طالعتنا بعض الصحف بإعلانات لشركات تدعي (أنها تستطيع أن تحج عن المتوفين والعاجزين) وكذلك لبعض الهواتف من شركات مختلفة تحمل نفس المضمون، هذه الإعلانات هي إلى الزيف والبطلان أقرب منها للحقيقة، وهي تذكرني بما شاهدته في حج أحد الأعوام الماضية بقيام وزارة الصحة بتحجيج المرضى والعاجزين ومن هم في العناية المركزة والمنومين في مستشفيات المملكة بسيارات الإسعاف إلى المشاعر المقدسة، وتخصيص مواقع لهم ومخيمات وخدمات طبية طيلة رحلتهم هذه الشاقة والمضنية، لأداء فريضة الحج، وهذا الفعل إنما هو على خلاف الأصل لقوله تعالى: «ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا». فهل هؤلاء المرضى الذين يحملون في سيارات الإسعاف يدخلون في حكم الاستطاعة؟!.. لقد أكد أهل العلم أن المرء إن لم تتوافر لديه الاستطاعة البدنية والمالية فإن الحج غير وارد في حقه، قال الباجي في (المنتقى) إن الآية وردت مقيدة لمن استطاع السبيل إلى البيت الحرام ومن لم يستطع السبيل إليه لم يتناوله الأمر ولا يجب عليه الحج. وقال القرطبي (البحر المحيط) إن استطاعة السبيل الصحة، وأجمعوا أن المريض لا يلزمه الحج. ذكر ابن حجر في فتح الباري قوله عليه الصلاة والسلام في معنى الاستطاعة وهو توفر الزاد والراحلة، غير أن هذا الحديث استدل بدلالة الاقتضاء ومنه الصحة في البدن لأن توفر الراحلة يقتضي عقلاً استطاعة الركوب وهذا من مستلزمات الصحة في البدن. فإذا سقط عن المرء الحج وعدم الاستطاعة فإنه لا يكون للإنابة كما تروج له هذه الإعلانات أي معنى، كما أن البعض يعطي مبلغاً من المال لزيد أو عمرو ليحج عنه أو عن والده المتوفى في تجارة غير مبررة فعدم توفر الاستطاعة يسقط الحج عن المرء بحكم الآية، كما أن المرء بعد موته ليس له معه في قبره وحسابه في الآخرة إلا ما قدمت يداه من العمل في حياته، لقوله تعالى (تلكم الجنة أورثتموها بما كنتم تعملون). فعمل ابن آدم وما كسبت يداه هو المعول عليه وليس ما يصوم عنه فلان أو يحج عنه بعد موته، حتى الصدقة إن لم يتصدق بها في حياته وأوصى أن يتصدق عنه بعد وفاته فهذه لا تنفعه في شيء، وقد قال عليه الصلاة والسلام في انقطاع ابن آدم عن الدنيا بعد وفاته إلا من ثلاث ذكر منها الصدقة الجارية، وهو الوقف الذي يفعله المرء في حياته والولد الصالح الذي يدعو له. كما أن الذين يكررون الحج في كل عام ويصرون خاصة بعض النساء اللاتي يجعلن من الحج المتكرر عادة لا يتنازلن عنها. يحتلن على الأنظمة والقوانين ويتواعدن على الحج في ظاهرة تفاخر في مجالسهن بعدد المرات التي حججنها فيها وهي أقرب للرياء والنفاق ومخالفة ولي الأمر كما وأنها مردودة من جهة الشرع، فالحج واجب عيني على كل من استجمع شرائط الوجوب وهو لمرة واحدة فقط لقوله عليه الصلاة والسلام: (قد فرض الله عليكم الحج فحجوا) فقال رجل: أكل عام؟ فسكت الرسول حتى قالها الرجل ثلاثاً، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لو قلت نعم لوجبت ولما استطعتم). هناك الكثير من أعمال البر والإحسان يحتاجها المسلمون، أما الحج المتكرر فهو من العبث غير المحمود وفيه مخالفات لتعليمات ولي الأمر. ولا يشترط لمن يقف بعرفة الطهارة ولا استقبال القبلة لقول رسول الله لعائشة وهي حائض: (افعلي كل ما يفعل الحاج)، أما طواف الإفاضة فهو ركن من أركان الحج لايتم الحج بدونه ولا يسقط بسهو ولا نسيان ولا خطأ ولا عمد ولا يجبر بدم، والمرأة التي يأتيها مانع الصلاة أباح لها الشرع الطواف دون طهارة وقد ذكره ابن تيمية وأخذ به ابن عثيمين اعتماداً على قوله تعالى: (وليطوفوا بالبيت العتيق) وهي على عمومها لم تشترط الطهارة ولايمكن تقيد الآية بالحديث. فالحج ليس رحلة سياحية لتكون كل عام ولا ترفيهية يجتمع فيها الناس ولا تجمعات سياسية تردد فيها الشعارات وتحاك فيها المؤامرات وتصفية الحسابات، المؤمن الحق من احترم هذه العبادة وأداها بحقها كما أمر الله عز وجل، ولسان الحال يردد من (مكة) زوار (بكة) يتمون ركن إسلامهم الخامس تحت رعاية من أهل لذلك.
* كاتب سعودي
* كاتب سعودي