تُحيي الأفكار دوماً ذكرى أصحابها؛ خاصةً الأفكار الإبداعية التي تلبس ثياب العبقرية، غير أنّ بعض العقول التي اعتصرت أجساد أصحابها قادتهم الى حتفهم، وتأتي هذه المقالة للتنقيب في تاريخ قدامى مفكري هذه الأمة الذين أورثونا علماً ما نزال ننهل من معينه.
فهذا سيبويه القادم من مدينة شيراز في أعماق فارس، قد نهل من العربية علماً غزيراً، وكتب كتاباً عرف باسم الكتاب، وطبع باسم كتاب سيبويه، وهو من أنجب تلاميذ الخليل بن أحمد الفراهيدي، وهو المرجع الأساسي لعلماء العربية، فالرجل كان يمثل إمام مدرسة البصرة في النحو، ودعاه يحيى البرمكي مستشار الخليفة هارون الرشيد لمناظرة الإمام الكسائي شيخ مدرسة الكوفة النحوية وهو أحد علماء القراءات السبع في القرآن. وقد تناظرا في ما عُرف في التاريخ باسم المسألة الزنبورية.
وهذه المناظرة تمثل منافسة بين مدرستي البصرة والكوفة في النحو، وذلك حينما طرح الإمام الكسائي مسألة على سيبويه قائلاً: «كنت أظن أن العقرب أشد لَسْعَةً من الزُّنْبُورِ فإذا هو هي أو إذا هو إيّاها»؛ فأجابه سيبويه: فإذا هو هي، ولا يجوز النصب.. فقال له الكسائي: لحنت يا سيبويه، ثم ختمت المناظرة بفوز الإمام الكسائي على سيبويه، فخرج سيبويه من بغداد مغموماً مهموماً وندم ندامة الكسعي على مجيئه إلى بغداد ثم ذهب إلى مسقط رأسه وأظنه أصيب بجلطة دماغية من ارتفاع ضغط الدم الذي وصل إلى درجات قياسية.
جاءت آخر أنات سيبويه وهو مسجى على فراش الموت مردداً يا ليتني لم أذهب إلى بغداد، فقد قتلوني وحطّموا أضلعي وقهروني.
وبدأ شريط ذكريات هذه الرحلة القاتلة يدور في رأسه مع إحساسه بألم حاد في رأسه، لأنه كان يأمل أن تدرّ عليه هذه الرحلة الجاه والرفعة لدى هارون الرشيد ووزيره البرمكي، ولكن هيهات، فقد خابت كل توقعاته، وخرج من بغداد يجرجر أذيال الندم حينما أعلن البرمكي فوز مدرسة الكوفة بقيادة الإمام الكسائي على مدرسة البصرة بقيادة سيبويه، في ما عُرف في التاريخ باسم المسألة الزنبورية.
كان سيبويه محبوباً من شيوخه، فهذا الخليل بن أحمد كان يقول دوماً حينما يقبل عليه سيبويه: مرحباً بزائر لا يُملّ.
مات سيبويه ولم يمت علمه؛ وكذلك لم تمت ذكراه بين طلاب وعلماء اللغات، فقد ظل علماً شامخاً كالطود العظيم، وظل كتاب سيبويه مرجعاً في النحو والصرف، وقد رثاه العديد من الشعراء قديماً وحديثاً.
مات سيبويه ولم تمت ذكراه، وكم من حي ميت بين الناس، فالإعلام حمل اسم سيبويه في كل أرجاء الدنيا مختاراً إياه من بين مئات الناس في زمانه، وحينما يُذكر اسمه؛ تُذكر العربية وقوتها بين لغات الأمم الأخرى، رحم الله سيبويه الذي خلفَ إرثاً ثقافياً وفكرياً ينهل من معينه علماء اللغة والأدب.. بما يحفظ للغة العربية تألقها وبهاءها.