يرى التفكيكيون أن أول مصادر دراسة النص لديهم هو البحث عن التناقضات في النص، وهذه ستفجر مجموعة من الصراعات داخل القصيدة، حيث تحقق الثنائيات المتنافرة تخلخلاً واضحاً في بنية النص، كما تعد بنية التضاد إحدى البنيات الأسلوبية التي تغني النص الشعري بالتوتر، والعمق والإثارة، وتقوم هذه البنية على الجدل (الديالكتيك) الذي يعني وجود حالة تناقض وصراع وتقابل بين أطراف الصورة الشعرية، وغالباً ما تشتغل على شكل ثنائيات ضدية، وهي العنصر الأكثر أهمية بين مكونات النص الشعري.
إن التنافرات والتصادمات في تشكيل النص تسجل ردود أفعال لدى القارئ، وتمثل التضادات نقطة فراغ دلالي يحتاج إلى ملئها، لأن سيكون ضائقة لم يعهدها القارئ، فيبحث عن كيفية تحقق التلاقي أو التلاقح الدلالي.
ترتبط لذة النص في رؤية (بارت) بالانقطاعات، كأن تلتقي المتنافرات، وهذا أيضا يلتقي مع الشاعر شفيق العبادي، لأنه اجتهد في الثنائيات الضدية المبنية وفق التنافر و«المنافرة تعتبر خرقا لقانون الكلام، إنها تتحقق على المستوى السياقي».
كما أن اشتغال الشاعر شفيق العبادي داخل اللغة بالغ الأهمية، إذ «استطاع أن يشق لنفسه لغة خاصة» والمتتبع لشعره سيلاحظ العلاقات التي يقيمها بين ألفاظه، وهي علاقات تحتاج إلى الوقوف عندها:
«وكنتَ عَرَّافُ الرِمَالِ بهَا
كتابُ الغَيْمِ
بَوصلَةُ الغَريْبِ
ظِلالُ مَا بَينَ السُطُوْرِ
تَصُوغُ فَوْضَاكَ الجَمِيلةَ مِنْ جَدِيدٍ»
ñضياع
وواضحة ههنا بنية التضاد:
فوضى = ñ فناء
عراف= تنبؤ +توقع +أمل ñ موت
الرمال = جفاف+تيه= تصحر سطور) Ü وجود +تنوير+ حضارة
ومثلما تشتغل نصوص الشاعر في هذه القصائد على التضاد، كذلك تشتغل على جدليات كثيرة منها، جدلية المفارقة، والمفارقة كما يقول (جوته): «هي ذرة الملح التي وحدها تجعل الطعام مقبول المذاق» أو كما يقول (كيركيكارد) عنها: «ليس من فلسفة حقيقية ممكنة من دون شك، كما يدعي الفلاسفة، كذلك قد يدعي المرء أن ليس من حياة بشرية أصيلة ممكنة من دون مفارقة»، وخلاصة القول إن الأدب الجيد جميعاً يجب أن يتصف بالمفارقة.
والمفارقة في شعر شفيق العبادي تأخذ أشكالاً عدة، منها (مفارقة التنافر):
«كُلَّما
كُلَّما
كُلَّما
كُنتَ تُبْري يدِي كي أخطَّ على الغَيمِ لي قدَما
ثمَّ تمْحو فمِي وتُراقِبُني
كيف أرسُم لي من جديدٍ فمَا»
وتتشكل بنية التنافر والاختلاف من خلال جدلية (الأنا) و(الآخر) في نص (سير ذاتي/سير غيري):
«وُلِدتُ عَلى بُعْدِ قَافِيةٍ مِنْ هُنَا
وَحَرْفًا بِطَعْمِ المَجَازِ اسْتَعَارَتْهُ أُمِّيَ مِنْ سُمْرَة القَمْحِ
مِنْ حُضْنِ سُنْبُلَةٍ شَكَّلتْهُ تَضَارِيسُ أَحْلَامِها
ذَاتَ صُبْحٍ بِلَونِ السَنَا
تَنَاهَبهُ العُمْرُ أُرْجُوحَةً كُلَّما مَالَت الرِيحُ مَالتْ لَه الرِيحُ
لكِنَّهُ مَا انْثَنَى»
