أجمل الصباحات هو ذلك الصباح الذي يفتح كل منا عينيه ليتماهى وجهنا بكلمة ((أحبك))، تلقيت تلك الاستصباحية من حفيدتي ((ياسمين))، على صفحة شاشة الهاتف النقال، ورددت عليها.. أجمل الصباحات أنت، ثم أحضرت قهوتي وجلست قبالة النافذة التي تشرف على الواجهة البحرية، أرخيت بدني على كرسي هزاز، حركة خفيفة من قدمي دفعت الكرسي إلى الوراء، فأخذ يهتز بي، أشعلت التبغ الطري الذي حشرته في حجر الغليون، وسحبت منه فخرج دخان التبغ غزيراً، أخذت نفساً عميقاً، كنت أستمع إلى موسيقى خفيفة يعزفها إسباني عبر روح غجرية، على آلة الغيتار، ثم بدأت أتصفح الجديد على هاتفي النقال، أتبختر بين المواقع في مطالعتها، كأب يتبختر بين أطفاله النيام، وحتى وقعت عيني على خبر وفاة اللاعب الهولندي السابق ((فيرناندو ريكسن))، وبطريقة ((القتل الرحيم)) المباحة في هولندا، وعن عمر يناهز الـ٤٣ عاماً، كنت أتابع الخبر مهزوماً ومنكسراً، كولد بقي يطارد شمساً غابت وراء التلال ولم تعد، فقد كان ((فيرناندو))، جوادا، نعم جوادا يركض على نجيل الملاعب الخضراء، كان كلحن موسيقي في بدايات الأغنية، كان يحصد الفوز بعد الآخر بينما الهزائم تتوارى له مترصدة خلف جبل بعيد، مثل كثير من الأشياء التي تبدأ هادئة، ثم ما إن تصل إلى نقطة التوهج، حتى تبدأ بخفوت يقودها إلى التلاشي، كنت ألوذ بصمت معدني كثيف، انتشرت على وجهي ملامح الكدر وبضع علامات استغراب، فهذا النوع من الأخبار، يخرجك من عزلتك، يفعل فيك ما تفعله قطعة الحلوى التي تنتهك طزاجتها شموس الصيف، فيهاجمها النمل، ويبدد شيئا من عزلتك الشوكية، تتحول الجدران فيها إلى كائنات، تزحف نحوك، وتطبق على جسدك، لتشعر بالاختناق، تابعت قراءة الخبر، وقعت الكلمات على قلبي، كوخزات ثقيلة في خاصرة شخص نائم، لقد أصيب المسكين، بمرض ((التصلب الجانبي الضموري))، أو ما يعرف بشلل الأعصاب، مرض بالغ الخسة، يتلف خلايا الأعصاب حتى تتحلل الخلايا العصبية تدريجيا وتموت، أصيب به قبل ذلك لاعب البيسبول الأمريكي المعروف، الذي سمي المرض باسمه ((الوغريغ)) كأكثر المصابين بهذا المرض شهرة، توفي وعمره دون الأربعين عاما، ولكن كيف يمكن لإنسان مؤمن أن ينهي حياته، وأن يحدد مصيره؟ القدر لا يخص إلا الإله، لهذا هنالك أبواب بعينها في حياتنا نلجها، دون أن نفكر، بما يمكن أن يخبئه لنا القدر وراءها، ومنها الحياة والموت، يبدو أنه وجع الانتظار لا غير، الذي يشبه المشي بلا حذاء على حافة سكين حادة كل يوم، هو ما دفع ((فيرناندو))، لفعل ما أقدم عليه، فكلما أوغلت في الانتظار سطا ذلك الوجع أكثر فأكثر، ففي الانتظار تصير الأشياء، كل الأشياء ثقيلة ولها لون واحد، نصبح غير قادرين على فعل شيء، كأننا فقدنا حواسنا كاملة، يصير الدماغ والقلب رهينة للحظة لم تأت بعد، شجرة ألم تقف في منتصف صحراء، تنتظر هطول غيمة عالية في المدى، والألم يستمر يأكل لحم الروح، ويستبيحها، ويشرب عليها نخب الوجع، لقد أضحت الأيام ((لفرناندو)) أقسى ما يمكن احتماله، تحولت الحياة لديه إلى كوابل ضيقة وانتظار طويل مؤلم ومفجع لقلب يحلم بشفاء لا يجيء، رغم توسلاته المتكررة، وبعد أن تأكد من أن حقوله أقحلت تماماً من كل أمل، وأن الشفاء ضرب من الوهم، استسلم لسكينة لم يعهدها قط، ويا أمان الخائفين!
* كاتب سعودي
fouad5azab@gmail.com
* كاتب سعودي
fouad5azab@gmail.com