-A +A
محمود سليماني *

سجل الصيف الماضي درجات حرارة تعد الأكثر سخونة في التاريخ، والذي وضعنا في مكان يصعب علينا فيه وصف مدى خطورة التغير المناخي على حياتنا وحياة كوكبنا، فعلى الرغم من الحلول والاقتراحات التي قام بطرحها العديد من الخبراء والشركات والحكومات على مستوى العالم، إلا أننا لا نزال في مرحلة التخطيط ليس التنفيذ. ونحن اليوم، على بعد أيام من انعقاد مؤتمر الأطراف في اتفاقية الأمم المتحدة الإطارية بشأن تغير المناخ COP28، الذي سيكون بمثابة منصة لرسم خارطة طريق واقعية تهدف إلى تسريع وتيرة الاعتماد على مصادر طاقة مستدامة وتقليل الانبعاثات الكربونية قبل حلول عام 2030.

لقد شهدنا منذ بداية العام تغيرات مناخية هائلة، حيث كانت معظم شهور هذا العام ضمن قائمة الأشهر الأعلى حرارة على الإطلاق في بعض المناطق، في حين شهدت مناطق أخرى هطول أمطار غزيرة خلال أيام تعدت المعدلات السنوية لها. إننا نشهد الآثار الهائلة للتغير المناخي بصورة مستمرة، كما وصلنا لنقطة فارقة يجب أن نتخذ فيها إجراءات حاسمة وفورية لمواجهة التغير المناخي وإلا سنصل لنقطة اللاعودة.

لقد أصبح كل انخفاض في انبعاثات ثاني أكسيد الكربون هاماً ومؤثراً للغاية، لأن الواقع الحالي يشير إلى أن العالم لا يحقق التقدم المطلوب في مكافحة التغير المناخي بشكل عملي. ففي عام 2022، وصلت الانبعاثات الكربونية على مستوى العالم لرقم قياسي غير مسبوق، حيث سجلت 36.8 مليار طن من ثاني أكسيد الكربون. في الوقت نفسه من المتوقع ارتفاع الطلب العالمي على الطاقة بنسبة 25% تقريباً بحلول عام 2030، بينما ما زال نحو 775 مليون شخص حول العالم يفتقرون لأبسط مصادر الكهرباء.

ولكي نتمكن من الوصول إلى صفر انبعاثات كربونية، على دول العالم إعادة التفكير بصورة جذرية في أسلوب حياتها، كما يجب على العالم أن يعترف بأن الطاقة ليست مجرد سلعة؛ بل هي أحد أهم أسس التنمية الاجتماعية والنمو الاقتصادي وتحقيق الازدهار. ويعني ذلك أن غياب إمدادات الكهرباء يعيق النمو الاقتصادي ويبطئ التنمية الاجتماعية بصورة كبيرة. إنّ تجنب الاعتماد على وقود واحد أو عدد محدود من بدائل الوقود، أو الاعتماد على حلول تكنولوجية بعينها، أو الاعتماد على دول معينة، سيكون عاملاً رئيسياً لمواجهة التغير المناخي، كما سيؤدي ذلك لتعزيز قدرات البنية التحتية والنظم البيئية على تحمل تغير المناخ. علاوة على ذلك، سيصبح تحول قطاع الطاقة على مستوى العالم هو التحول الأكثر أهمية في تاريخ البشرية منذ ظهور الثورة الصناعية.

إنّ التعامل مع تحول قطاع الطاقة يعني التعامل بالتوازي مع عدة قطاعات تتسبب في انبعاثات غازات الاحتباس الحراري، حيث تأتي الانبعاثات الكربونية على المستوى العالمي من عدة قطاعات مختلفة، وليس لها حل واحد أو بسيط.

إنّ تنفيذ اتفاقية باريس للمناخ منذ عام 2015 والتي كان هدفها طويل الأجل هو الحد من ارتفاع درجة حرارة العالم عند مستوى أقل بكثير من 2 درجة مئوية، يفرض على العالم مسؤوليات هائلة للقيام بكل الإجراءات اللازمة للتعامل مع هذه القضية الحيوية. ومن بين هذه الإجراءات التوسع في الاعتماد على بدائل الطاقة المتجددة في أسرع وقت ممكن، وتعزيز شبكات الكهرباء، وتطوير صناعة الهيدروجين الأخضر للقطاعات كثيفة الانبعاثات الكربونية، والأهم من ذلك، تعزيز كفاءة الطاقة كلما كان ذلك ممكناً.

من ناحية أخرى، يتمتع قطاع الطاقة العالمي بالمعرفة والخبرات والقدرة على تطوير حلول تكنولوجية مبتكرة لبناء نظام طاقة مستدام للمستقبل تصل فيه الانبعاثات الكربونية لصافي صفر. إنّ كل ما يتطلبه الأمر هو ألا تتحول مؤتمرات المناخ العالمية والتي من بينها COP28، إلى مجرد تدريب لتبادل المعلومات، مما يؤدي إلى صدور توصيات غامضة لا يمكن تنفيذها. ولكن ما نحتاج إليه هو مجموعة من التدابير والإجراءات العملية الملموسة التي ستصنع التغيير المطلوب. لقد أوجز أمين عام الأمم المتحدة، أنطونيو غوتيريش، ذلك بقوله: «يجب على القادة أن يقودوا مسيرة التغيير، لا حاجة لنا لانتظار الآخرين كي يتحركوا أولاً».

