يوم الخميس الماضي توصل الأمريكيون والأتراك، في أنقرة، إلى اتفاق لوقف إطلاق النار في شمال سوريا، لمدة 5 أيام. الأمريكيون يقولون إن ذلك يعني: إنهاءً للعملية العسكرية «نبع السلام»، التي شنها الأتراك شمال سوريا، بزعم طرد المقاتلين الأكراد التابعين لقوات سوريا الديمقراطية الذراع العسكرية لحزب الاتحاد الديمقراطي الكردي (الماركسي)، بهدف إقامة منطقة أمنية عازلة في شمال سوريا شرق الفرات بطول 480 كيلومتراً وعمق 40 كيلومتراً، أي ما يوازي 60 ألف كيلومتر مربع من الأراضي السورية. بينما يرى الأتراك أن الاتفاق ما هو سوى تعليق لتلك العملية العسكرية، التي شنتها تركيا يوم الأربعاء، قبل الماضي.
مهما كانت التفسيرات المختلفة للاتفاق، الذي توصل إليه الأمريكيون مع الأتراك يوم الخميس الماضي، فإن عملية «نبع السلام» العسكرية في شمال سوريا قد جرى إيقافها لو مؤقتاً، وأن عملية استئنافها بعد المهلة المحددة تكون صعبة جداً، على أطراف اتفاق أنقرة.. وعلى استقرار المنطقة، ككل. وإن كان مقاتلو قوات حماية الشعب الكردي، المستهدفون مباشرة من عملية «نبع السلام»، قد رحبوا بالاتفاق وأعلنوا التزامهم به، إلا أن دمشق تشككت منه ووصفته بالغامض، حيث إن الاتفاق أقر باستلام القوات التركية للمنطقة، التي ينسحب منها المقاتلون الأكراد.. وإن كان الاتفاق أكد على سلامة وحدة الأراضي السورية، من قبل أطرافه.
ثم إن الاتفاقَ وإن تجاهل دمشقَ، على الأقل في هَذِهِ المرحلةِ، إلا أنه لم يُشِرْ إلى فاعلٍ رئيس في المنطقة (الروس). موسكو لم تكن طرفاً في الاتفاق، وهي ليست بعيدة عن مسرح الأحداث، وإن حاولت أثناءَ المرحلةِ الأولى من عمليةِ «نبع السلام» أن تقتربَ من الأزمة باستحياء، في شكل استعراض رمزي للتواجد، عندما دخلت مع بعض وحدات النظام السوري العسكرية مدينتي منبج وعين العرب، في أعقابِ نجاحِ الروس في إقامةِ «حلفٍ» مؤقتٍ بين دمشق وقوات سوريا الديمقراطية، لمواجهةِ الزحفِ التركيِّ شمالي سوريا.
الروسُ، وإن كانوا يتفقون مع الأمريكيين، في تَفَهُّم الهواجس الأمنية التركية في المنطقة، الذي عبروا عنه بصورة واضحة من خلال منعهم معاً صدور قرار من مجلس الأمن، وقت بدء عملية «نبع السلام»، يدين أنقرة ويطالبها بالانسحابِ من الشمالِ السوريِّ، إلا أنَ موسكو ترى في نَفْسِهَا القوة الدولية الرئيسية الوحيدة في المنطقةِ، بعد انسحابِ الأمريكيين منها.. وأنها، وإن كانت في الوقتِ الحاضرِ، في حاجةٍ للشريكِ التركيِّ لإنجاح مسارِ الأسْتَانة التي تتبناه لرسمِ مستقبلِ سوريا، إلا أن موسكو في النهايةِ: لن تسمحَ لأي قوةٍ إقليميةٍ ولا دوليةٍ منافستها أو مشاركتها نفوذها في هذه المنطقة الإستراتيجية، شرق المتوسط.
على الأتراكِ، في المقابلِ، ألا يبتهجوا كثيراً باتفاق أنقرة مع الأمريكيين، فيما وصفوه بتعليق عملية «نبع السلام». ما حصلوا عليه بالاتفاق، لا يوازي ما كان يمكن أن يحصلوا عليه بالقوة، لو تمكنوا من فرض المنطقة الأمنية العازلة عن طريق عملية «نبع السلام». ثم إنه بفرضِ أن الأيام الخمسةَ، التي وردت في الاتفاق لم تَنْقَضِ وقد أنهت الغرض منها، فإنه يصعب على أنقرة مواصلة عملية «نبع السلام»، من جديد. اتفاق أنقرة كان اختراقاً إستراتيجياً لعملية «نبع السلام» العسكرية، حيث أفقدتها زخم اندفاعها.. وكشفت كم أنها غير مقبولة، إقليمياً ودولياً.