ويبدو أن المفردات المؤلفة لبنية التنافر في النص، تعمل على إنجاز مفارقة دلالية وصورية فيما بينها، عبر عنصر الصراع الذي يحصل عادة بين المتضادات، فـ «بما أن الكلمات المتضادة تصر دائماً على إقصاء بعضها البعض، فإنها تصبح سجينة طاحونة من الانزياحات المختلفة والممكنة التي توهم ببنية مفتوحة مستحيلة الإنهاء وذات نهاية اعتباطية»، وهذه النهايات تعمل على مضاعفة طاقة الأداء الأسلوبي المنتج لجماليات القصيدة:
«أول الأبجدية
مِن هاهُنا مرَّ عُـمرُكَ في التِيهِ
يَهْتفُ كُلُّ الصبَايَا نَضجْنَ
فكَيفَ نُخَاتِلُ شَوكَ النَواطِيرِ
كَيمَا تَعودَ إلى القَلبِ بُجْـَر الغَرَام»
إن التنافر بصيغه المتعددة يمثل أسلوباً يكسر رتابة النص وجموده بإثارة حساسية القارئ المتلقي ومفاجأته، بما هو غير متوقع من ألفاظ وعبارات وصور ومواقف، تتضاد فيما بينها، لتحقق في نهاية المطاف صدمة شعرية يتعالى بها النص على قارئه، ويحلق في فضاء جمالي خاص، ويحرضه على الحوار والتفاعل، وإعادة إنتاج المعنى، إذ «ليس هناك نص أدبي لا يخلق من حوله مجموعة من الفجوات والفراغات التي يجب على القارئ أن يملأها».
كما أن التنافر من أكثر الأساليب قدرة على إقامة علاقات جدلية بين النص من جهة والقارئ من جهة أخرى.
إن ظاهرة جمع المتنافرات نجدها عند شعراء الشعر الحديث وحتى القديم، إلا أنها تتكرر عند الشاعر شفيق العبادي وتكاد تكون سمة غالبة، ووفق آليات مغايرة لآليات الشعراء الآخرين، ومن بينها الدخول مع الطبيعة والأشياء في تبادل الممارسات «فتؤنسن الأشياء ويشيّء الإنسان».
ويختصر الشاعر شفيق مشروعه في اللغة الشعرية، حيث يبحث عن سردنة (البحث في التابوات= التابو السياسي + التابو الاجتماعي) وتصنيع الأسئلة الممنوعة أو المحظورة في أقل تقدير:
«هِيَ الآنَ تُحْصِي تَجَاعِيدَ أَحْلامِهَا
تَتَهَيَّأُ مُنْذُ الخَرِيْفِ الذِي فَاتَ لِلْعُرْسِ
تُعَانِقُ خَيْطاً مِنَ الوَهْمِ
تَفْرُشُ أَهْدَابَها لِلْعَصَافِيرِ
تَحْضُنُ ثَوبَ الزَفَافِ
تُسَرِّحُ فِي شُرْفَةِ الدَارِ مَخْضُوبَةً بِالأُنُوثَةِ خُصْلاتِهَا الذَهَبِيَّةَ
لكنَّ فَارِسَها لمْ يَجِئْ بعْدُ».
وتكتنز نصوص الشاعر بتشكيلات من الضديات التي تصنع الدراما في القصائد القصيرة والطويلة فيها على حد سواء، ففي قصائده تتضاد الثنائيات لتلتقي وتثير شهوة القراءة، وبهذا يتحقق التماس والتداخل والتنافر بين الشيء وضده، فمن تداخل الليل والنهار يولد الفجر، الذي هو ليس ليلاً ولا نهاراً.
وحين يقول كوهين: إن «الشعر يولد من المنافرة»، فان المنافرة لها القدرة على نوع من الدراما المتطورة في النص، حتى يصل تأثيرها إلى صناعة الإيقاع الداخلي للقصيدة، وهي – المنافرة – شرط من توفر هذا الإيقاع:
«لمن غيمة السحر مضروبة تلك ما بين ثلج ونار
يحاور فنجان فتنتها دلة الشعر في
ولكنني لا أجيد الحوار
تخيلتها وهي تسقي المصابيح حتى انطفأنا جميعاً بها
ثم عدنا ارتوينا بما فاض من قمر في الجوار
تعال نمل نحوها يا قرين القصيدة نملأ منها الجرار
لنرقي شياطين أحرفنا بتعاويذها
فالقصيدة ظمأى
ولا مطر كي يعيد لها ما استعارته منها الليالي القفار»
وواضح ههنا تشكيل الإيقاع الداخلي المتنافر للقصيدة، من خلال:
*ثلج Û نار.
