لن نقول، بالطبع، إكمالا للفراغ في نهاية هذا العنوان: إلا إذا استولى الجيش اللبناني على السلطة (مثلا) وأقام حكم القلة العسكرية، أو ما شابه ذلك. بل نقول مقدما: لن يستقر لبنان (موحدا أو فيدراليا) أو أي بلد آخر مشابه، إلا إذا «طبع» وضعه السياسي، وأقام نظاما برلمانيا حقيقيا، يتجسد في دستور لبناني لا طائفي جديد... يؤكد سيادة الشعب، ويسمح بتكوين الأحزاب السياسية، وفق الأصول المتعارف عليها عالميا، ويمنع أي حزب من تشكيل ميليشيا خاصة به، وتحتكر الدولة (ممثلة بالحكومة اللبنانية) كل وسائل الإكراه العام. إضافة لذلك، يجب تحويل ما يسمى بـ«حزب الله» إلى حزب سياسي عادي، منزوع السلاح، حتى لا يكون «دولة داخل دولة». فلبنان كما هو الآن مريض سياسيا، ولن تشفيه إلا هذه الوصفة، التي يجمع عليها كل «أطباء» وخبراء السياسة.
لقد أدى تنوع واختلال التكوين السياسي والاجتماعي اللبناني – بطوائفه الكبرى المعروفة – وعدم وجود «نظام» ملائم يستوعب هذا الاختلاف، إلى ابتلاء لبنان بمرض سياسي عضال... اسمه «عدم الاستقرار السياسي» الحقيقي، أو «عدم الاستقرار السياسي المبطن»، أو غير السافر. كان «عدم الاستقرار السياسي» سافرا في بعض المراحل، وخفيا مبطنا في أغلب الأوقات. ومعروف أنه تنتج عن هذا المرض أعراض خطيرة، أقلها الاضطرابات والقلاقل، وأسوأها الحراب الأهلي. بل إن هذا المرض أدى إلى حدوث كارثة الحرب الأهلية المأساوية، كما هو معروف، بدءا من العام 1975... تلك الحرب التي ألحقت بلبنان – والعرب، بصفة عامة – خسائر هائلة وفادحة.
بقيت الحرب مشتعلة حتى وصول الأطراف المتصارعة إلى «اتفاق الطائف»، برعاية خادم الحرمين الشريفين الملك فهد (يرحمه الله) وحكومته، الذين كان لهم الفضل الأساسي – بعد الله – في وقف تلك الحرب، التي تواصلت على مدار 14 عاما، وكانت تخلف – في المتوسط – حوالى 60 قتيلا لبنانيا في اليوم الواحد. إضافة إلى خسائر مادية، تقدر بعشرات المليارات من الدولارات شهريا. كانت نكبة مروعة... تنزل بهذا البلد العربي الجميل، ومصيبة فظيعة.. أضيفت إلى نكبات العرب الكبرى في القرن العشرين الماضي.
***
توقفت تلك الحرب في العام 1989، وبدأت عملية مصالحة وطنية شاملة، وحركة إعمار وإعادة إعمار ملفتة للنظر... أوشكت أن تجعل ما خلفته تلك الحرب شيئا من الماضي. غير أن المرض لم يعالج، كما ينبغي. حيث أُعطي المريض «مسكنات» إلى حين تناوله العلاج الناجع. ولكن المريض المسكين لم يعالج تماما، وما زال بعد حوالى 20 عاما من تناول المسكنات، أو الدخول في «هدنة»، يحمل نفس الفيروسات. حقا، كانت هدنة مؤقتة. ولم يكن «الاقتصاد» وتحسنه إلا عنصرا واحدا من تركيبة العلاج. فكثير من النفوس كانت – وما زالت – تعاني كثيرا من الغبن والأسى، الذي يؤكد الاعتقاد بأن: بذور مـرض عدم الاستقرار السياسي (عدم الرضا) ما زالت قوية ونشطة... بحيث شبهت بالقنابل الموقوتة، القابلة للانفجار، في لحظات توتر مواتية معينة. وها هي الآن تتفجر مشتعلة بتاريخ 16 أكتوبر 2019...!
ولقد تكرر انفجارها، وجاءت هذه اللحظات، ومنها ما حصل عقب حادث اغتيال رفيق الحريري، أبرز أبطال الإعمار والقيادة التطويرية، في الفترة التي أعقبت الحرب الأهلية. وحصلت عقب ذلك تطورات سياسية معروفة، لعل أبرزها ظهور «حزب الله» كقوة محلية سلبية كبرى (تدعمها إيران) وشن إسرائيل هجوما عدوانيا كبيرا في صيف 2006. وأعقب ذلك حدوث «أزمة الرئاسة» الشهيرة، وتمرد المعارضة... ثم اتفاق الدوحة، وما نجم عنه من توافقات مؤقتة، عبارة عن هدنة مرحلية. وبعد ذلك، حدثت عدة أزمات، لكنها لم تشعل الفتيل... المشتعل الآن.
