كما في الملاحم الأسطورية حيث يرفض البطل أن يعترف بالهزيمة، ويلقي نفسه في ساحات الوغى مفضلاً الموت بسيوف العدو على تجرع إحساس الانكسار، هكذا كان موت عبدالباسط الساروت، وكأن الثورة السورية كانت بحاجة إلى هذا المشهد الختامي حيث يسدل الستار بعده على كثير من الفجيعة وشلال هادر من الحزن. تقلب ناظريك اليوم على ما تبقى من سيرة الثورة الأولى وشخوصها فلا تراهم، فإما شهيداً أو أسيراً أو من تجنب حد السيف فمات بغيره. من إبراهيم القاشوش مروراً بفدوى سليمان ومي سكاف وعشرات آخرين وانتهاء بالشهيد عبدالباسط الساروت، طوت الثورة بكل تقلباتها صفحاتهم ليتركونا أيتاماً على مأدبة اللئام. رفض الساروت أن يعترف بالمآل الذي وصلت إليه الثورة، ورفض أن يعترف أن سوريا لم تعد سوى قطعة حلوى على مأدبة تركية وإيرانية وروسية وأمريكية. حاول حتى الرمق الأخير أن يحافظ على رومانسية الثورة باعتبار أنها ميدان الشجعان وساحة الأبطال، بينما في حقيقة الأمر تم طعن الثورة واعتقالها وتعذيبها منذ أن سمح النظام الدولي والإقليمي أن يسيطر النظام على مدينة حمص وأن يرتكب فيها بالتعاون مع المليشيات الإيرانية ومليشيات حزب الله ما ارتكبه. منذ تلك اللحظة كان على الثورة أن تدخل في زواريب التسويات الإقليمية ومعايير التسويات الدولية. لم يكن قرار الثورة قراراً سورياً، ولم يكن مآلها قراراً سورياً، ولم تعد منذ شهورها الأولى تصوراً رومانسياً عن الحرية والعدالة؛ لذلك كان القرار الدولي بإبقاء الأسد ونظامه، وحين ذاك كان على الثورة أن تحارب العالم برمته.
بدأ الساروت المولود في حمص العدية مع انطلاقة الثورة بالمشاركة في المظاهرات على اعتبار أن الوصفة بسيطة، مظاهرات تشمل البلاد برمتها ثم اعتصام هنا وهناك، وأخيراً الرئيس يهرب إلى خارج البلاد أو يعلن تنحيه عن السلطة. وحتى يتحقق كل ذلك كان على الثورة أن تلتزم بسلميتها، وأن يعلن الشعب السوري بأنه شعب واحد، وهذا ما صدحت به حنجرة عبدالباسط الساروت (السني) مع فدوى سليمان (العلوية) ومي سكاف (المسيحية) وشيوخ الكرامة (الدروز)، في لوحة كان الجميع حريص عليها. وحدة السوريين وسلمية حراكهم لم تكن لتقنع العالم المنافق بضرورة التغيير في سوريا، باستثناء كلمات التأييد وحق الشعوب بالحرية لم يحظَ الشعب المنكوب بأي مساندة سياسية ذات قيمة. فهم الساروت ذلك فترك ساحات التظاهر لينضم إلى ساحات المجابهة، وانضم إلى كتيبة شهداء البياضة، على أساس أن ما لم تستطع المظاهرات تحقيقه قد تستطيع المقاومة العسكرية أن تفعل، فتشكل الجيش السوري الحر. لم يكن خيار الانتقال من النضال السلمي إلى العمل العسكري خياراً سهلاً ولكن الساروت كما معظم السوريين أرادوا أن يضعوا حدّاً لدمائهم المسالة بغزارة. ولكنهم فتحوا المجال واسعاً لكل من أراد التلاعب بالثورة، فتم جرجرة الثورة كما الساروت إلى نفق مظلم من التيارات الأيديولوجية التي ظهرت لتقاوم ظاهرياً المليشيات الطائفية التي استدعاها النظام وحلفاؤه، ثم ما لبثت الثورة أن قبلت ضمناً تيارات الإسلام السياسي والجهادي بمختلف تلاوينه. وهكذا تكرست الصفحة الثالثة من حياة عبدالباسط الثورية.
حافظ الساروت بالرغم من تقلباته التي تماهت مع تقلبات الثورة على براءته الثورية، فالمعيار لديه هو وحدة الهدف والمقدار الذي يسير فيه هذا الفصيل أو ذلك لمواجهة النظام الذي أسبغ عليه كل الشرور، خصوصاً أن هذا النظام هو المسؤول عن اغتيال أخوته، وبالتالي لم يستطع أن يفهم أو يتفهم تلك الحسابات السياسية التي كانت تعبر عنها المعارضة السورية. ترافق ذلك مع تشتت الثورة وتمزقها سياسياً وعسكرياً ونمو التنظيمات المسلحة كما تنمو حقول الفطر. لا شك أن الساروت أصابه الإحباط كما أصاب معظم السوريين فلجأ إلى السماء، إلى البعد الديني ومن هنا يمكن فهم التغيير الذي طرأ على شخصية الساروت وانضمامه إلى التنظيمات الإسلامية. ولكن تلك التنظيمات سقطت واكتشف كثير من السوريين زيف ادعاءاتهم وفساد منهجهم وقتلهم من السوريين أكثر مما قتلوا من النظام، وأمام شخصية كشخصية الساروت لم يكن من الصعب عليه أن يتراجع وأن يعود إلى مبدأ الثورة ومطالبها وتصوراتها الأولى التي لم تفارقه على طول الطريق.
