في عالم السياسة لا تدافع غالبية الدول عن مصالح دول أخرى وإنما عن مصالحها أولاً ثم عن المنفعة المتبادلة والمصالح المشتركة دون أي اعتبارات أخرى، وتحت مظلة هذا «المبدأ»، نجحت جماعة الإخوان كأحد أخطر تيارات الإسلام السياسي في الانتشار والتفرع والتجذر في أماكن كثيرة حول العالم، ونتيجة للمصالح والمكاسب السياسية ظل ملف تجريم الإخوان وتصنيفهم كمنظمة إرهابية معلقاً في أمريكا وأوروبا، لأن تبني مثل هذا التوجه لا يقاس بناء على ما طرح من انتقادات في الكونغرس أو من خلال ما تم تداوله من تقارير ودراسات هي في حقيقة الأمر مجرد شكليات أمام أكوام لا محدودة من الملفات السرية، التي لا يكشف عنها إلا بعد مرور عقود على الانتهاء منها.
ونستشهد بالإمبراطورية البريطانية التي كانت مهتمة بعودة الخلافة الإسلامية في القرن التاسع عشر والداعم الأول لفكرة «الجامعة الإسلامية» التي تبنتها الدولة العثمانية في عهد السلطان عبدالحميد الثاني بعد أن ترهلت دولته وشاخت بسبب سلسلة من المشكلات الاقتصادية وتراكم الديون العمومية ولجوئها إلى رفع الضرائب على مناطق البلقان، وعدم الاستثمار في المجالات التنموية وهو ما جعلها تتخلف عن ركب الحضارة والتطور فداهمتها ثورات وفتن داخلية حتى أوشكت على السقوط وأصبحت تلقب بـ«رجل أوروبا المريض»، فخرج السلطان عبدالحميد ينادي بـ«الجامعة الإسلامية»، وهي فكرة «دينية» في ظاهرها ولكنها سياسية الغاية، والهدف منها استجداء نصرة الشعوب الإسلامية وضمهم تحت لوائه لدعمه في الوقوف ضد الأطماع الغربية، فقام باستغلال مشروعه الديني لجمع التبرعات لدولته ولتمويل حربه مع روسيا.
ومشروع «الجامعة الإسلامية» هو على الأرجح ليس من بنات أفكار السلطان عبدالحميد بقدر ما أنها فكرة مستحدثة من موجة «الجامعات» السياسية التي انتشرت في الغرب خلال تلك الحقبة، مثل «الجامعة السلافية» التي أعلن عنها خلال مؤتمر عقد في روسيا عام 1868 بهدف جمع السلافيين في أوروبا، وكذلك قامت ألمانيا بالأمر ذاته في 1871 بإقامة «الجامعة الألمانية» بهدف توحيد العرق الآري تحت مظلتها.
وتنفيذاً لأهداف «الجامعة الإسلامية» قام السلطان عبدالحميد في العام 1876 بترقية لقبه من «سلطان» إلى «الخليفة الأكبر» وفقاً لتعديلات رسمية أجراها على المادتين الثالثة والرابعة من الدستور العثماني، وذلك بعد أن حصل على فتوى من أبو الهدى الصيادي «شيخ الطريقة الرفاعية»، أسقط بموجبها شرط النسب القرشي في الاستخلاف، ثم انطلق الخليفة الجديد بالدعوة إلى تعزيز روابط «الجامعة الإسلامية» التي تدعو إلى التضامن الديني مع السلطة العثمانية بغض النظر عن العرق والدولة التي ينتمي لها المسلمون، وبالتالي ألغى نظام الملل والامتيازات الأجنبية المتبع منذ انطلاقة التوسعات العثمانية، ووفقا لهذه الصيغة الأيديولوجية للجامعة الإسلامية تحولت الإمبراطورية العثمانية إلى دولة دينية، وقام عبدالحميد الثاني بالترويج لنفسه كخليفة على المسلمين في وسط آسيا وبين الهنود والملايا والصينيين وفي أفريقيا والشرق الأقصى، وكذلك أرسل الوفود إلى داغستان والشيشان قبل سيطرة الروس عليها، ساعياً إلى الاستفادة من مزايا منصب الخليفة وما له من حقوق توجب على المسلمين طاعته والخضوع لأوامره، خصوصا في مسألة إعلان الجهاد في ظل نذر الحرب والمواجهة الوشيكة مع الروس آنذاك، ولذلك واصل السلطان في إرسال بعثاته وسفرائه إلى الأقطار والشعوب الإسلامية حول العالم للحصول على تأييد لدعوته التي بدأت في إعادة الروح لدولته وبدأت الشعوب المسلمة في رفع صوره وأصبحوا يخطبون ويهتفون باسمه في المساجد ويدعون له بالنصر في مواجهة الاستعمار.
