من المعلوم بداهة أن لكل وظيفة من الوظائف متطلبات واشتراطات، يتوجّب توفرها في المتقدم لشغلها، ولو في حدّها الأدنى، بما يبعث على الاطمئنان في إمكانية وفاء شاغلها بواجباته. ومن الطبيعي أن يتفاوت الناس في أداء وظائفهم تبعًا لاختلاف مواهبهم وملكاتهم وقدراتهم واستعدادهم النفسي والبدني للعمل وقناعاتهم بالوظيفة التي يؤدونها، ومقدار الجهد الذي يبذلون، وغير ذلك مما هو مشاهد ومعروف في سوق العمل، ومضمار الوظائف.
ولم أجد من بين كل الوظائف التي أعرفها ويمتهنها الناس، وظيفة يمتد أثرها وتأثيرها على الشخصية التي تشغلها حتى بعد ساعات العمل الرسمية؛ مثل وظيفتي القضاء، والتعليم، كونهما تتعلقان بمجالين يتجاوزان زمنهما المحدد ومكانهما المخصص؛ حيث يصحبان من يقوم بأدائهما في كل تفاصيل حياته، بما يقيّد حركته، ويضبطها على إيقاع وتفاصيل الوظيفة ومتطلباتها. فسمت الوقار، والتزام الحياد، واجتناب الخوض في ما يخوض فيه عامة الناس، سمات مطلوبة في كل قاضٍ، ليحفظ له ذلك وغيره مقعدًا بعيدًا عن الانحياز والشبه والمحاباة والابتذال. والحال كذلك مع من يمتهن وظيفة التعليم، حيث ينظر إليه في صورة النموذج الذي يقتدى، والمثال الذي يحتذى، والقدوة التي يتأسّى بها الطلاب؛ ولهذا كان جديرًا بمن يتولى هذه المهنة أن يكون كفؤًا لها؛ صورة وسلوكًا وتصرّفًا، داخل سوق التعليم ودورها، وخارجها على السواء، ألا يخدش هذه الصورة الناصعة بأي مظهر أو مسلك يهز صورة المثال الناصع، والقدوة المرجوّة لدى الطلاب والناشئة.. ولا يتحقّق ذلك إلا إذا وفّرنا لكليهما – أعني القاضي والمعلم – من الظروف والبيئات ما يعينهما على الإيفاء بمتطلبات عملهما..
ولهذا؛ فلقد أثار استغرابي ما طرحته لجنة التعليم والبحث العلمي بمجلس الشورى من توصية، مفادها «السماح لأعضاء هيئة التدريس في الجامعات بممارسة المهن الحرة»، إن أقل وصف يمكن أن تدمغ به هذه التوصية أنها «كارثة»، لما تنطوي عليه من مثالب وسلبيات تنسف كل أثر إيجابي يمكن أن تحققه للمستهدفين بها؛ فلو نظرنا إليها وفقًا لما أشرنا إليه من متطلبات المعلم وضرورة حفظ صورته المثالية أمام طلابه، فإن هذه الصورة لا شك إلى اهتزاز واضطراب واختلال متى ما خاض أساتذة الجامعة غمار السوق ومارسوا التجارة، وربما نافسوا فيها طلابهم، لتضيع الهيبة، ويسقط المثال.. ولو نظرنا إليها من ناحية المردود المرجو من هؤلاء الأساتذة بعد فتح الباب أمامهم لممارسة المهن الحرة والتجارة، فلا شك أن ذلك سيكون خصمًا على أداء وظيفتهم التعليمية، وأستحضر هنا إشارة عضوة المجلس الدكتورة (لطيفة الشعلان) في سياق مناهضتها لهذه التوصية من تحت قبة الشورى، حين أشارت إلى أن «متوسط الساعات التدريسية لأستاذ الجامعة ما بين 12 ساعة إلى 14 ساعة تدريسية، غير مهام البحث، وغير الساعات المكتبية، وغير العمل باللجان والأعمال الإدارية، وغير الإشراف على طلبة الدراسات العليا، أو على طلبة التدريس الميداني»، ففي ضوء هذه الإشارة المهمة سيكون نشاط الأستاذ الجامعي متى ما ذهب مع توصية الشورى إلى السوق، خصمًا على وظيفته وساعاتها ومتطلباتها، وسيكون عطاؤه لا يكاد يخرج عن «أداء الواجب»، ولهذا فلن ننتظر إبداعًا، ولن نرجو تطورًا، ولن نتوقع جديدًا، وإنما هو اجترار مستمر، وأداء نمطي، ستكون حصيلته خريجين يحملون شهادات دون أدنى وفاء بمسماها، وسيكون مردوهم في الوظائف أقل من المتوقع، وخيالهم الإبداعي أقل سقفًا من نظرائهم في الجامعات التي تهتم بالتعليم، وتوفر الظروف المناسبة للجميع لأداء مهامهم بأقصى درجات الإجادة..