انتهت الثورة أو تكاد باعتبار وجودها الجغرافي وحتى إيمان شريحة واسعة من السوريين بها، مع استمرار الإيمان بأحقيتها وعدالة قضيتها. معظم السوريين اعترفوا بتلكم الحقيقة، تحولت الثورة إلى توازنات إقليمية وقواعد عسكرية ومن بقي يحمل السلاح أصبح يتبع لهذا الطرف الدولي أو الإقليمي أو ذاك. الساروت آمن بالسيرة الأولى للثورة ولم يكن ليختار نهاية لروايته سوى ما انتهى إليه، شهيداً محمولاً على الأكف ليوارى في تراب وطن لطالما تغنى به وحلم بحريته. صفحة أخرى من سفر المأساة السورية تطوى على مشهد دونكيشوتي حيث البطل في تراجيديتنا يرفض أن يعترف بأن زمن الفرسان والنبلاء قد ولى... فيصبح هو النبيل الأخير.
* باحث في الفلسفة السياسية، خبير في قضايا الشرق الأوسط
ramialkhalife@
بدأ الساروت المولود في حمص العدية مع انطلاقة الثورة بالمشاركة في المظاهرات على اعتبار أن الوصفة بسيطة، مظاهرات تشمل البلاد برمتها ثم اعتصام هنا وهناك، وأخيراً الرئيس يهرب إلى خارج البلاد أو يعلن تنحيه عن السلطة. وحتى يتحقق كل ذلك كان على الثورة أن تلتزم بسلميتها، وأن يعلن الشعب السوري بأنه شعب واحد، وهذا ما صدحت به حنجرة عبدالباسط الساروت (السني) مع فدوى سليمان (العلوية) ومي سكاف (المسيحية) وشيوخ الكرامة (الدروز)، في لوحة كان الجميع حريص عليها. وحدة السوريين وسلمية حراكهم لم تكن لتقنع العالم المنافق بضرورة التغيير في سوريا، باستثناء كلمات التأييد وحق الشعوب بالحرية لم يحظَ الشعب المنكوب بأي مساندة سياسية ذات قيمة. فهم الساروت ذلك فترك ساحات التظاهر لينضم إلى ساحات المجابهة، وانضم إلى كتيبة شهداء البياضة، على أساس أن ما لم تستطع المظاهرات تحقيقه قد تستطيع المقاومة العسكرية أن تفعل، فتشكل الجيش السوري الحر. لم يكن خيار الانتقال من النضال السلمي إلى العمل العسكري خياراً سهلاً ولكن الساروت كما معظم السوريين أرادوا أن يضعوا حدّاً لدمائهم المسالة بغزارة. ولكنهم فتحوا المجال واسعاً لكل من أراد التلاعب بالثورة، فتم جرجرة الثورة كما الساروت إلى نفق مظلم من التيارات الأيديولوجية التي ظهرت لتقاوم ظاهرياً المليشيات الطائفية التي استدعاها النظام وحلفاؤه، ثم ما لبثت الثورة أن قبلت ضمناً تيارات الإسلام السياسي والجهادي بمختلف تلاوينه. وهكذا تكرست الصفحة الثالثة من حياة عبدالباسط الثورية.
حافظ الساروت بالرغم من تقلباته التي تماهت مع تقلبات الثورة على براءته الثورية، فالمعيار لديه هو وحدة الهدف والمقدار الذي يسير فيه هذا الفصيل أو ذلك لمواجهة النظام الذي أسبغ عليه كل الشرور، خصوصاً أن هذا النظام هو المسؤول عن اغتيال أخوته، وبالتالي لم يستطع أن يفهم أو يتفهم تلك الحسابات السياسية التي كانت تعبر عنها المعارضة السورية. ترافق ذلك مع تشتت الثورة وتمزقها سياسياً وعسكرياً ونمو التنظيمات المسلحة كما تنمو حقول الفطر. لا شك أن الساروت أصابه الإحباط كما أصاب معظم السوريين فلجأ إلى السماء، إلى البعد الديني ومن هنا يمكن فهم التغيير الذي طرأ على شخصية الساروت وانضمامه إلى التنظيمات الإسلامية. ولكن تلك التنظيمات سقطت واكتشف كثير من السوريين زيف ادعاءاتهم وفساد منهجهم وقتلهم من السوريين أكثر مما قتلوا من النظام، وأمام شخصية كشخصية الساروت لم يكن من الصعب عليه أن يتراجع وأن يعود إلى مبدأ الثورة ومطالبها وتصوراتها الأولى التي لم تفارقه على طول الطريق.
انتهت الثورة أو تكاد باعتبار وجودها الجغرافي وحتى إيمان شريحة واسعة من السوريين بها، مع استمرار الإيمان بأحقيتها وعدالة قضيتها. معظم السوريين اعترفوا بتلكم الحقيقة، تحولت الثورة إلى توازنات إقليمية وقواعد عسكرية ومن بقي يحمل السلاح أصبح يتبع لهذا الطرف الدولي أو الإقليمي أو ذاك. الساروت آمن بالسيرة الأولى للثورة ولم يكن ليختار نهاية لروايته سوى ما انتهى إليه، شهيداً محمولاً على الأكف ليوارى في تراب وطن لطالما تغنى به وحلم بحريته. صفحة أخرى من سفر المأساة السورية تطوى على مشهد دونكيشوتي حيث البطل في تراجيديتنا يرفض أن يعترف بأن زمن الفرسان والنبلاء قد ولى... فيصبح هو النبيل الأخير.
* باحث في الفلسفة السياسية، خبير في قضايا الشرق الأوسط
ramialkhalife@