ودعمت بريطانيا توجه الدولة العثمانية حينها لعدة أسباب، من بينها أن وحدة المسلمين تحت سلطة الدولة العثمانية ستكون عاملاً في التصدي لتقدم الروس في آسيا الوسطى وهو ما كان سيشكل خطراً على مستعمرات بريطانيا، وكان تعداد المسلمين الكبير في تلك المستعمرات يشكل عاملاً مهماً بالنسبة إلى مصالح الإمبراطورية البريطانية، خصوصا في الهند، ولذلك روج الإنجليز لدعايات إعلامية واسعة بأنهم أصدقاء للخلافة الإسلامية والخليفة، وفي المقابل كان السلطان عبدالحميد يدرك أن بريطانيا ليست صديقاً حميماً ولكنه كان مضطراً للتقارب معها لتحقيق المصلحة المشتركة وهي مواجهة التمدد الروسي.
وكان الإنجليز يدركون تماماً ما يقدمون عليه من دعم للخلافة العثمانية ومبادئ «الجامعة الإسلامية» لتوحيد المسلمين، بل كانوا أكثر دراية بالخلافة وأهميتها من العثمانيين أنفسهم، وهذا ما أكده أستاذ التاريخ العثماني في جامعة إسطنبول البروفيسور سيزمي أرسلان في كتابه عن السلطان عبدالحميد الثاني (ص 252)، وكذلك ديوايت لي في مؤلفه (مهمة تركية في أفغانستان 1877، ص 339)، وكان لبريطانيا تجربة مسبقة حين ساندت الدولة العثمانية في حرب القرم (1853-1856) إلى أن هزمت فيها روسيا التي كانت تعتبر في ذلك الحين معادية للمسلمين، ومن ثم استغلت بريطانيا الدعم الذي قدمته للعثمانيين لتبدأ في قطف ثمار تلك الصداقة فعلياً إبان ثورة الهند (السيبوى) عام 1857، والتي كادت أن تقتلع الإنجليز من الهند إلا أن صداقتهم مع الدولة العثمانية جعلت السلطان عبدالمجيد الأول يصدر فرمانا يطالب مسلمي الهند بعدم الاشتراك في عصيان الإنجليز، مبينا لهم أنها صديقة للإسلام، وهو ما ساهم في استعادة سيطرة الإنجليز على دلهي وانتهاء العصيان، وكذلك طلبت بريطانيا من السلطان العثماني إصدار فرمان للحفاظ على أمن لجنة تنقيب بريطانية في سواحل أفريقيا وصدر فرمان بذلك في 19 مارس 1858.
ولذلك دعمت الإمبراطورية البريطانية فكرة «الجامعة الإسلامية» لتوظيف العلاقة القائمة مع الدولة العثمانية حينها في تحقيق المزيد من المكاسب، من بينها مثلا عندما رفض أمير أفغانستان في 1877 استقبال سفير بريطانيا في بلاده وهو الأمر الذي يأتي في صالح روسيا، فضغطت بريطانيا على الدولة العثمانية عن طريق سفيرها في الأستانة أوستن هنري لايارد، لإرسال رسالة من «الخليفة عبدالحميد» إلى أمير أفغانستان تذكره بالآيات القرآنية التي توجب بطاعة المسلمين لأوامر الخليفة، وعلى هذا المنوال حققت الإمبراطورية البريطانية ما تريد من خلال توظيف علاقتها بالخلافة ومبدأ «الجامعة الإسلامية» التي روجت لها إعلاميا في تلك البقاع لاستغلالها لخدمة مصالحها في آسيا الوسطى، وكذلك كان يهمها أن يتحد المسلمون لمواجهة الروس في الحرب الروسية - العثمانية (1877-1878)، لأنه كان مفروضاً على بريطانيا عدم مساندة العثمانيين في تلك الحرب، وذلك بسبب ضغوطات أوروبا التي أفضت معاهدة «بروتوكول لندن» (1877) مع روسيا التي وافقت على عدم إنشاء أي دولة عميلة في حال تحقيقهم النصر في الحرب الروسية العثمانية أن يبقى الإنجليز على الحياد في أي صراع بين الدولة العثمانية وروسيا.
