من يقرأ الكتب والمقالات التي تتناول السياسة الخارجية السعودية وتحديداً تأثير الإسلام عليها، لابد أن يلحظ النزعة التبسيطية في فهم وتفسير السياسة السعودية وعلاقتها بالإسلام، لذلك رأيت تخصيص هذا المقال الطويل لبيان طبيعة العلاقة العضوية بين الإسلام والسياسة الخارجية السعودية.
لا تختلف السياسة الخارجية السعودية عن غيرها من حيث الأهداف المركزية التي تسعى إلى تحقيقها والمرتبطة بوجود الدولة وحماية أمنها واستقرارها وتنمية مواردها وتعزيز قدراتها وتحقيق الرفاه لمواطنيها. هذه الأهداف التي تشكِل في مجموعها المصلحة الوطنية التي تتحرك من أجلها السياسة الخارجية للدولة أيا كان حجمها أو موقعها الجغرافي أو تاريخها وثقافتها أو مدى وفرة مواردها. فدول كبرى مثل الصين والولايات المتحدة تشترك في سعيها لتحقيق هذه الأهداف الرئيسة مع دول صغيرة مثل البحرين ومالطا.
والسياسة الخارجية للمملكة ومنذ السنوات الأولى للتأسيس تمحورت حول هذه الأهداف مع مراعاة ما يطرأ على البيئتين الإقليمية والدولية من تغيرات والتكيف المستمر معها. وقد وظفت المملكة كافة الأدوات المتاحة وتحديداً الدبلوماسية والإمكانات الاقتصادية كما استثمرت مختلف الأطر الثنائية والمتعددة والمؤسسات الإقليمية والدولية ما ضمن لها سجلاً من النجاح في استثمار الفرص ومواجهة التهديدات على مدى ثمانية عقود.
وحين نتجاوز هذا النطاق الضيق والمشترك بين كافة الدول لمفهوم المصلحة الوطنية، سنجد أن المملكة ومجموعة من الدول توفرت لها معطيات حتّمت عليها الانتقال إلى دائرة أكبر من الأهداف التي لا تبدو محورية مقارنة بالأولى، إلا أنها تتسم بأهمية من منظور صانع القرار الذي يضعها ضمن مكونات السياسة الخارجية ويبذل الجهود والإمكانات لتحقيقها. ولعل حالة الدول الكبرى تعد نموذجاً واضحاً لهذا المفهوم الواسع للمصلحة الوطنية؛ فعلى سبيل المثال نجد أن الولايات المتحدة منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية قد جعلت الدفاع عن النظام الاقتصادي والسياسي الليبرالي الدولي ونشر قيمه هدفاً ثابتاً في تحركاتها الخارجية. في المقابل أخذ الاتحاد السوفيتي السابق على عاتقه مسؤولية الدفاع عن الأيديولوجية الشيوعية ونشرها في كافة أنحاء العالم. وبلاشك فإن هذا «الهم العالمي» لم يكن بمعزل عن المصلحة الوطنية في مفهومها الضيق في كلتا الحالتين، إلا أن التداخل بينهما معقد إلى درجة يصعب معها التمييز سوى في حالات قليلة مثل أن تضحي الدولة الكبرى بشركاء أيديولوجيين محليين لها من أجل الحفاظ على مصالحها الوطنية.
على المستوى الإقليمي هناك دول؛ ومنها المملكة، توفرت لها معطيات حتمت عليها هي الأخرى توسيع دائرة مفهوم المصلحة الوطنية. في مقدمة هذه المعطيات بالنسبة للمملكة أنها مهبط الوحي ومهد الرسالة واحتضانها الحرمين الشريفين والكعبة المشرفة التي يتوجه لها المسلمون يومياً في كافة أنحاء العالم. هذه المعطيات منحت المملكة قوة روحانية تتجسد في جاذبية كبيرة نحوها بين عامة المسلمين ونخبهم وقناعة بدور قيادي لها واستطاعت ترجمة هذه القوة الروحية إلى تأثير واضح في العالم الإسلامي وخارجه.
من جانب آخر، فهذه المعطيات لها استحقاقات شكلت مسؤولية على المملكة ليس لها خيار في تحملها. فالتقدير الذي تتمتع به في أوساط المسلمين بسبب تلك المعطيات يرافقه توقع بتحمل مسؤولية هذا الشرف العظيم الذي تفردت به ويتمثل في الدفاع عن الإسلام ونصرة المسلمين وتبني قضاياهم.