• تنافر (المصابيح) و(انطفأنا)، وكذلك (تسقي) و(ظمأى).
ف (الثلج) ÜÜÜ بياض، سكون، نقاء
و (النار) ÜÜÜ احتراق، صوت، فوضى
وكذلك (تسقي) ÜÜÜ ارتواء، اكتفاء، راحة
أما (ظمأى) ÜÜÜ عطش، قلق، ضعف
فلا يقتصر الإيقاع الداخلي في النص الشعري على العروض، وأعني الوزن والقافية، وإنما ثمة موسيقى أخرى، تنبع من أعماق هذا النص من خلال العلاقات التي تربط بين عناصره أو تكويناتها الداخلية، وينشأ هذا الإيقاع من خصوصية اللغة الشعرية، المشحونة بالدهشة وصور التضاد والمفارقة والتوتر الذي ينبثق من المناخ الدرامي للنص الشعري.
لقد حددت اللغة مسميات الأشياء فاتضح العالم للوعي البشري، هذا من جهة، ومن جهة أخرى اللغة تحقق الذات والآخر بالحوار، مع الحداثة الشعرية التقت الجهتان، ودخلت اللغة في حوار مع الأشياء التي لها لغة لا يفهمها إلا من يعرف فك الشفرات والرموز، فيدخل هذا الإنسان في حوار مع العالم بكل مظاهره، وبذلك يتحقق الحوار بين الإنسان والوجود.
يطرح الشاعر شفيق العبادي العديد من الأسئلة في نصوصه، وهي ليست أسئلة ليقال إن النص مملوء بالأسئلة، ولكنها أسئلة مساءلة، لاتقف عند حدود الطرح، ولكنها تسائل وتراقب وتحاكم:
«أي شيء أملــت الريــح لعـينـيك فأدركت تضاريـس الفضاء
وعصـرت الدهـر فـي ريشتك الحمراء موالا حـسـيني الإباء
واستعرت الموت قنديلا من الشمس لكي تكتب صبح الأنبياء
شـرفــة تبتكـر الآتــي فضـاءات وتفتــض حكـايات الســماء
لوحـة مــن هــذيان العشـــق قد وقعتها يوما بحبر الشـــهداء
وردة خضراء كم سطرها الوجــد وأملتــها مرايا كربـــــلاء
فهل يعيد الشاعر شفيق العبادي على مسامعنا المثل الذي يقول:
«الشعراء مشرعو العصر»
إن قصائد الشاعر العبادي مليئة بالتضادات والمفارقات والأسئلة والجدليات، نصوص مساءلة يطلقها الشاعر من كل قصيدة أو مقطع أو جملة أو كلمة، ثورة شعرية خاصة تقوم في بنية النص أساسها التضاد من كونه يشكل عنصر المخالفة، وهذه «المخالفة تغدو فاعلية أساسية يتلقاها القارئ عبر كسر السياق والخروج عليه» والشاعر هنا يؤسس للغة مبتكرة، وهذا ليس معناه ابتكار دالات لغوية جديدة غير واردة في المعاجم، إلا أن الابتكار يكون في التشكيل وهو التركيب المميز للدلالات.
إن قصائد الشاعر شفيق العبادي تحتاج إلى قراءات متعددة، فهي من القصائد الذكية التي يتمتع شاعرها بمخيلة مبدعة وثقافة واسعة ووعي كبير، إنها سهلة القراءة صعبة الكتابة، لكنها في العديد من جوانبها عصية على الفهم -رغم بساطتها- ما لم يتسلح (المتلقي/ الناقد) بثقافة شعرية عالية فهو إزاء كتاب شعري متألق ومبدع.
إن التنافرات والتصادمات في تشكيل النص تسجل ردود أفعال لدى القارئ، وتمثل التضادات نقطة فراغ دلالي يحتاج إلى ملئها، لأن سيكون ضائقة لم يعهدها القارئ، فيبحث عن كيفية تحقق التلاقي أو التلاقح الدلالي.
