-A +A
إبراهيم إسماعيل كتبي
في معظم المجتمعات، إن لم يكن جميعها، يترحم الكثيرون على أيام زمان بعاداتها وقيمها، وكأنها (نوستالجيا) أو اغتراب فردي وجمعي في عصر تتبدل فيه ملامح النسق الاجتماعي بين الأجيال خاصة والمجتمع عامة، بانشغال الفرد باهتمامات ذاتية سلخت النفوس داخل كثير من الأسر، وتجاه الآباء والأجداد، باعتبارهم الأكثر شعورا بالاغتراب الاجتماعي وهو الأقصى على النفس، ولا ينجو منه إلا من غرس النبتة الحسنة للفضائل بتغذية الإحساس بالرباط الأسري والمجتمعي، فيحصد في حياته وفاء أبنائه مهما بعدت مسافات الأماكن ودوامة المشاغل، حيث ظل التواصل والواجبات حية في الوجدان والسلوك الجامع للقلوب.

كم من أسر يجمعها المكان لكن لا معالم للمظهر الجماعي سوى جدران خارجية، أما داخلها فيشهد عزلة نفسية وذهنية تضيع معها واجبات كثيرة، وهنا يكون الحنين إلى روح (اللمّة) مع الأبناء والأحفاد الذين انشغلوا بعالم خاص لا يتجاوز أنظارهم المشدودة إلى العالم الافتراضي، الذي سرق من السواد الأعظم واجبات الإنسان وروح التواصل الحقيقي والإحساس بالبشر، وبالحياة التي لم تعد تتسع متغيراتها لحقوق تتسرب ويحل محلها إهمال وربما عقوق لا سمح الله، وهكذا تعيش أسر وأزواج وزوجات وأبناء ومجتمعات واسعة تسرق منه حياة العصر روحه الجميلة.


الإشكالية أن التغير الاجتماعي بات عولمي الطابع والتأثير، بفعل التطور في وسائل التواصل الإلكتروني دون ضبط الإنسان لمدى تعامله معها، حتى بلغ حد الإدمان على الإنترنت خاصة الأطفال بعد أن كنا من قبل نخشى على المراهقين منه، على عكس الطفولة زمان وقد كانت ألعابهم مادية بسيطة يرتبطون بها لوقت لا يطول ليقضوا ساعات أفضل مع ذويهم، وليس كالحاصل اليوم مع هذه الأجهزة الساحرة، ويشبوا على العالم الافتراضي وما فيه من المباح وغير المباح من ألعاب قاتلة ومشاهد مؤذية، وهذا أول ضياع لإرادة التحكم المسلوبة أمام الإدمان الإلكتروني.

كان الأبناء والبنات -صغارا وشبابا- يستيقظون على فطور أسري ويستقبلون الأب بعد عودته من العمل لتجمعهم وجبة الغذاء في ميعاد معلوم، لكن تغيرت هذه العادات والصور الجميلة من الروح الأسرية، وكذا الواجبات الاجتماعية في المحيط الواسع التي أصابتها مظاهر العطب مع تراجع الزيارات وندرة التواصل الحقيقي، حتى المناسبات باتت مجرد أداء واجب ليس أكثر.

حقوق الآباء والأمهات والأجداد والجدات عظيمة، وفيها سر الترابط وروح القيم الأصيلة من البذل للوقت والجهد والرعاية تجاههم، وفي هذا يطول الحديث عن الوفاء وسلوك الاحترام والتوقير، والحب العامر بالسؤال والزيارة والحوار، وكل ما هو جميل من الواجبات.

لا نلوم الأبناء إذا ابتعدوا عن هذه الدائرة عندما يتغير الجو الأسري ويضعف الدور التربوي بانشغال الأب أو الأم أو كليهما عن هذه القيم، وبقدر غرسهم لها يكون حصادهم من أبنائهم وبناتهم وهم بين ظهرانيهم أو عندما يستقلون بزواجهم وحياتهم العملية.

هذه الأمور التربوية مهمة وأساسية، لكن كثيرين يغفلون عنها دون إدراك بأن الحياة ليست مجرد وقت نعيشه وتمضي السنون دون قيم جميلة دونها تصبح النفس خاوية تسرق جمال الحياة، وتضيّع عبقها، فالإنسان كرمه الله بما هو أهل له من تكليفات العبادة والخلق القويم وإثراء العمر بما يفيد الحياة ويعود على البناء الأسري والمحيط الاجتماعي بالإيجابية والترابط. ومن هنا تستحق الأسرة الكثير من الاهتمام والرعاية وصحيح التربية في زمن صعب، ولهذا يستحق الأمر مزيدا من الحديث.

* كاتب سعودي