كنت آمل أن يستشرف أعضاء الشورى عند مناقشة هذه القضية نماذج وتجارب تلك الدول التي عرفت أن نهضتها ونموّها لن يتأتى إلا من باب التعليم، فجعلت من مهنة التعليم الأعلى مقامًا في المجتمع، والأرفع مكانة، ووفرت للمعلم كل ما يصون وجهه من الناحية المادية، وأتاحت له كل فرص الإبداع والتطوير، وحرصت على رفع سقف متطلبات شغل وظيفة معلم إلى أقصى غاية ممكنة، متحرية الأذكياء، والأقدر على العطاء، والأوسع أفقًا في الابتكار والتجديد والعطاء، فكانت حصيلة ذلك أنها نهضت في زمن وجيز، وتقدمت إلى مواقع الصدارة من بوابة العلم، ودونكم اليابان وماليزيا، ففيهما الكفاية والمثال لمن أراد أن ينهض ويتقدم ويتطور..
إن الغاية التي تستشرفها المملكة وفق طموحات وآمال رؤية 2030 ترمي إلى بعيد، ولا سبيل إلى تحقيق مصفوفات هذه الرؤية إلا عبر بوابة التعليم والمعرفة، ولن يكون ذلك ممكنًا إلا إذا وفرنا الظروف المثلى لذلك، بدءًا من المناهج، والبيئة التعليمية، والمعلم الذي يؤدي، ولا شك أن توصية الشورى تذهب باتجاه لا يخص ذلك؛ بل تزيد وضع تعليمنا المتأزم أزمة أخرى، وهي تقترح على أعضاء التدريس الخروج من قاعة التدريس، ومحاضن البحث، إلى وعثاء السوق، ومنافسة التجارة، لتنسف بذلك الصورة والمثال، وتضع الدرس الجامعي أمام هواية السقوط والانحدار الذي ينتهي بنا إلى خريجين بربع معرفة، ونصف وعي، وطموح منعدم. وشكراً للدكتورة الشعلان.
* كاتب سعودي
nyamanie@hotmail.com
ولم أجد من بين كل الوظائف التي أعرفها ويمتهنها الناس، وظيفة يمتد أثرها وتأثيرها على الشخصية التي تشغلها حتى بعد ساعات العمل الرسمية؛ مثل وظيفتي القضاء، والتعليم، كونهما تتعلقان بمجالين يتجاوزان زمنهما المحدد ومكانهما المخصص؛ حيث يصحبان من يقوم بأدائهما في كل تفاصيل حياته، بما يقيّد حركته، ويضبطها على إيقاع وتفاصيل الوظيفة ومتطلباتها. فسمت الوقار، والتزام الحياد، واجتناب الخوض في ما يخوض فيه عامة الناس، سمات مطلوبة في كل قاضٍ، ليحفظ له ذلك وغيره مقعدًا بعيدًا عن الانحياز والشبه والمحاباة والابتذال. والحال كذلك مع من يمتهن وظيفة التعليم، حيث ينظر إليه في صورة النموذج الذي يقتدى، والمثال الذي يحتذى، والقدوة التي يتأسّى بها الطلاب؛ ولهذا كان جديرًا بمن يتولى هذه المهنة أن يكون كفؤًا لها؛ صورة وسلوكًا وتصرّفًا، داخل سوق التعليم ودورها، وخارجها على السواء، ألا يخدش هذه الصورة الناصعة بأي مظهر أو مسلك يهز صورة المثال الناصع، والقدوة المرجوّة لدى الطلاب والناشئة.. ولا يتحقّق ذلك إلا إذا وفّرنا لكليهما – أعني القاضي والمعلم – من الظروف والبيئات ما يعينهما على الإيفاء بمتطلبات عملهما..