ثم إن على الأتراكِ ألا يُعَولِوا على وعدِ الإدارة الأمريكية بإلغاء العقوبات التي فرضتها على أنقرة، لأن ذلك ليس مرهوناً بانقضاء الأيام الخمسة، التي نص الاتفاق عليها، لإنهاء انسحاب المليشيات الكردية من المنطقة التي حددها الاتفاق بـ ٣٢ كيلومتراً، بل بإيقاف عملية «نبع السلام»، بعد ذلك. كما أن واشنطن، عدا ترمب، الذي أشاد بالاتفاق وبأردوغان لأسبابٍ خاصةٍ به، ليست راضية عن الاتفاق.. والكونجرس ماضٍ في جهوده لفرضِ عقوباتٍ على تركيا.. بالتوازِي مع المُضِيِّ في إجراءاتِ عزلِ الرئيس، بسبب «فضيحة» المكالمة الهاتفية مع الرئيس الأوكراني.
ليس سهلاً أن تَمُرَ مهلة المئة والعشرين ساعة من غيرِ مشاكل أو عراقيل.. وليس سهلاً على الأتراكِ أن يحصلوا بالاتفاق ما أُجْبِرُوا على القبولِ به خارجَ ترتيباتِ عمليةِ «نبع السلام» العسكرية لو تمكنوا من مواصلتها وحسم مصيرها، في الفترةِ ما قَبْلَ الاتفاق. كما أنه يَصْعُبُ على التُرْكِ دخول المنطقة التي ينسحب منها المقاتلون الأكراد. الروس لن يرتاحوا لذلك.. والوضع الإقليمي والدولي يَظل يتشكك في نوايا الأتراك، وإن كان هناك بعض التفهم لهواجتهم الأمنية. فإذا كان كل ذلك ينسحب على دخول الأتراك لتلك المناطق، بموجب الاتفاق، فإنه يجعل من الصعب عليهم الاستقرار فيها والمُقام بها، بعد ذلك.
اليوم تنتهي مهلةُ الأيام الخمسة، التي جاءت في اتفاقِ أنقرة بخصوصِ عملية «نبع السلام» العسكرية التركية شمالي سوريا. ترى هل تأذن هذه المهلة بنضوبِ عمليةِ «نبعِ السلامِ».. أم أن «النبعَ» سوف يواصل تَدَفقه.. وفي الحالة الأخيرة، إذا ما عاود «النبعُ» تَدَفقَه، هل يستمر التَدَفُقُ بزَخَمِهِ حين تَفَجُّرِهِ.. أم أن هناك «سدوداً» ستُقام في طريقِ مسارهِ، تَحُدُ من تَدَفُقِهِ.. أم تراها تَنْتَهِي بِتَجْفِيفِهِ تماماً.
ننتظر، لنرى.
* كاتب سعودي
talalbannan@icloud.com
مهما كانت التفسيرات المختلفة للاتفاق، الذي توصل إليه الأمريكيون مع الأتراك يوم الخميس الماضي، فإن عملية «نبع السلام» العسكرية في شمال سوريا قد جرى إيقافها لو مؤقتاً، وأن عملية استئنافها بعد المهلة المحددة تكون صعبة جداً، على أطراف اتفاق أنقرة.. وعلى استقرار المنطقة، ككل. وإن كان مقاتلو قوات حماية الشعب الكردي، المستهدفون مباشرة من عملية «نبع السلام»، قد رحبوا بالاتفاق وأعلنوا التزامهم به، إلا أن دمشق تشككت منه ووصفته بالغامض، حيث إن الاتفاق أقر باستلام القوات التركية للمنطقة، التي ينسحب منها المقاتلون الأكراد.. وإن كان الاتفاق أكد على سلامة وحدة الأراضي السورية، من قبل أطرافه.
ثم إن الاتفاقَ وإن تجاهل دمشقَ، على الأقل في هَذِهِ المرحلةِ، إلا أنه لم يُشِرْ إلى فاعلٍ رئيس في المنطقة (الروس). موسكو لم تكن طرفاً في الاتفاق، وهي ليست بعيدة عن مسرح الأحداث، وإن حاولت أثناءَ المرحلةِ الأولى من عمليةِ «نبع السلام» أن تقتربَ من الأزمة باستحياء، في شكل استعراض رمزي للتواجد، عندما دخلت مع بعض وحدات النظام السوري العسكرية مدينتي منبج وعين العرب، في أعقابِ نجاحِ الروس في إقامةِ «حلفٍ» مؤقتٍ بين دمشق وقوات سوريا الديمقراطية، لمواجهةِ الزحفِ التركيِّ شمالي سوريا.
