لو كان لنا من الأمر شيءٌ لقلنا للقدر اتئدْ قليلاً قبل أن تفجعنا بفقد أحبابنا. امنحنا فرصةً إضافيةً لعلنا نتشبّع منهم بحكايةٍ أخيرةٍ أو ابتسامةٍ أثيرةٍ أو نظرةِ وداعٍ نكسر بها حدّة تأنيب الضمير على ما حصل من تفريطٍ وقصورٍ.
عندما بلغني نبأ رحيل صديق والدي سيدنا سعيد محمد دبيس الغامدي أغلقت جهاز الجوال مع آخر حرف لرسالة من أخي صالح. وكالعادة فتحت شبّاك الغرفة؛ لأرى هل على مقبرة القرية أحد. لم يكن هناك سوى صمت يلف مثوى الأحباب. فاستعدتُ مضمون رسالة النعي، واستفاقت شاشة الذكريات. ونهض الشجن العارم بقلبي حتى كاد يكسر أضلاعي.
كأنني أحلم بالطفل الذي كان يكلّفه أبوه بدعوة السيد؛ ليقضي معه السهرة على برّاد حليب بالزنجبيل. كان الظلام في تلك الأيام دامساً حتى في الليالي المقمرة، فمواسم المطر والضباب لا تتوقف.
نتحرك باتجاه المنزل الذي كان بالنسبة لنا بعيداً والخوف يسكن وجداننا إلاّ أن الوصول إلى بيت سيدنا ينسينا وحشة مساريب القرية في زمن ما قبل الإنارة والهاتف.
يرتدي البالطو ويحمل الكشاف ويمسك بيدي فأشعر بالزهو وأنا أدخل على أبي بصحبة أعز أصدقائه. وأحتفل معهما بالحياة وأحاديث الذكريات بينهما تؤسس في الدماغ قدرات السرد وتبني في الوعي ملامح المسؤولية، ونظراً لمداعبة النوم أجفاني عندما أحضر لهما الشاي يقولان لي: «روح نام، وراك مدرسة».
تذكرتُ اليوم أن أبي -رحمه الله- يوم وفاته قبل ثلاثين عاماً وهو بكامل عافيته مثل صديقه الذي رحل اليوم، طلب مني قبل نقله للمستشفى أن أتصل بسيدنا رحمه الله و(محمد خبزان متعه الله بالصحة)؛ ليرافقاه، وبالفعل حضرا.
لم يقبل أبي أن يغادراه. وكلما شعر بفداحة الانتظار يقول لهما دقائق ونمشي سوا. لكن الأقدار قالت كلمتها وحالت بين الصديق وصديقيه ليعودا للقرية وحدهما دون مَنْ طلب المرافقة.
اليوم تعود يا سيدنا من جدة متطلعاً لصوم رمضان بين الأهل والأحباب، وقبل أن نستقبلك تودعنا وأنت بكامل عافيتك، وكأن مشهد رحيل أبي يتكرر اليوم ليتجدد الألم، وتنزف الروح أنّاتٍ تردد صداها جبال قرية بشير في الباحة.