في مسار التاريخ العربي هناك ميل لاستنساخ التجارب، ومحاولة لسلك نفس الطريق على أمل الوصول إلى نفس النقطة، ولكن طباع الشعوب العربية مختلفة، ومدى قوة الدولة العميقة والمؤسسة العسكرية هو عامل مؤثر بشكل كبير، بالإضافة لمدى تغلغل دول خارجية في هذا البلد.
في التاريخ البعيد هذا يأخذنا إلى ثورات الستينات والخمسينات، حيث أتى الضباط لحكم مصر في 1952، وتكرر ذلك في العراق وسورية وليبيا واليمن، وكانت في الأغلب الحركة الأكثر تنظيما هي جماعات الإسلام السياسي، والتي كانت معارضة أو متحالفة في أحيان أخرى، إلا في الحالة السودانية، فقد كان الإخوان على متن الدبابة.
وعانى السودان أكثر من أي بلد عربي، حيث شهد الفقر والفساد والتقسيم، ولم يكن وضع السودان يليق بالشعب السوداني المتعلم، والمشهود بتميزه حينما حل خارج السودان.
وحين أحرق البوعزيزي نفسه، لم تنجح محاولات حرق مواطنين مصريين في الإسكندرية إشعال الثورة، بل حدثت في ميدان التحرير، واليوم نشهد حالات تشابه بين الحالة المصرية والسودانية، وهذا ينطبق على المعارضة السودانية وعلى نظام البشير.
ولأن الرئيس البشير في نهاية الأمر ينتمي لتنظيم الإخوان، فلقد كان لزاما أن يشكل كتائب تابعة له، استخدمت قديما في فض المظاهرات، وعاد واستخدمها ليل الثلاثاء الماضي، حين هاجموا سجن كوبر، بهدف تحرير البشير ورموز نظامه، إلا أن القوى الأمنية ألقت القبض على بعض العناصر التي شنت الهجوم.
وفي هذه الحادثة لا يمكن تصور أن تحدث هذه العملية دون تنسيق خارجي، مع دول خسرت بسقوط البشير، لعدة أسباب على رأسها أن إخراجه من السجن دون تهريبه من البلد لا معنى له، كما أن التحقيق مع البشير وباقي رموز نظامه، غالبا سيظهر ملفات الفساد التي ارتبطت بدول خارجية، وخلفيات ملف تأجير جزيرة سواكن لتركيا.
وحادثة اقتحام السجون وأقسام الشرطة شهدناها في مصر، وتبين دور عناصر حماس في إخراج المجرمين، والذين ضموا محتجزين من عناصر حزب الله والإخوان المسلمين، ودور الحادثة في الإخلال بالأمن، وتحويل رجال الأمن إلى خصوم مستهدفين، بالتالي تقويض الدولة عبر مهاجمة المؤسسة العسكرية.
هذه الحوادث أتت بعد عدة مواقف من المجلس العسكري، داعمة للموقف العربي في القمم الثلاث، مما يزعج دولا مثل إيران كان لها نفوذ حتى وقت قريب في السودان، ويزعج بالطبع قطر التي عادت واعترضت على البيانات الختامية.
الاعتصام وفض الاعتصام يذكر أيضا بما حدث في القاهرة مع كثير من الاختلافات في التفاصيل، ومن الجيد أن النائب العام بدأ تحقيقا، ونتمنى أن يحاسب المسؤولون عن ذلك، علما بأن المسؤولية قد تكون على أطراف من مصلحتها أن يصطدم الجيش بالشارع، لأن هذه الدماء تجلب عادة ضغطا دوليا.
السعودية وعدة أطراف دولية دعت للعودة للحوار، وكانت هناك مبادرة جيدة من رئيس الوزراء الإثيوبي، مثل دعم أفريقيا للسودان، والحوار هو السبيل الوحيد لتجاوز ضعف الثقة الموجودة بين مختلف الأطراف، وإدراك أن هناك دولا هدفها أن لا يعبر السودان للمستقبل.
في أوقات إسقاط الأنظمة وحلول بديل عنها، يتداخل الشأن الداخلي بالخارجي، يخرج الناس إلى الشارع حنقا من الفساد وغضبا من مشاكلهم الداخلية، لكنّ أطرافا خارجية ترى في ذلك «فرصة»، وأطرافا أخرى ترى في مسار سلمي لانتقال السلطة «فرصة ضائعة»، فتهدف لتعطيلها.
أمس الأحد من المفترض أن يكون بدأ عصيان مدني دعت له «قوى الحرية والتغيير»، و«تجمع المهنيين السودانيين»، مستهدفين حسب المعلن ألا ينتهي إلا بقيام حكومة مدنية، والحقيقة أن أول من أكد على ذلك هو المجلس العسكري نفسه، بعد انتهاء مرحلة انتقالية.
القوى المعارضة ترى أنها يجب أن تحكم بشكل كامل ومن اليوم، ووجهة نظر أخرى ترى أن هذه القوى لا تملك التمثيل السياسي الذي يكفل لها ديموقراطيا الحكم، وحركات معارضة تاريخية، تأمل في فرصة تقاعد حكومية، لكن الحل هو في فكرة المشاركة لا المغالبة، وأن يكون مجلس حكم مشترك بين الحركات المدنية والجيش، خلال فترة انتقالية محدودة، تكون أهم خطواتها صياغة دستور سوداني جديد، لمستقبل يستحقه السودانيون.