***
إن «وثيقة الاتفاق الوطني» التي أقرها النواب اللبنانيون يوم 13/10/1989، بالطائف (اتفاق الطائف) هي اتفاقية بالغة الأهمية والجودة، ولكنها – وبنص فيها – مرحلية. وهناك بنود فيها ما زالت – كما يقول أغلب الفرقاء اللبنانيين – تنتظر التطبيق الفعلي التام، و«السليم»... ليكمل اتفاق الطائف دوره... كاتفاق مرحلي... يحتاج – بالضرورة – إلى متابعة، فاتفاق لاحق نهائي... يتمثل في «دستور» جديد دائم للبنان... يضمن له – على المدى الطويل – الاستقرار والأمن، على أسس صلبة، ويضعف بذور الشقاق، أو يستأصلها من جذورها، للحيلولة دون حدوث كوارث جديدة – لا سمح الله. ويتطلب ذلك إلغاء ما يسمى بـ «الميثاق الوطني» الذي أبرم عام 1943، وكرس المحاصصة السلطوية الطائفية.
الغليان في لبنان ليس جديدا، ولم يفاجئ المراقبين إطلاقا، الذين كانوا – وما زالوا – يضعون لبنان في قائمة الدول غير المستقرة، بسبب وضعه السياسي المعروف. لقد تأخر علاج لبنان، إن قدر له أن يعالج، بسبب تأخر المتابعة من قبل أهله ومحبيه... وبسبب رغبات إقليمية وعالمية في منع إحداث تغيير سياسي كبير، يشكل مستقبل لبنان، قد يترك – بالضرورة – تداعيات كبيرة على بعض الأطراف بالمنطقة. ولكن، هناك جديد في أحداث أكتوبر 2019 الحالية. حيث نرى غالبية الشعب اللبناني، بكل طوائفه، وقد خرجت لتطالب برحيل النظام، وتغييره لما هو «أفضل». وهم يقصدون «كل النظام»، وليس أفرادا أو طائفة بعينها. وعلى هذه الأغلبية الشعبية أن تستمر في ضغوطها، التي إن تواصلت، كما ينبغي، ستجبر المعنيين على الإذعان لمطالب الشعب ورغباته. وإن تحققت الرغبة السياسية، فستتحقق الرغبة الاقتصادية أيضا، ويخرج الشعب اللبناني كاسبا ومنتصرا في هذه الجولة الحاسمة من صراعه مع سلطة فاسدة، تكرس مصالح القلة التي تمثلها، ولا تكترث بمطالب واحتياجات الإنسان اللبناني العادي.
ويبدو الآن أن كفة الداعين إلى التغيير قد ترجح، وأن جماهير الشعب ربما تكون في طريقها للنجاح، إن أحسنت التصرف الثوري... ومن ثم وضع أجندتها السياسية موضع التنفيذ، في الواقع السياسي اللبناني... وكل محبي لبنان يتمنون، في هذه الأوقات العصيبة، أن يتم «الانتقال» المنتظر – إن حصل بالفعل – بيسر وسلام.
* كاتب سعودي
sfadil50@hotmail.com
لقد أدى تنوع واختلال التكوين السياسي والاجتماعي اللبناني – بطوائفه الكبرى المعروفة – وعدم وجود «نظام» ملائم يستوعب هذا الاختلاف، إلى ابتلاء لبنان بمرض سياسي عضال... اسمه «عدم الاستقرار السياسي» الحقيقي، أو «عدم الاستقرار السياسي المبطن»، أو غير السافر. كان «عدم الاستقرار السياسي» سافرا في بعض المراحل، وخفيا مبطنا في أغلب الأوقات. ومعروف أنه تنتج عن هذا المرض أعراض خطيرة، أقلها الاضطرابات والقلاقل، وأسوأها الحراب الأهلي. بل إن هذا المرض أدى إلى حدوث كارثة الحرب الأهلية المأساوية، كما هو معروف، بدءا من العام 1975... تلك الحرب التي ألحقت بلبنان – والعرب، بصفة عامة – خسائر هائلة وفادحة.
بقيت الحرب مشتعلة حتى وصول الأطراف المتصارعة إلى «اتفاق الطائف»، برعاية خادم الحرمين الشريفين الملك فهد (يرحمه الله) وحكومته، الذين كان لهم الفضل الأساسي – بعد الله – في وقف تلك الحرب، التي تواصلت على مدار 14 عاما، وكانت تخلف – في المتوسط – حوالى 60 قتيلا لبنانيا في اليوم الواحد. إضافة إلى خسائر مادية، تقدر بعشرات المليارات من الدولارات شهريا. كانت نكبة مروعة... تنزل بهذا البلد العربي الجميل، ومصيبة فظيعة.. أضيفت إلى نكبات العرب الكبرى في القرن العشرين الماضي.
