-A +A
شروق سعد العبدان aio70077@
في إحدى سنوات العمل، اضطررت أن انتقل لفترة لمكان جديد بعيداً عن مكان عملي السابق وصديقاتي ومكتبي وجدراني وطقوسي التي اعتدت عليها كل صباح، على أنني كنت أثق في شخصيتي الاجتماعية لكنها خذلتني.. سُئلت مرة بأنني تغيرت كثيراً لدرجة كأنني منهكة، فقلت بلا تردد: ربما لأنني «فُطمت» (كل انقطاع عن شيءٍ اعتدتَ عليه، وأوجع قلبك هو فطام)، كنتُ حينها أشعر بالحزن الذي قطعت به تلك الفترة، أخبرني أنه «الفطام» ليس شرطاً أن يكون بشراً، ربما مكاناً أو وطناً أو حتى عطراً، أو كلماتٍ! كل ما تحب وأُخذ منك قسراً تبدو بعده كأنك طفل قد فُطم.

ناهيك عن حجم البكاء واضطراب النوم وقلة الطعام، منذ فترة قُطِعَ عني شيء كنت أراعيه في ذاتي، سقطتُ واقفة سُلِبتْ مني حياتي في لحظة، شعرت أن الدنيا توقفتْ، وأني لن أستطيع المكوث بهذا الضعف أكثر. شعرت أنني مريضة رغم كل المحاولات البائسة من حولي لانتشالي من هذا..


نحن ضعفاء أمام ما اعتدنا عليه حبّاً والتصاقاً، الثقب الذي يخترق صدرك عند غياب شيء أحببته قد يقتلك، أو على الأقل يقتل بهجتك.. كل معاجم اللغة تقول إن الفطام يعني القطع، وقطع الشيء عنك هذا معنى فطامك، قد يتعافى شخص فجأة لأنه عاد لما يُحب، قد ننجح ونجتاز ونستمر؛ لأننا استرجعنا ما نريد. لا تستهينوا أبداً بتعلق أحدهم في شيء وإنهاكه وقتما يفقده، نحن حفنة مشاعر خُلِقنا من طين، كل أمرٍ يمر علينا يشكلنا من الداخل، نحن في دواخلنا بشر آخرون، نحاول جاهدين الخروج أمام الحياة بصلابةٍ، ولو أن الله أرادها لنا لخُلقنا من حجر..

عندما يقال لك حدثني لأنام، أو أريد رؤيتك لأتعافى، أو أبعث لي برسالة اشتاق أن ابتسم، لا تعتقد أنها من جوف الفراغ، هي حقاً تأتي بهذا الشعور.. عندما رأيتُ وجع أبي على عمي بعد وفاته، انعزاله وتفكيره، وتجنبه لجميع الأماكن والبشر الذين كانوا يجمعونهما معاً، حديثه وذكرياته المستمرة عنه، أيقنت أن فطام الكبار أشد وأدهى..

الفطامُ قد يُطفئ ما كان متوهجاً، قد يُصمتُك وأنت الذي تُحب الحوار، ربما تُحب الليل وأنت فلذة كبدِ الصباح، وتنام كثيراً، وأنت الذي لا تفارق اليقظة، يشعر الجميع حولك أنك لم تعد كما كنتَ، الانقطاع عن أشياء اعتدناها ليس بالأمر السهل؛ لذلك وقتما تقررون المضي أو التخلي كونوا لطفاء فيما ستفعلونه؛ لأن كل ما سيحدث سيواجهه مُضغة كيف لها أن تضخ الحياة وهي منثنية..؟!