إذن هذه مسؤولية قائمة ما بقيت تلك المعطيات وليست خياراً يمكن التخلي عنه بسهولة وإن كان يمكن تكييفها حسب مقتضيات البيئة الخارجية. ولا يقتصر أثر هذه «الحقيقة» المتمثلة في مكونات القوة الروحية على تحمل الدولة مسؤوليات إضافية، بل يتعداه إلى تشكيل إطار عام للسياسة الخارجية السعودية؛ حيث أصبحت متغيراً ثابتاً في تشكيل السياسة الخارجية للمملكة. فالإسلام يعد أحد الموارد الرئيسة التي تغذي ثقافة المجتمع السعودي وأفراده ومنهم بالطبع قيادته السياسية وتسهم في توجيه نظرتهم للعالم من حولهم داخليا وخارجياً. وكما هو معروف في دراسات السياسة الخارجية فإن النسق العقدي لصانع القرار الذي يتمثل في المعتقدات التي تحدد نظرته للعالم من حوله وموقع دولته منه وكذلك نظرته للخصوم والأصدقاء وطبيعة العلاقات السائدة يمثل أحد المؤثرات المهمة على السياسة الخارجية.
ولذلك يمكن القول إن الإسلام الذي يسهم في تشكيل هذا النسق العقدي لصناع القرار في المملكة يسهم أيضا في تشكيل توجهات السياسة الخارجية السعودية. ولذلك فالعلاقة بين الإسلام والسياسة الخارجية السعودية تبدو أكثر تعقيداً مما يعتقده البعض الذي يحصرها في جانبها الوظيفي وينظر إليها من زاوية أدوات السياسة الخارجية. فالمصلحة الوطنية بمفهومها الواقعي التي تمثل بوصلة السياسة الخارجية لأي دولة جعلت البعض لا يرى في المعتقدات والقيم والأيديولوجيات سوى غطاء ومبرر يوظف عند الحاجة لتحقيق مصالح مادية صرفه ولا يقيم لها تأثيرا. مثل هذا الرأي لا يستقيم لفهم السياسة الخارجية لدول يكاد الدين يهمين على تفاصيل حياة أفرادها. وهذا هو حال المملكة التي يمثل فيها الإسلام الإطار الحاكم للتوجهات والممارسات الحياتية اليومية. ومن ثم لا يمكن إنكار دوره في تشكيل العدسة التي ينظر السعوديون من خلالها لأنفسهم ولغيرهم.
هذا التأثير للإسلام في توجهات السعوديين ليس متساوياً أو جامداً بالطبع، بل يتحدد وفق علاقة تفاعلية بينه وبين مؤثرات أخرى مادية وفكرية تسهم جميعها في تشكيل منظومة القيم السعودية.. (يتبع)
* رئيس لجنة الشؤون الخارجية بمجلس الشورى
لا تختلف السياسة الخارجية السعودية عن غيرها من حيث الأهداف المركزية التي تسعى إلى تحقيقها والمرتبطة بوجود الدولة وحماية أمنها واستقرارها وتنمية مواردها وتعزيز قدراتها وتحقيق الرفاه لمواطنيها. هذه الأهداف التي تشكِل في مجموعها المصلحة الوطنية التي تتحرك من أجلها السياسة الخارجية للدولة أيا كان حجمها أو موقعها الجغرافي أو تاريخها وثقافتها أو مدى وفرة مواردها. فدول كبرى مثل الصين والولايات المتحدة تشترك في سعيها لتحقيق هذه الأهداف الرئيسة مع دول صغيرة مثل البحرين ومالطا.
والسياسة الخارجية للمملكة ومنذ السنوات الأولى للتأسيس تمحورت حول هذه الأهداف مع مراعاة ما يطرأ على البيئتين الإقليمية والدولية من تغيرات والتكيف المستمر معها. وقد وظفت المملكة كافة الأدوات المتاحة وتحديداً الدبلوماسية والإمكانات الاقتصادية كما استثمرت مختلف الأطر الثنائية والمتعددة والمؤسسات الإقليمية والدولية ما ضمن لها سجلاً من النجاح في استثمار الفرص ومواجهة التهديدات على مدى ثمانية عقود.
وحين نتجاوز هذا النطاق الضيق والمشترك بين كافة الدول لمفهوم المصلحة الوطنية، سنجد أن المملكة ومجموعة من الدول توفرت لها معطيات حتّمت عليها الانتقال إلى دائرة أكبر من الأهداف التي لا تبدو محورية مقارنة بالأولى، إلا أنها تتسم بأهمية من منظور صانع القرار الذي يضعها ضمن مكونات السياسة الخارجية ويبذل الجهود والإمكانات لتحقيقها. ولعل حالة الدول الكبرى تعد نموذجاً واضحاً لهذا المفهوم الواسع للمصلحة الوطنية؛ فعلى سبيل المثال نجد أن الولايات المتحدة منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية قد جعلت الدفاع عن النظام الاقتصادي والسياسي الليبرالي الدولي ونشر قيمه هدفاً ثابتاً في تحركاتها الخارجية. في المقابل أخذ الاتحاد السوفيتي السابق على عاتقه مسؤولية الدفاع عن الأيديولوجية الشيوعية ونشرها في كافة أنحاء العالم. وبلاشك فإن هذا «الهم العالمي» لم يكن بمعزل عن المصلحة الوطنية في مفهومها الضيق في كلتا الحالتين، إلا أن التداخل بينهما معقد إلى درجة يصعب معها التمييز سوى في حالات قليلة مثل أن تضحي الدولة الكبرى بشركاء أيديولوجيين محليين لها من أجل الحفاظ على مصالحها الوطنية.