ولهذا؛ فلقد أثار استغرابي ما طرحته لجنة التعليم والبحث العلمي بمجلس الشورى من توصية، مفادها «السماح لأعضاء هيئة التدريس في الجامعات بممارسة المهن الحرة»، إن أقل وصف يمكن أن تدمغ به هذه التوصية أنها «كارثة»، لما تنطوي عليه من مثالب وسلبيات تنسف كل أثر إيجابي يمكن أن تحققه للمستهدفين بها؛ فلو نظرنا إليها وفقًا لما أشرنا إليه من متطلبات المعلم وضرورة حفظ صورته المثالية أمام طلابه، فإن هذه الصورة لا شك إلى اهتزاز واضطراب واختلال متى ما خاض أساتذة الجامعة غمار السوق ومارسوا التجارة، وربما نافسوا فيها طلابهم، لتضيع الهيبة، ويسقط المثال.. ولو نظرنا إليها من ناحية المردود المرجو من هؤلاء الأساتذة بعد فتح الباب أمامهم لممارسة المهن الحرة والتجارة، فلا شك أن ذلك سيكون خصمًا على أداء وظيفتهم التعليمية، وأستحضر هنا إشارة عضوة المجلس الدكتورة (لطيفة الشعلان) في سياق مناهضتها لهذه التوصية من تحت قبة الشورى، حين أشارت إلى أن «متوسط الساعات التدريسية لأستاذ الجامعة ما بين 12 ساعة إلى 14 ساعة تدريسية، غير مهام البحث، وغير الساعات المكتبية، وغير العمل باللجان والأعمال الإدارية، وغير الإشراف على طلبة الدراسات العليا، أو على طلبة التدريس الميداني»، ففي ضوء هذه الإشارة المهمة سيكون نشاط الأستاذ الجامعي متى ما ذهب مع توصية الشورى إلى السوق، خصمًا على وظيفته وساعاتها ومتطلباتها، وسيكون عطاؤه لا يكاد يخرج عن «أداء الواجب»، ولهذا فلن ننتظر إبداعًا، ولن نرجو تطورًا، ولن نتوقع جديدًا، وإنما هو اجترار مستمر، وأداء نمطي، ستكون حصيلته خريجين يحملون شهادات دون أدنى وفاء بمسماها، وسيكون مردوهم في الوظائف أقل من المتوقع، وخيالهم الإبداعي أقل سقفًا من نظرائهم في الجامعات التي تهتم بالتعليم، وتوفر الظروف المناسبة للجميع لأداء مهامهم بأقصى درجات الإجادة..
كنت آمل أن يستشرف أعضاء الشورى عند مناقشة هذه القضية نماذج وتجارب تلك الدول التي عرفت أن نهضتها ونموّها لن يتأتى إلا من باب التعليم، فجعلت من مهنة التعليم الأعلى مقامًا في المجتمع، والأرفع مكانة، ووفرت للمعلم كل ما يصون وجهه من الناحية المادية، وأتاحت له كل فرص الإبداع والتطوير، وحرصت على رفع سقف متطلبات شغل وظيفة معلم إلى أقصى غاية ممكنة، متحرية الأذكياء، والأقدر على العطاء، والأوسع أفقًا في الابتكار والتجديد والعطاء، فكانت حصيلة ذلك أنها نهضت في زمن وجيز، وتقدمت إلى مواقع الصدارة من بوابة العلم، ودونكم اليابان وماليزيا، ففيهما الكفاية والمثال لمن أراد أن ينهض ويتقدم ويتطور..
إن الغاية التي تستشرفها المملكة وفق طموحات وآمال رؤية 2030 ترمي إلى بعيد، ولا سبيل إلى تحقيق مصفوفات هذه الرؤية إلا عبر بوابة التعليم والمعرفة، ولن يكون ذلك ممكنًا إلا إذا وفرنا الظروف المثلى لذلك، بدءًا من المناهج، والبيئة التعليمية، والمعلم الذي يؤدي، ولا شك أن توصية الشورى تذهب باتجاه لا يخص ذلك؛ بل تزيد وضع تعليمنا المتأزم أزمة أخرى، وهي تقترح على أعضاء التدريس الخروج من قاعة التدريس، ومحاضن البحث، إلى وعثاء السوق، ومنافسة التجارة، لتنسف بذلك الصورة والمثال، وتضع الدرس الجامعي أمام هواية السقوط والانحدار الذي ينتهي بنا إلى خريجين بربع معرفة، ونصف وعي، وطموح منعدم. وشكراً للدكتورة الشعلان.
* كاتب سعودي
nyamanie@hotmail.com