وبعد أن أجبر التقدم الروسي في المعارك، الدولة العثمانية على توقيع معاهدة صلح «سان استيفانو» التي نص بندها الخامس على الحفاظ على حقوق روسيا في ممرات البسفور والدردنيل، ثارت مخاوف بريطانيا من تمدد النفوذ الروسي على حساب مصالحها، إذ أصبحت روسيا بموجب المعاهدة بمثابة الصديق للدولة العثمانية، فقامت بريطانيا منذ 1878 بالانقلاب على سياساتها التي روجت لـ«الجامعة الإسلامية» والخليفة، تحسباً من أي محاولة من قبل السلطان عبدالحميد لتحريض مسلمي الهند وآسيا الوسطى للعصيان ضد الإنجليز، وقامت بتحريك ماكنتها الإعلامية الضخمة في أرجاء العالم العربي والإسلامي للقضاء على فكرة «الجامعة الإسلامية» بعد أن حققت مرادها، ونظراً لأن سياسات الجامعة كانت قائمة على الولاء العقائدي للخليفة العثماني، قامت بريطانيا بالترويج في الصحف وعبر عملائها من «تجار الدين» في العالم العربي، بأن الخلافة الإسلامية لا تجوز شرعا إلا لقرشي أو لعربي مستندة في هذه الحملات بالأدلة الشرعية، مع الإشارة إلى أن السلطان العثماني أدعى الخلافة للسيطرة على المسلمين، وقد سرد الكثير من هذه التفاصيل الكاتب الإنجليزي الفريد سكاون بلنت في كتابه «مستقبل الإسلام»، وظلت بريطانيا تستخدم على مدى سنوات عدة أذرعها الإعلامية كقوة ناعمة وقامت كذلك بالعديد من الأساليب المبطنة الأخرى لضرب العلاقة بين الشعوب العربية على وجه التحديد وبين الدولة العثمانية، فأججت ثورة أحمد عرابي القومية ضد العثمانيين في مصر ثم استخدمتها كذريعة لاحتلال مصر عام 1882 بحجة حماية رعاياها، وتوالت نجاحات الإنجليز في الانقلاب على «الجامعة الإسلامية» والخلافة العثمانية إلى أن قامت الثورة العربية الكبرى في 1916، وسقطت بعدها بسنوات قليلة العثمانية بأكملها، ولا يسعنا طرح المزيد من التفاصيل والأحداث ولكن تم سرد بعضها لتوضيح الفكرة والغاية من ذلك التقارب بين «الإنجليز والعثمانيين والخلافة».
الخلاصة.. الإنجليز لم يدعموا «الخلافة العثمانية» و«الجامعة الإسلامية» حبا في الإسلام، ولا السلطان عبدالحميد ابتغى من خلافته مرضاة الله، فكلاهما استخدم الإسلام مطية لتحقيق مصالح سياسية، وقدما نموذجاً واضحاً لمفهوم «الإسلام السياسي».. و«الإخوان» على ذات الشاكلة، مع اختلاف الزمان والمكان والملابسات.
*كاتب سعودي
ونستشهد بالإمبراطورية البريطانية التي كانت مهتمة بعودة الخلافة الإسلامية في القرن التاسع عشر والداعم الأول لفكرة «الجامعة الإسلامية» التي تبنتها الدولة العثمانية في عهد السلطان عبدالحميد الثاني بعد أن ترهلت دولته وشاخت بسبب سلسلة من المشكلات الاقتصادية وتراكم الديون العمومية ولجوئها إلى رفع الضرائب على مناطق البلقان، وعدم الاستثمار في المجالات التنموية وهو ما جعلها تتخلف عن ركب الحضارة والتطور فداهمتها ثورات وفتن داخلية حتى أوشكت على السقوط وأصبحت تلقب بـ«رجل أوروبا المريض»، فخرج السلطان عبدالحميد ينادي بـ«الجامعة الإسلامية»، وهي فكرة «دينية» في ظاهرها ولكنها سياسية الغاية، والهدف منها استجداء نصرة الشعوب الإسلامية وضمهم تحت لوائه لدعمه في الوقوف ضد الأطماع الغربية، فقام باستغلال مشروعه الديني لجمع التبرعات لدولته ولتمويل حربه مع روسيا.
ومشروع «الجامعة الإسلامية» هو على الأرجح ليس من بنات أفكار السلطان عبدالحميد بقدر ما أنها فكرة مستحدثة من موجة «الجامعات» السياسية التي انتشرت في الغرب خلال تلك الحقبة، مثل «الجامعة السلافية» التي أعلن عنها خلال مؤتمر عقد في روسيا عام 1868 بهدف جمع السلافيين في أوروبا، وكذلك قامت ألمانيا بالأمر ذاته في 1871 بإقامة «الجامعة الألمانية» بهدف توحيد العرق الآري تحت مظلتها.
