-A +A
عباس شرقاوي
ينساب الإنسان كسائل رقراق بين ثنايا العالم؛ وديانه وجباله وسهوله وتلاله، يتحرك ويمر على الأشجار والأحجار والحيوان والنبات والإنسان، ويأخذ من كل ما مر به مسحة أو نكهة أو طعما أو أثرا، يتحرك معه في انسيابه، ويتتلمذ ويتعلم فتجد شخصاً مر عليه عشرات أو مئات، واقتبس منه ما تمكنت حاويته من الالتقاط والاقتباس، ويظهر لك المبدعون كومضات، بين ثنايا الأيام، يتدارون من موات ركاكة الرتابة، وثقل إيقاع الروتين المفيد أحياناً، فيضيئون كنجوم ساطعة في ليل ساحر، فيقتبس من ومضتهم طيفاً، أو أثراً، لإشعال ضوء شمعات مكنوناته، المنتثرة في كهف ذاته أو غابة مكنوناته، أو فضاء محتوياته.

وقد تشرق ذاته على أوسع التقاط للإشارات الصادرة من كل ما حوله، لتطلقه عن عقاله، فيسبح في عالم المعاني الواسع، فينظر في كل شيء ليجد معنى لشيء، «أَفَلَا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ (17) وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ (18) وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ (19) وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ (20)».


فتأمل وانظر والتقط وسر، اقرأ في كتاب ابن القيم الشهير بمفتاح دار السعادة ومنشور ولاية العلم والإرادة، ترى سعة نظر العالم للعالَم، يمر عليك جمع غفير من القدوات، والمربين، والعلماء، والساعين ليحققوا شيئاً من ذواتهم العابرة خلال لحظات الزمن. وكل من لمس قطرة من شيء حقيقي له أثر ومعنى، وعاشه بأبعاده المتعددة المتنوعة، علميا أو فكريا أو نفسيا أو روحيا أو ثقافيا، فغاص في مكوناته وتداعياته، فازدهر في بواطنه المشرقة فانبجست منه عيون وأنهار من الإضاءات النيرة، فتجد من تأمل عشرات أو مئات من نجوم الإثراءات، فلونت ذاته بألوان الطيف ذات الإشعاع المتماوج، فلا يريد أن يفيق من ذوبانه في هذه الإثراءات.

وتجد من يتقولب في أقرب إطار يجده أمامه، فتجد الطالب يريد أن يتقولب في إطار أستاذه، والباحث في إطار أساتذته المستأتذين، أو مركز بحث جذبه ولفت أنظاره بشموخه ورسوخ تقاليده العتيدة، فيتقولب في إطار مركز البحث، ويعيش ذلك الدور بذلك القالب، وكذلك من عاش بتنظيم متشعب، أو بمدينة تضج بالحياة، أو بجزيرة هادئة تسمع فيها حفيف أوراق الشجر وتتأمل ازدهارها وسقوطها وظهور أزهارها، وتستمع لحكيم الجزيرة، وتتقولب في قالبه، لذا يخبرك أن في سيرة العالم فلان ألف شيخ، تتلمذ عليهم وأخذ عنهم، فلا تتصور اقتباساته من كل ما رأى، فتجده قد عاش بقالبه الخاص الذي اختاره، وتميزت به ذاته، وسار مَعْلَمَاً بذاته، يضاف إلى النجوم المضيئة في سماء ذلك العلم أو الفن أو المعرفة. ومن كان أحاديا في تعلمه أكان ذلك المصدر هو الدكتور أو الشيخ أو القدوة أو الأستاذ المعلم أو المربي فغالباً ما يعيش في داخل قالب جلبابه، ونادراً ما يشذ عنه بشيء، وتمضي حياته وهو بذلك القالب، وكثيراً ما يتقولب الشخص، ولا يدري أنه متقولب، بل يكون طبعة سريعة لأمر جميل مر به، فانسحر وانشده به، فتمت إذابته وإعادة صبه في ذلك القالب، بلحظات، وقد تكون قوة الانبهار وضعته في قالب اكتفى به باقي حياته، قصة تأخذنا إلى من اشتهر بالحلم الأحنف بن قيس.. قيل للأحنف: ممَّن تعلمتَ الحِلم؟ قال: مِن قيس بن عاصم المنقري، رأيتُه قاعدًا بفناء داره، محتبياً بحمائل سيفِه، يُحدِّث قومه، حتى أُتي برجل مكتوف، ورجل مقتول، فقيل له: هذا ابنُ أخيك قَتَل ابنَك، فوالله ما حلَّ حُبوتَه، ولا قطع كلامه، ثم التفتَ إلى ابن أخيه، وقال: يا ابنَ أخي، أسأتَ إلى رَحِمك، ورميتَ نفسك بسهمك، وقتلت ابن عمِّك، ثم قال لابنٍ له آخر: قُمْ يا بني، فحلَّ كتاف ابن عمِّك، ووارِ أخاك، وسُقْ إلى أمِّه مائةَ ناقة دية ابنها، فإنها غريبة، ففي هذه الومضة تعلم منه الحلم، وصار مضرب المثل بالحلم، حتى لم يعرف الكثيرون عن قيس بن عاصم، ويعرفون النسخة المركزة منه الأحنف، الذي اقتبسها وعدد من تطبيقاتها، حتى ساد قومه. فقد يسعك التقولب بقالب تسمع عنه أو تلامسه في حياتك، أو تصنع لك قالباً يناسبك، فقدوات العالم كثر، وأسماها وأعلاها سيد البشر عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم.

abdoilhsh@gmail.com