على المستوى الإقليمي هناك دول؛ ومنها المملكة، توفرت لها معطيات حتمت عليها هي الأخرى توسيع دائرة مفهوم المصلحة الوطنية. في مقدمة هذه المعطيات بالنسبة للمملكة أنها مهبط الوحي ومهد الرسالة واحتضانها الحرمين الشريفين والكعبة المشرفة التي يتوجه لها المسلمون يومياً في كافة أنحاء العالم. هذه المعطيات منحت المملكة قوة روحانية تتجسد في جاذبية كبيرة نحوها بين عامة المسلمين ونخبهم وقناعة بدور قيادي لها واستطاعت ترجمة هذه القوة الروحية إلى تأثير واضح في العالم الإسلامي وخارجه.
من جانب آخر، فهذه المعطيات لها استحقاقات شكلت مسؤولية على المملكة ليس لها خيار في تحملها. فالتقدير الذي تتمتع به في أوساط المسلمين بسبب تلك المعطيات يرافقه توقع بتحمل مسؤولية هذا الشرف العظيم الذي تفردت به ويتمثل في الدفاع عن الإسلام ونصرة المسلمين وتبني قضاياهم.
إذن هذه مسؤولية قائمة ما بقيت تلك المعطيات وليست خياراً يمكن التخلي عنه بسهولة وإن كان يمكن تكييفها حسب مقتضيات البيئة الخارجية. ولا يقتصر أثر هذه «الحقيقة» المتمثلة في مكونات القوة الروحية على تحمل الدولة مسؤوليات إضافية، بل يتعداه إلى تشكيل إطار عام للسياسة الخارجية السعودية؛ حيث أصبحت متغيراً ثابتاً في تشكيل السياسة الخارجية للمملكة. فالإسلام يعد أحد الموارد الرئيسة التي تغذي ثقافة المجتمع السعودي وأفراده ومنهم بالطبع قيادته السياسية وتسهم في توجيه نظرتهم للعالم من حولهم داخليا وخارجياً. وكما هو معروف في دراسات السياسة الخارجية فإن النسق العقدي لصانع القرار الذي يتمثل في المعتقدات التي تحدد نظرته للعالم من حوله وموقع دولته منه وكذلك نظرته للخصوم والأصدقاء وطبيعة العلاقات السائدة يمثل أحد المؤثرات المهمة على السياسة الخارجية.
ولذلك يمكن القول إن الإسلام الذي يسهم في تشكيل هذا النسق العقدي لصناع القرار في المملكة يسهم أيضا في تشكيل توجهات السياسة الخارجية السعودية. ولذلك فالعلاقة بين الإسلام والسياسة الخارجية السعودية تبدو أكثر تعقيداً مما يعتقده البعض الذي يحصرها في جانبها الوظيفي وينظر إليها من زاوية أدوات السياسة الخارجية. فالمصلحة الوطنية بمفهومها الواقعي التي تمثل بوصلة السياسة الخارجية لأي دولة جعلت البعض لا يرى في المعتقدات والقيم والأيديولوجيات سوى غطاء ومبرر يوظف عند الحاجة لتحقيق مصالح مادية صرفه ولا يقيم لها تأثيرا. مثل هذا الرأي لا يستقيم لفهم السياسة الخارجية لدول يكاد الدين يهمين على تفاصيل حياة أفرادها. وهذا هو حال المملكة التي يمثل فيها الإسلام الإطار الحاكم للتوجهات والممارسات الحياتية اليومية. ومن ثم لا يمكن إنكار دوره في تشكيل العدسة التي ينظر السعوديون من خلالها لأنفسهم ولغيرهم.
هذا التأثير للإسلام في توجهات السعوديين ليس متساوياً أو جامداً بالطبع، بل يتحدد وفق علاقة تفاعلية بينه وبين مؤثرات أخرى مادية وفكرية تسهم جميعها في تشكيل منظومة القيم السعودية.. (يتبع)
* رئيس لجنة الشؤون الخارجية بمجلس الشورى