وتنفيذاً لأهداف «الجامعة الإسلامية» قام السلطان عبدالحميد في العام 1876 بترقية لقبه من «سلطان» إلى «الخليفة الأكبر» وفقاً لتعديلات رسمية أجراها على المادتين الثالثة والرابعة من الدستور العثماني، وذلك بعد أن حصل على فتوى من أبو الهدى الصيادي «شيخ الطريقة الرفاعية»، أسقط بموجبها شرط النسب القرشي في الاستخلاف، ثم انطلق الخليفة الجديد بالدعوة إلى تعزيز روابط «الجامعة الإسلامية» التي تدعو إلى التضامن الديني مع السلطة العثمانية بغض النظر عن العرق والدولة التي ينتمي لها المسلمون، وبالتالي ألغى نظام الملل والامتيازات الأجنبية المتبع منذ انطلاقة التوسعات العثمانية، ووفقا لهذه الصيغة الأيديولوجية للجامعة الإسلامية تحولت الإمبراطورية العثمانية إلى دولة دينية، وقام عبدالحميد الثاني بالترويج لنفسه كخليفة على المسلمين في وسط آسيا وبين الهنود والملايا والصينيين وفي أفريقيا والشرق الأقصى، وكذلك أرسل الوفود إلى داغستان والشيشان قبل سيطرة الروس عليها، ساعياً إلى الاستفادة من مزايا منصب الخليفة وما له من حقوق توجب على المسلمين طاعته والخضوع لأوامره، خصوصا في مسألة إعلان الجهاد في ظل نذر الحرب والمواجهة الوشيكة مع الروس آنذاك، ولذلك واصل السلطان في إرسال بعثاته وسفرائه إلى الأقطار والشعوب الإسلامية حول العالم للحصول على تأييد لدعوته التي بدأت في إعادة الروح لدولته وبدأت الشعوب المسلمة في رفع صوره وأصبحوا يخطبون ويهتفون باسمه في المساجد ويدعون له بالنصر في مواجهة الاستعمار.
ودعمت بريطانيا توجه الدولة العثمانية حينها لعدة أسباب، من بينها أن وحدة المسلمين تحت سلطة الدولة العثمانية ستكون عاملاً في التصدي لتقدم الروس في آسيا الوسطى وهو ما كان سيشكل خطراً على مستعمرات بريطانيا، وكان تعداد المسلمين الكبير في تلك المستعمرات يشكل عاملاً مهماً بالنسبة إلى مصالح الإمبراطورية البريطانية، خصوصا في الهند، ولذلك روج الإنجليز لدعايات إعلامية واسعة بأنهم أصدقاء للخلافة الإسلامية والخليفة، وفي المقابل كان السلطان عبدالحميد يدرك أن بريطانيا ليست صديقاً حميماً ولكنه كان مضطراً للتقارب معها لتحقيق المصلحة المشتركة وهي مواجهة التمدد الروسي.
وكان الإنجليز يدركون تماماً ما يقدمون عليه من دعم للخلافة العثمانية ومبادئ «الجامعة الإسلامية» لتوحيد المسلمين، بل كانوا أكثر دراية بالخلافة وأهميتها من العثمانيين أنفسهم، وهذا ما أكده أستاذ التاريخ العثماني في جامعة إسطنبول البروفيسور سيزمي أرسلان في كتابه عن السلطان عبدالحميد الثاني (ص 252)، وكذلك ديوايت لي في مؤلفه (مهمة تركية في أفغانستان 1877، ص 339)، وكان لبريطانيا تجربة مسبقة حين ساندت الدولة العثمانية في حرب القرم (1853-1856) إلى أن هزمت فيها روسيا التي كانت تعتبر في ذلك الحين معادية للمسلمين، ومن ثم استغلت بريطانيا الدعم الذي قدمته للعثمانيين لتبدأ في قطف ثمار تلك الصداقة فعلياً إبان ثورة الهند (السيبوى) عام 1857، والتي كادت أن تقتلع الإنجليز من الهند إلا أن صداقتهم مع الدولة العثمانية جعلت السلطان عبدالمجيد الأول يصدر فرمانا يطالب مسلمي الهند بعدم الاشتراك في عصيان الإنجليز، مبينا لهم أنها صديقة للإسلام، وهو ما ساهم في استعادة سيطرة الإنجليز على دلهي وانتهاء العصيان، وكذلك طلبت بريطانيا من السلطان العثماني إصدار فرمان للحفاظ على أمن لجنة تنقيب بريطانية في سواحل أفريقيا وصدر فرمان بذلك في 19 مارس 1858.