***
توقفت تلك الحرب في العام 1989، وبدأت عملية مصالحة وطنية شاملة، وحركة إعمار وإعادة إعمار ملفتة للنظر... أوشكت أن تجعل ما خلفته تلك الحرب شيئا من الماضي. غير أن المرض لم يعالج، كما ينبغي. حيث أُعطي المريض «مسكنات» إلى حين تناوله العلاج الناجع. ولكن المريض المسكين لم يعالج تماما، وما زال بعد حوالى 20 عاما من تناول المسكنات، أو الدخول في «هدنة»، يحمل نفس الفيروسات. حقا، كانت هدنة مؤقتة. ولم يكن «الاقتصاد» وتحسنه إلا عنصرا واحدا من تركيبة العلاج. فكثير من النفوس كانت – وما زالت – تعاني كثيرا من الغبن والأسى، الذي يؤكد الاعتقاد بأن: بذور مـرض عدم الاستقرار السياسي (عدم الرضا) ما زالت قوية ونشطة... بحيث شبهت بالقنابل الموقوتة، القابلة للانفجار، في لحظات توتر مواتية معينة. وها هي الآن تتفجر مشتعلة بتاريخ 16 أكتوبر 2019...!
ولقد تكرر انفجارها، وجاءت هذه اللحظات، ومنها ما حصل عقب حادث اغتيال رفيق الحريري، أبرز أبطال الإعمار والقيادة التطويرية، في الفترة التي أعقبت الحرب الأهلية. وحصلت عقب ذلك تطورات سياسية معروفة، لعل أبرزها ظهور «حزب الله» كقوة محلية سلبية كبرى (تدعمها إيران) وشن إسرائيل هجوما عدوانيا كبيرا في صيف 2006. وأعقب ذلك حدوث «أزمة الرئاسة» الشهيرة، وتمرد المعارضة... ثم اتفاق الدوحة، وما نجم عنه من توافقات مؤقتة، عبارة عن هدنة مرحلية. وبعد ذلك، حدثت عدة أزمات، لكنها لم تشعل الفتيل... المشتعل الآن.
***
إن «وثيقة الاتفاق الوطني» التي أقرها النواب اللبنانيون يوم 13/10/1989، بالطائف (اتفاق الطائف) هي اتفاقية بالغة الأهمية والجودة، ولكنها – وبنص فيها – مرحلية. وهناك بنود فيها ما زالت – كما يقول أغلب الفرقاء اللبنانيين – تنتظر التطبيق الفعلي التام، و«السليم»... ليكمل اتفاق الطائف دوره... كاتفاق مرحلي... يحتاج – بالضرورة – إلى متابعة، فاتفاق لاحق نهائي... يتمثل في «دستور» جديد دائم للبنان... يضمن له – على المدى الطويل – الاستقرار والأمن، على أسس صلبة، ويضعف بذور الشقاق، أو يستأصلها من جذورها، للحيلولة دون حدوث كوارث جديدة – لا سمح الله. ويتطلب ذلك إلغاء ما يسمى بـ «الميثاق الوطني» الذي أبرم عام 1943، وكرس المحاصصة السلطوية الطائفية.
الغليان في لبنان ليس جديدا، ولم يفاجئ المراقبين إطلاقا، الذين كانوا – وما زالوا – يضعون لبنان في قائمة الدول غير المستقرة، بسبب وضعه السياسي المعروف. لقد تأخر علاج لبنان، إن قدر له أن يعالج، بسبب تأخر المتابعة من قبل أهله ومحبيه... وبسبب رغبات إقليمية وعالمية في منع إحداث تغيير سياسي كبير، يشكل مستقبل لبنان، قد يترك – بالضرورة – تداعيات كبيرة على بعض الأطراف بالمنطقة. ولكن، هناك جديد في أحداث أكتوبر 2019 الحالية. حيث نرى غالبية الشعب اللبناني، بكل طوائفه، وقد خرجت لتطالب برحيل النظام، وتغييره لما هو «أفضل». وهم يقصدون «كل النظام»، وليس أفرادا أو طائفة بعينها. وعلى هذه الأغلبية الشعبية أن تستمر في ضغوطها، التي إن تواصلت، كما ينبغي، ستجبر المعنيين على الإذعان لمطالب الشعب ورغباته. وإن تحققت الرغبة السياسية، فستتحقق الرغبة الاقتصادية أيضا، ويخرج الشعب اللبناني كاسبا ومنتصرا في هذه الجولة الحاسمة من صراعه مع سلطة فاسدة، تكرس مصالح القلة التي تمثلها، ولا تكترث بمطالب واحتياجات الإنسان اللبناني العادي.
ويبدو الآن أن كفة الداعين إلى التغيير قد ترجح، وأن جماهير الشعب ربما تكون في طريقها للنجاح، إن أحسنت التصرف الثوري... ومن ثم وضع أجندتها السياسية موضع التنفيذ، في الواقع السياسي اللبناني... وكل محبي لبنان يتمنون، في هذه الأوقات العصيبة، أن يتم «الانتقال» المنتظر – إن حصل بالفعل – بيسر وسلام.
* كاتب سعودي
sfadil50@hotmail.com