إلى استزراع الوعي الإحصائي وتقديم بعض النصائح الواقعية وتؤكد على ضرورة احترام السياق الذي ترد به الأرقام والإحصاءات. بالطبع هذه لن تجعلك خبيراً بالإحصاء، لكن من المؤمل أن تجعلك أقل عرضة للتضليل الإحصائي أو الوقوع في قراءات انطباعية خاطئة. كل هذا من أجل أن تصبح مستهلكاً ذكياً للمعلومات والإحصاءات وأن يكون لديك القدرة على اكتشاف الادعاءات الخاطئة ومعرفة أن الإحصاءات والبيانات كذلك تتطلب تفكيراً نقدياً.
يسرد ويكيبيديا بعضاً من الأسباب العمومية التي يمكن أن تؤدي إلى خداع البيانات في الإعلام منها: أن المصدر خبير في موضوع ما لكنه ليس خبيراً إحصائياً، أو أن المصدر خبير إحصائي لكن ليس خبيراً في الموضوع ذاته. أمر ثالث مرتبط بأن الموضوع قيد الدراسة غير محدد بشكل جيد. يقول داريل هوف مؤلف الكتاب الإحصائي الأكثر مبيعاً: «إن المتوسطات والعلاقات والاتجاهات والرسوم البيانية ليست دائماً كما تبدو. قد يكون هناك أبعد مما تراه العين، وربما كان هناك قدر أقل من ذلك بكثير».
من أكثر الدراسات النظرية طرافةً تلك التي قسمت عدداً من الأفراد بشكل عشوائي إلى مجموعتين منفصلتين. حيث تم سؤال أفراد المجموعة الأولى عما إذا كانوا يعتقدون أنه بالإمكان توفير 20% من دخلهم الشهري. وقد أجاب حوالى 50% منهم بنعم. أما المجموعة الثانية فقد تم سؤال أفرادها عمّا إذا كان يمكنهم العيش على 80% من دخلهم الشهري (ضمناً يعني توفير 20%). أفاد ما يقارب 80% بالموافقة. قد تكون عزيزي القارئ بالفعل قد اكتشفت أن السؤال هو نفسه، لكن تم طرحه بطريقتين مختلفتين ومن ثمّ كان التفاوت الجلي في النتيجتين. يقول القائم على هذه التجربة -البسيطة في ظاهرها- إن كيفية تأطير الأشياء يمكن أن يلعب دوراً كبيراً في تفسير بعض الإحصاءات. ولكن بحكم طبيعتها، فإنه غالباً لا يمكن إساءة استخدام الإحصاءات إلا عندما يتخلى الجمهور عن مهمة التحقق منها، وتحديداً اختبار تماسك الحجج أو الأدلة «الإحصائية» من عدمها.
عزيزي القارئ عندما تقرأ تقريراً عن علاقة التدخين بالزواج أو عن علاقة الإنترنت بالذكاء أو علاقة التطعيم بالتوحد أو عن زيادة حالات التحرش أو اتساع الفجوة بين أجور الجنسين، فتذكر دائماً مقولة أحد رؤساء الجمعية الإحصائية الملكية في بريطانيا: «إذا كان الأمر مفاجئا أو غير بديهي بدرجة كافية ليكون ملفتاً لانتباهي، فمن المحتمل أنه خاطئ».
* كاتب سعودي
Dr__Melfi@