ولذلك دعمت الإمبراطورية البريطانية فكرة «الجامعة الإسلامية» لتوظيف العلاقة القائمة مع الدولة العثمانية حينها في تحقيق المزيد من المكاسب، من بينها مثلا عندما رفض أمير أفغانستان في 1877 استقبال سفير بريطانيا في بلاده وهو الأمر الذي يأتي في صالح روسيا، فضغطت بريطانيا على الدولة العثمانية عن طريق سفيرها في الأستانة أوستن هنري لايارد، لإرسال رسالة من «الخليفة عبدالحميد» إلى أمير أفغانستان تذكره بالآيات القرآنية التي توجب بطاعة المسلمين لأوامر الخليفة، وعلى هذا المنوال حققت الإمبراطورية البريطانية ما تريد من خلال توظيف علاقتها بالخلافة ومبدأ «الجامعة الإسلامية» التي روجت لها إعلاميا في تلك البقاع لاستغلالها لخدمة مصالحها في آسيا الوسطى، وكذلك كان يهمها أن يتحد المسلمون لمواجهة الروس في الحرب الروسية - العثمانية (1877-1878)، لأنه كان مفروضاً على بريطانيا عدم مساندة العثمانيين في تلك الحرب، وذلك بسبب ضغوطات أوروبا التي أفضت معاهدة «بروتوكول لندن» (1877) مع روسيا التي وافقت على عدم إنشاء أي دولة عميلة في حال تحقيقهم النصر في الحرب الروسية العثمانية أن يبقى الإنجليز على الحياد في أي صراع بين الدولة العثمانية وروسيا.
وبعد أن أجبر التقدم الروسي في المعارك، الدولة العثمانية على توقيع معاهدة صلح «سان استيفانو» التي نص بندها الخامس على الحفاظ على حقوق روسيا في ممرات البسفور والدردنيل، ثارت مخاوف بريطانيا من تمدد النفوذ الروسي على حساب مصالحها، إذ أصبحت روسيا بموجب المعاهدة بمثابة الصديق للدولة العثمانية، فقامت بريطانيا منذ 1878 بالانقلاب على سياساتها التي روجت لـ«الجامعة الإسلامية» والخليفة، تحسباً من أي محاولة من قبل السلطان عبدالحميد لتحريض مسلمي الهند وآسيا الوسطى للعصيان ضد الإنجليز، وقامت بتحريك ماكنتها الإعلامية الضخمة في أرجاء العالم العربي والإسلامي للقضاء على فكرة «الجامعة الإسلامية» بعد أن حققت مرادها، ونظراً لأن سياسات الجامعة كانت قائمة على الولاء العقائدي للخليفة العثماني، قامت بريطانيا بالترويج في الصحف وعبر عملائها من «تجار الدين» في العالم العربي، بأن الخلافة الإسلامية لا تجوز شرعا إلا لقرشي أو لعربي مستندة في هذه الحملات بالأدلة الشرعية، مع الإشارة إلى أن السلطان العثماني أدعى الخلافة للسيطرة على المسلمين، وقد سرد الكثير من هذه التفاصيل الكاتب الإنجليزي الفريد سكاون بلنت في كتابه «مستقبل الإسلام»، وظلت بريطانيا تستخدم على مدى سنوات عدة أذرعها الإعلامية كقوة ناعمة وقامت كذلك بالعديد من الأساليب المبطنة الأخرى لضرب العلاقة بين الشعوب العربية على وجه التحديد وبين الدولة العثمانية، فأججت ثورة أحمد عرابي القومية ضد العثمانيين في مصر ثم استخدمتها كذريعة لاحتلال مصر عام 1882 بحجة حماية رعاياها، وتوالت نجاحات الإنجليز في الانقلاب على «الجامعة الإسلامية» والخلافة العثمانية إلى أن قامت الثورة العربية الكبرى في 1916، وسقطت بعدها بسنوات قليلة العثمانية بأكملها، ولا يسعنا طرح المزيد من التفاصيل والأحداث ولكن تم سرد بعضها لتوضيح الفكرة والغاية من ذلك التقارب بين «الإنجليز والعثمانيين والخلافة».
الخلاصة.. الإنجليز لم يدعموا «الخلافة العثمانية» و«الجامعة الإسلامية» حبا في الإسلام، ولا السلطان عبدالحميد ابتغى من خلافته مرضاة الله، فكلاهما استخدم الإسلام مطية لتحقيق مصالح سياسية، وقدما نموذجاً واضحاً لمفهوم «الإسلام السياسي».. و«الإخوان» على ذات الشاكلة، مع اختلاف الزمان والمكان والملابسات.
*كاتب سعودي