* كاتب سعودي
Twitter: @aAltrairi
Email: me@aaltrairi.com
في التاريخ البعيد هذا يأخذنا إلى ثورات الستينات والخمسينات، حيث أتى الضباط لحكم مصر في 1952، وتكرر ذلك في العراق وسورية وليبيا واليمن، وكانت في الأغلب الحركة الأكثر تنظيما هي جماعات الإسلام السياسي، والتي كانت معارضة أو متحالفة في أحيان أخرى، إلا في الحالة السودانية، فقد كان الإخوان على متن الدبابة.
وعانى السودان أكثر من أي بلد عربي، حيث شهد الفقر والفساد والتقسيم، ولم يكن وضع السودان يليق بالشعب السوداني المتعلم، والمشهود بتميزه حينما حل خارج السودان.
وحين أحرق البوعزيزي نفسه، لم تنجح محاولات حرق مواطنين مصريين في الإسكندرية إشعال الثورة، بل حدثت في ميدان التحرير، واليوم نشهد حالات تشابه بين الحالة المصرية والسودانية، وهذا ينطبق على المعارضة السودانية وعلى نظام البشير.
ولأن الرئيس البشير في نهاية الأمر ينتمي لتنظيم الإخوان، فلقد كان لزاما أن يشكل كتائب تابعة له، استخدمت قديما في فض المظاهرات، وعاد واستخدمها ليل الثلاثاء الماضي، حين هاجموا سجن كوبر، بهدف تحرير البشير ورموز نظامه، إلا أن القوى الأمنية ألقت القبض على بعض العناصر التي شنت الهجوم.
وفي هذه الحادثة لا يمكن تصور أن تحدث هذه العملية دون تنسيق خارجي، مع دول خسرت بسقوط البشير، لعدة أسباب على رأسها أن إخراجه من السجن دون تهريبه من البلد لا معنى له، كما أن التحقيق مع البشير وباقي رموز نظامه، غالبا سيظهر ملفات الفساد التي ارتبطت بدول خارجية، وخلفيات ملف تأجير جزيرة سواكن لتركيا.
وحادثة اقتحام السجون وأقسام الشرطة شهدناها في مصر، وتبين دور عناصر حماس في إخراج المجرمين، والذين ضموا محتجزين من عناصر حزب الله والإخوان المسلمين، ودور الحادثة في الإخلال بالأمن، وتحويل رجال الأمن إلى خصوم مستهدفين، بالتالي تقويض الدولة عبر مهاجمة المؤسسة العسكرية.
هذه الحوادث أتت بعد عدة مواقف من المجلس العسكري، داعمة للموقف العربي في القمم الثلاث، مما يزعج دولا مثل إيران كان لها نفوذ حتى وقت قريب في السودان، ويزعج بالطبع قطر التي عادت واعترضت على البيانات الختامية.
الاعتصام وفض الاعتصام يذكر أيضا بما حدث في القاهرة مع كثير من الاختلافات في التفاصيل، ومن الجيد أن النائب العام بدأ تحقيقا، ونتمنى أن يحاسب المسؤولون عن ذلك، علما بأن المسؤولية قد تكون على أطراف من مصلحتها أن يصطدم الجيش بالشارع، لأن هذه الدماء تجلب عادة ضغطا دوليا.
السعودية وعدة أطراف دولية دعت للعودة للحوار، وكانت هناك مبادرة جيدة من رئيس الوزراء الإثيوبي، مثل دعم أفريقيا للسودان، والحوار هو السبيل الوحيد لتجاوز ضعف الثقة الموجودة بين مختلف الأطراف، وإدراك أن هناك دولا هدفها أن لا يعبر السودان للمستقبل.
في أوقات إسقاط الأنظمة وحلول بديل عنها، يتداخل الشأن الداخلي بالخارجي، يخرج الناس إلى الشارع حنقا من الفساد وغضبا من مشاكلهم الداخلية، لكنّ أطرافا خارجية ترى في ذلك «فرصة»، وأطرافا أخرى ترى في مسار سلمي لانتقال السلطة «فرصة ضائعة»، فتهدف لتعطيلها.
أمس الأحد من المفترض أن يكون بدأ عصيان مدني دعت له «قوى الحرية والتغيير»، و«تجمع المهنيين السودانيين»، مستهدفين حسب المعلن ألا ينتهي إلا بقيام حكومة مدنية، والحقيقة أن أول من أكد على ذلك هو المجلس العسكري نفسه، بعد انتهاء مرحلة انتقالية.
القوى المعارضة ترى أنها يجب أن تحكم بشكل كامل ومن اليوم، ووجهة نظر أخرى ترى أن هذه القوى لا تملك التمثيل السياسي الذي يكفل لها ديموقراطيا الحكم، وحركات معارضة تاريخية، تأمل في فرصة تقاعد حكومية، لكن الحل هو في فكرة المشاركة لا المغالبة، وأن يكون مجلس حكم مشترك بين الحركات المدنية والجيش، خلال فترة انتقالية محدودة، تكون أهم خطواتها صياغة دستور سوداني جديد، لمستقبل يستحقه السودانيون.
* كاتب سعودي
Twitter: @aAltrairi
Email: me@aaltrairi.com