«على المترجم أن يعيش في الظل»، بما يشبه هذه العبارة كان رد صالح علماني عليّ في عام 2005 عندما طلبت منه أن يقبل استضافتنا له على هامش معرض الكتاب في أبوظبي.
منذ زمن بعيد وأنا أعرف المترجم الراحل صالح علماني.. كانت معرفتي به مصادفة، إذ من حسن حظي أن يكون لدي نسختان من رواية لجابرييل ماركيز إحداها ترجمة علماني، والثانية مترجم آخر، كانت المفارقة بين النصين مذهلة إلى حد جعلني أتتبع ما يترجمه علماني الذي لم يكن بالنسبة لي مترجما، بل مبدعا.
في عام 2005 كنا في المؤسسة العربية للصحافة والإعلام في أبوظبي، نعد قائمة للضيوف خاصة بنا على هامش معرض الكتاب. كان اقتراحي وحماسي لاستضافة المترجم الراحل لافتا، مما جعل مديري -آنذاك- ناصر الظاهري يتعاطف مع حماسي ويوافق، وأذكر أن الزميلة والصديقة إيناس سليمان هي من زودتني برقمه، حيث كان والدها يملك دار نشر في دمشق.
كانت مكالماتي مع صالح علماني عديدة، جلها لإقناعه بقبول الاستضافة، وكان يرفض معللا أنه لا يحب الأضواء، فهو المترجم وليس كاتبا للنصوص وعليه أن يبقى في الظل! كان وقتها موظفا في وزارة الثقافة السورية ويستعد للتقاعد، ويهتم بأزهار زرعها في بيته.
لمن يعرفني يعرف أني لست إنسانة لحوحة، وهذا من عيوبي المهنية، إلاّ أني لأول مرة وأظنها كانت الأخيرة، كنت لحوحة في أن أقطف علماني من ظله.. لا أن اقتلعه. تواصلت مع شقيقه الذي كان يعمل في مدينة العين-آنذاك- ليقنعه، وتواصلت مع ابنته في دمشق لتقنعه، وجعلت الزميل والصديق كمال عبدالحميد في أبوظبي يتواصل معه ليقنعه.. وأخيرا بعد كل هذا قال لي في المكالمة الأخيرة: سآتي من أجلك.
عندما وصل صالح لمكتبي تلك الظهيرة في أبوظبي كدت أطير فرحا بهذا المترجم الذي دلني على ثقافة الناطقين بالإسبانية. وكان ذلك إيذانا منه بالخروج من الظل إلى دائرة الضوء.
لقد كان مرتبكا وحييا ولطيفا إلى أبعد الحدود. أخرج من الكيس الذي يحمله مقلمة مكتب صدف دمشيقة الصنع، مع الأسف كانت من ضمن الأشياء التي تركتها في مكتبي في أبوظبي، وأهداني إياها قائلا: هذه لكِ من الشام.
عندما أعلنا عن ندوته في المجمع الثقافي كانت القاعة صغيرة أشبه بغرفة اجتماعات، لم يحضر لتلك الندوة التي كانت في زحمة أيام معرض الكتاب إلاّ نحن المؤسسة العربية للصحافة والإعلام، وتحديدا زملاء القسم الثقافي. وأذكر أني طلبت من رياض الريس ومن صاحب دار ورد أن يحضرا معنا هذه الندوة، لكنهما رفضا رفضا جعلني أستغرب وقتها إلى أن عرفت معارك الناشرين لاحقا.
تركت أبوظبي بعدها بأشهر عديدة، لكن كنت أزور معرض الكتاب فيها كل عام، وكنت أبتسم في سري عندما أرى صالح علماني مستضافا، حيث اسمه ظل في القوائم الرائعة. لقد كان مختلفا عن أول خروج له من الظل.. كان أكثر حيوية واندماجا مع الضوء.
الأسبوع الماضي صعقتني وفاته.. وحزنت على مترجم عربي عظيم نقل الروايات المكتوبة بالإسبانية بروح كاتبها.. رحمك الله يا صالح علماني.. لقد كنت فذا في الظل والضوء.