ترتبط لذة النص في رؤية (بارت) بالانقطاعات، كأن تلتقي المتنافرات، وهذا أيضا يلتقي مع الشاعر شفيق العبادي، لأنه اجتهد في الثنائيات الضدية المبنية وفق التنافر و«المنافرة تعتبر خرقا لقانون الكلام، إنها تتحقق على المستوى السياقي».
كما أن اشتغال الشاعر شفيق العبادي داخل اللغة بالغ الأهمية، إذ «استطاع أن يشق لنفسه لغة خاصة» والمتتبع لشعره سيلاحظ العلاقات التي يقيمها بين ألفاظه، وهي علاقات تحتاج إلى الوقوف عندها:
«وكنتَ عَرَّافُ الرِمَالِ بهَا
كتابُ الغَيْمِ
بَوصلَةُ الغَريْبِ
ظِلالُ مَا بَينَ السُطُوْرِ
تَصُوغُ فَوْضَاكَ الجَمِيلةَ مِنْ جَدِيدٍ»
ñضياع
وواضحة ههنا بنية التضاد:
فوضى = ñ فناء
عراف= تنبؤ +توقع +أمل ñ موت
الرمال = جفاف+تيه= تصحر سطور) Ü وجود +تنوير+ حضارة
ومثلما تشتغل نصوص الشاعر في هذه القصائد على التضاد، كذلك تشتغل على جدليات كثيرة منها، جدلية المفارقة، والمفارقة كما يقول (جوته): «هي ذرة الملح التي وحدها تجعل الطعام مقبول المذاق» أو كما يقول (كيركيكارد) عنها: «ليس من فلسفة حقيقية ممكنة من دون شك، كما يدعي الفلاسفة، كذلك قد يدعي المرء أن ليس من حياة بشرية أصيلة ممكنة من دون مفارقة»، وخلاصة القول إن الأدب الجيد جميعاً يجب أن يتصف بالمفارقة.
والمفارقة في شعر شفيق العبادي تأخذ أشكالاً عدة، منها (مفارقة التنافر):
«كُلَّما
كُلَّما
كُلَّما
كُنتَ تُبْري يدِي كي أخطَّ على الغَيمِ لي قدَما
ثمَّ تمْحو فمِي وتُراقِبُني
كيف أرسُم لي من جديدٍ فمَا»
وتتشكل بنية التنافر والاختلاف من خلال جدلية (الأنا) و(الآخر) في نص (سير ذاتي/سير غيري):
«وُلِدتُ عَلى بُعْدِ قَافِيةٍ مِنْ هُنَا
وَحَرْفًا بِطَعْمِ المَجَازِ اسْتَعَارَتْهُ أُمِّيَ مِنْ سُمْرَة القَمْحِ
مِنْ حُضْنِ سُنْبُلَةٍ شَكَّلتْهُ تَضَارِيسُ أَحْلَامِها
ذَاتَ صُبْحٍ بِلَونِ السَنَا
تَنَاهَبهُ العُمْرُ أُرْجُوحَةً كُلَّما مَالَت الرِيحُ مَالتْ لَه الرِيحُ
لكِنَّهُ مَا انْثَنَى»
ويبدو أن المفردات المؤلفة لبنية التنافر في النص، تعمل على إنجاز مفارقة دلالية وصورية فيما بينها، عبر عنصر الصراع الذي يحصل عادة بين المتضادات، فـ «بما أن الكلمات المتضادة تصر دائماً على إقصاء بعضها البعض، فإنها تصبح سجينة طاحونة من الانزياحات المختلفة والممكنة التي توهم ببنية مفتوحة مستحيلة الإنهاء وذات نهاية اعتباطية»، وهذه النهايات تعمل على مضاعفة طاقة الأداء الأسلوبي المنتج لجماليات القصيدة:
«أول الأبجدية
مِن هاهُنا مرَّ عُـمرُكَ في التِيهِ
يَهْتفُ كُلُّ الصبَايَا نَضجْنَ
فكَيفَ نُخَاتِلُ شَوكَ النَواطِيرِ
كَيمَا تَعودَ إلى القَلبِ بُجْـَر الغَرَام»
إن التنافر بصيغه المتعددة يمثل أسلوباً يكسر رتابة النص وجموده بإثارة حساسية القارئ المتلقي ومفاجأته، بما هو غير متوقع من ألفاظ وعبارات وصور ومواقف، تتضاد فيما بينها، لتحقق في نهاية المطاف صدمة شعرية يتعالى بها النص على قارئه، ويحلق في فضاء جمالي خاص، ويحرضه على الحوار والتفاعل، وإعادة إنتاج المعنى، إذ «ليس هناك نص أدبي لا يخلق من حوله مجموعة من الفجوات والفراغات التي يجب على القارئ أن يملأها».