الروسُ، وإن كانوا يتفقون مع الأمريكيين، في تَفَهُّم الهواجس الأمنية التركية في المنطقة، الذي عبروا عنه بصورة واضحة من خلال منعهم معاً صدور قرار من مجلس الأمن، وقت بدء عملية «نبع السلام»، يدين أنقرة ويطالبها بالانسحابِ من الشمالِ السوريِّ، إلا أنَ موسكو ترى في نَفْسِهَا القوة الدولية الرئيسية الوحيدة في المنطقةِ، بعد انسحابِ الأمريكيين منها.. وأنها، وإن كانت في الوقتِ الحاضرِ، في حاجةٍ للشريكِ التركيِّ لإنجاح مسارِ الأسْتَانة التي تتبناه لرسمِ مستقبلِ سوريا، إلا أن موسكو في النهايةِ: لن تسمحَ لأي قوةٍ إقليميةٍ ولا دوليةٍ منافستها أو مشاركتها نفوذها في هذه المنطقة الإستراتيجية، شرق المتوسط.
على الأتراكِ، في المقابلِ، ألا يبتهجوا كثيراً باتفاق أنقرة مع الأمريكيين، فيما وصفوه بتعليق عملية «نبع السلام». ما حصلوا عليه بالاتفاق، لا يوازي ما كان يمكن أن يحصلوا عليه بالقوة، لو تمكنوا من فرض المنطقة الأمنية العازلة عن طريق عملية «نبع السلام». ثم إنه بفرضِ أن الأيام الخمسةَ، التي وردت في الاتفاق لم تَنْقَضِ وقد أنهت الغرض منها، فإنه يصعب على أنقرة مواصلة عملية «نبع السلام»، من جديد. اتفاق أنقرة كان اختراقاً إستراتيجياً لعملية «نبع السلام» العسكرية، حيث أفقدتها زخم اندفاعها.. وكشفت كم أنها غير مقبولة، إقليمياً ودولياً.
ثم إن على الأتراكِ ألا يُعَولِوا على وعدِ الإدارة الأمريكية بإلغاء العقوبات التي فرضتها على أنقرة، لأن ذلك ليس مرهوناً بانقضاء الأيام الخمسة، التي نص الاتفاق عليها، لإنهاء انسحاب المليشيات الكردية من المنطقة التي حددها الاتفاق بـ ٣٢ كيلومتراً، بل بإيقاف عملية «نبع السلام»، بعد ذلك. كما أن واشنطن، عدا ترمب، الذي أشاد بالاتفاق وبأردوغان لأسبابٍ خاصةٍ به، ليست راضية عن الاتفاق.. والكونجرس ماضٍ في جهوده لفرضِ عقوباتٍ على تركيا.. بالتوازِي مع المُضِيِّ في إجراءاتِ عزلِ الرئيس، بسبب «فضيحة» المكالمة الهاتفية مع الرئيس الأوكراني.
ليس سهلاً أن تَمُرَ مهلة المئة والعشرين ساعة من غيرِ مشاكل أو عراقيل.. وليس سهلاً على الأتراكِ أن يحصلوا بالاتفاق ما أُجْبِرُوا على القبولِ به خارجَ ترتيباتِ عمليةِ «نبع السلام» العسكرية لو تمكنوا من مواصلتها وحسم مصيرها، في الفترةِ ما قَبْلَ الاتفاق. كما أنه يَصْعُبُ على التُرْكِ دخول المنطقة التي ينسحب منها المقاتلون الأكراد. الروس لن يرتاحوا لذلك.. والوضع الإقليمي والدولي يَظل يتشكك في نوايا الأتراك، وإن كان هناك بعض التفهم لهواجتهم الأمنية. فإذا كان كل ذلك ينسحب على دخول الأتراك لتلك المناطق، بموجب الاتفاق، فإنه يجعل من الصعب عليهم الاستقرار فيها والمُقام بها، بعد ذلك.
اليوم تنتهي مهلةُ الأيام الخمسة، التي جاءت في اتفاقِ أنقرة بخصوصِ عملية «نبع السلام» العسكرية التركية شمالي سوريا. ترى هل تأذن هذه المهلة بنضوبِ عمليةِ «نبعِ السلامِ».. أم أن «النبعَ» سوف يواصل تَدَفقه.. وفي الحالة الأخيرة، إذا ما عاود «النبعُ» تَدَفقَه، هل يستمر التَدَفُقُ بزَخَمِهِ حين تَفَجُّرِهِ.. أم أن هناك «سدوداً» ستُقام في طريقِ مسارهِ، تَحُدُ من تَدَفُقِهِ.. أم تراها تَنْتَهِي بِتَجْفِيفِهِ تماماً.
ننتظر، لنرى.
* كاتب سعودي
talalbannan@icloud.com