* كاتبة سعودية
abeeralfowzan@hotmail.com
منذ زمن بعيد وأنا أعرف المترجم الراحل صالح علماني.. كانت معرفتي به مصادفة، إذ من حسن حظي أن يكون لدي نسختان من رواية لجابرييل ماركيز إحداها ترجمة علماني، والثانية مترجم آخر، كانت المفارقة بين النصين مذهلة إلى حد جعلني أتتبع ما يترجمه علماني الذي لم يكن بالنسبة لي مترجما، بل مبدعا.
في عام 2005 كنا في المؤسسة العربية للصحافة والإعلام في أبوظبي، نعد قائمة للضيوف خاصة بنا على هامش معرض الكتاب. كان اقتراحي وحماسي لاستضافة المترجم الراحل لافتا، مما جعل مديري -آنذاك- ناصر الظاهري يتعاطف مع حماسي ويوافق، وأذكر أن الزميلة والصديقة إيناس سليمان هي من زودتني برقمه، حيث كان والدها يملك دار نشر في دمشق.
كانت مكالماتي مع صالح علماني عديدة، جلها لإقناعه بقبول الاستضافة، وكان يرفض معللا أنه لا يحب الأضواء، فهو المترجم وليس كاتبا للنصوص وعليه أن يبقى في الظل! كان وقتها موظفا في وزارة الثقافة السورية ويستعد للتقاعد، ويهتم بأزهار زرعها في بيته.
لمن يعرفني يعرف أني لست إنسانة لحوحة، وهذا من عيوبي المهنية، إلاّ أني لأول مرة وأظنها كانت الأخيرة، كنت لحوحة في أن أقطف علماني من ظله.. لا أن اقتلعه. تواصلت مع شقيقه الذي كان يعمل في مدينة العين-آنذاك- ليقنعه، وتواصلت مع ابنته في دمشق لتقنعه، وجعلت الزميل والصديق كمال عبدالحميد في أبوظبي يتواصل معه ليقنعه.. وأخيرا بعد كل هذا قال لي في المكالمة الأخيرة: سآتي من أجلك.
عندما وصل صالح لمكتبي تلك الظهيرة في أبوظبي كدت أطير فرحا بهذا المترجم الذي دلني على ثقافة الناطقين بالإسبانية. وكان ذلك إيذانا منه بالخروج من الظل إلى دائرة الضوء.
لقد كان مرتبكا وحييا ولطيفا إلى أبعد الحدود. أخرج من الكيس الذي يحمله مقلمة مكتب صدف دمشيقة الصنع، مع الأسف كانت من ضمن الأشياء التي تركتها في مكتبي في أبوظبي، وأهداني إياها قائلا: هذه لكِ من الشام.
عندما أعلنا عن ندوته في المجمع الثقافي كانت القاعة صغيرة أشبه بغرفة اجتماعات، لم يحضر لتلك الندوة التي كانت في زحمة أيام معرض الكتاب إلاّ نحن المؤسسة العربية للصحافة والإعلام، وتحديدا زملاء القسم الثقافي. وأذكر أني طلبت من رياض الريس ومن صاحب دار ورد أن يحضرا معنا هذه الندوة، لكنهما رفضا رفضا جعلني أستغرب وقتها إلى أن عرفت معارك الناشرين لاحقا.
تركت أبوظبي بعدها بأشهر عديدة، لكن كنت أزور معرض الكتاب فيها كل عام، وكنت أبتسم في سري عندما أرى صالح علماني مستضافا، حيث اسمه ظل في القوائم الرائعة. لقد كان مختلفا عن أول خروج له من الظل.. كان أكثر حيوية واندماجا مع الضوء.
الأسبوع الماضي صعقتني وفاته.. وحزنت على مترجم عربي عظيم نقل الروايات المكتوبة بالإسبانية بروح كاتبها.. رحمك الله يا صالح علماني.. لقد كنت فذا في الظل والضوء.
* كاتبة سعودية
abeeralfowzan@hotmail.com