وتجدر الإشارة إلى أن هنالك العديد من المحاور التي تساهم في التحول الناجح لقطاع الطاقة المستدامة في المستقبل، ومن أبرزها:

تعزيز الاستثمار

تتطلب الإجراءات المناخية المؤثرة ضخ الكثير من الاستثمارات التي تحتاج إلى نموذج أعمال محدد وهو ما يعني أن أسعار الطاقة لا يمكن أن تواصل انخفاضها مستقبلا. بالإضافة إلى ذلك، سيتطلب تمويل جميع مشاريع الطاقة اللازمة في القطاعات المختلفة ضرورة تغيير نمط التفكير التقليدي، كما يجب وضع نظام لمساعدة دول العالم الفقيرة على تمويل تحول قطاع الطاقة بها. لقد كان توجه قمة COP27 بتمويل خسائر وأضرار البلدان الفقيرة التي تضررت بشدة من الكوارث المناخية خطوة هامة في الاتجاه الصحيح. لذا يتعين على قمة COP28 هذا العام الاستفادة من ذلك ووضع إطار دولي لتغيير طرق تمويل إجراءات مكافحة تغير المناخ.

التنفيذ الفعال

هناك حاجة ماسة لتعزيز وإقامة بنية تحتية قوية لشبكات الطاقة، بالإضافة للتوسع في مشاريع الطاقة المتجددة. وسيتطلب هذا التنفيذ الفعال موارد كثيفة ومصانع وبنية تحتية. ولأن الحجم الذي نتحدث عنه هائل للغاية، سيكون من الضروري وضع شروط صارمة وملزمة لمشاريع الطاقة بحيث تتوافق مع أعلى مستويات الكفاءة والفعالية. إنّ الأمر لا يتعلق فقط بإجراءات الحصول على التراخيص بصورة أسرع وأسهل وبشكل يمكن التنبؤ به، ولكنه يتطلب مفاهيم ومعدات قياسية موحدة داخل هذه المشاريع.

الابتكار

من المتوقع أن تأتي 45% من وفورات الانبعاثات الكربونية عام 2050 من الاعتماد على الحلول التكنولوجية التي لم يتم ابتكارها بعد. ويبرز هنا سؤال: كيف نجعل التقنيات المبتكرة ذات جدوى اقتصادية في سوق الطاقة؟ من الصعب الاعتماد على التقنيات المبتكرة التي لم يثبت نجاحها على المدى الطويل، نظراً لأن مشاريع الطاقة عمرها ممتد. إنّ قطاع توليد طاقة الرياح من القطاعات التي تضرب مثالًا للنتائج السلبية المترتبة على تحفيز الابتكار بسرعة مبالغ فيها وبدون الأخذ في الحسبان التوازن بين المخاطر والمكاسب. لقد أحرز قطاع توليد طاقة الرياح تقدماً تقنياً كبيراً في السنوات الأخيرة، لكن السوق لا تزال مليئة بالعيوب والأخطاء. لذا يجب علينا معالجة تلك المشاكل حتى يتمكن موردو التوربينات من تحقيق ما يحتاجونه من مكاسب من أجل تمويل الابتكار. وإذا كنا نريد للابتكار أن يزدهر، يجب علينا تحديد كيفية توزيع المخاطر والمكاسب بشكل عادل.

التجارة العالمية

لا شك أن تنويع سلاسل التوريد والحلول التكنولوجية يمثل المنهج الصحيح. ولكن، يجب ألا نخدع أنفسنا. فالتنويع يتطلب استثمارات كثيفة ويتطلب وقتاً لتنفيذه. ففي الوقت الذي نقوم فيه بالتنويع، يجب علينا التأكد من أن التجارة العالمية مفتوحة وأنّها مجدية اقتصادياً. فكل ما يبطئ تطوير الحلول التكنولوجية في مجال الطاقة سيبطئ أيضاً جهودنا المبذولة ضد التغير المناخي.

وختاماً يمكننا القول إنه في الوقت الذي لا يمكننا فيه الاستهانة بالتحديات التي تواجه COP28، إلا أننا لا نستطيع الاستهانة بالفرص الهائلة لحل المشاكل التي تواجه المناخ العالمي إذا تم استغلال هذه الفرص بالشكل الصحيح. إنّ قمة COP28 ستضم مجموعة متنوعة من الأطراف، لذا يجب ألا نفوت الفرصة في أن يكونوا جميعاً قادة للتغير المناخي مع نهاية المؤتمر.

* المدير التنفيذي لشركة سيمنس للطاقة في السعودية