كما أن التنافر من أكثر الأساليب قدرة على إقامة علاقات جدلية بين النص من جهة والقارئ من جهة أخرى.
إن ظاهرة جمع المتنافرات نجدها عند شعراء الشعر الحديث وحتى القديم، إلا أنها تتكرر عند الشاعر شفيق العبادي وتكاد تكون سمة غالبة، ووفق آليات مغايرة لآليات الشعراء الآخرين، ومن بينها الدخول مع الطبيعة والأشياء في تبادل الممارسات «فتؤنسن الأشياء ويشيّء الإنسان».
ويختصر الشاعر شفيق مشروعه في اللغة الشعرية، حيث يبحث عن سردنة (البحث في التابوات= التابو السياسي + التابو الاجتماعي) وتصنيع الأسئلة الممنوعة أو المحظورة في أقل تقدير:
«هِيَ الآنَ تُحْصِي تَجَاعِيدَ أَحْلامِهَا
تَتَهَيَّأُ مُنْذُ الخَرِيْفِ الذِي فَاتَ لِلْعُرْسِ
تُعَانِقُ خَيْطاً مِنَ الوَهْمِ
تَفْرُشُ أَهْدَابَها لِلْعَصَافِيرِ
تَحْضُنُ ثَوبَ الزَفَافِ
تُسَرِّحُ فِي شُرْفَةِ الدَارِ مَخْضُوبَةً بِالأُنُوثَةِ خُصْلاتِهَا الذَهَبِيَّةَ
لكنَّ فَارِسَها لمْ يَجِئْ بعْدُ».
وتكتنز نصوص الشاعر بتشكيلات من الضديات التي تصنع الدراما في القصائد القصيرة والطويلة فيها على حد سواء، ففي قصائده تتضاد الثنائيات لتلتقي وتثير شهوة القراءة، وبهذا يتحقق التماس والتداخل والتنافر بين الشيء وضده، فمن تداخل الليل والنهار يولد الفجر، الذي هو ليس ليلاً ولا نهاراً.
وحين يقول كوهين: إن «الشعر يولد من المنافرة»، فان المنافرة لها القدرة على نوع من الدراما المتطورة في النص، حتى يصل تأثيرها إلى صناعة الإيقاع الداخلي للقصيدة، وهي – المنافرة – شرط من توفر هذا الإيقاع:
«لمن غيمة السحر مضروبة تلك ما بين ثلج ونار
يحاور فنجان فتنتها دلة الشعر في
ولكنني لا أجيد الحوار
تخيلتها وهي تسقي المصابيح حتى انطفأنا جميعاً بها
ثم عدنا ارتوينا بما فاض من قمر في الجوار
تعال نمل نحوها يا قرين القصيدة نملأ منها الجرار
لنرقي شياطين أحرفنا بتعاويذها
فالقصيدة ظمأى
ولا مطر كي يعيد لها ما استعارته منها الليالي القفار»
وواضح ههنا تشكيل الإيقاع الداخلي المتنافر للقصيدة، من خلال:
*ثلج Û نار.
• تنافر (المصابيح) و(انطفأنا)، وكذلك (تسقي) و(ظمأى).
ف (الثلج) ÜÜÜ بياض، سكون، نقاء
و (النار) ÜÜÜ احتراق، صوت، فوضى
وكذلك (تسقي) ÜÜÜ ارتواء، اكتفاء، راحة
أما (ظمأى) ÜÜÜ عطش، قلق، ضعف
فلا يقتصر الإيقاع الداخلي في النص الشعري على العروض، وأعني الوزن والقافية، وإنما ثمة موسيقى أخرى، تنبع من أعماق هذا النص من خلال العلاقات التي تربط بين عناصره أو تكويناتها الداخلية، وينشأ هذا الإيقاع من خصوصية اللغة الشعرية، المشحونة بالدهشة وصور التضاد والمفارقة والتوتر الذي ينبثق من المناخ الدرامي للنص الشعري.
لقد حددت اللغة مسميات الأشياء فاتضح العالم للوعي البشري، هذا من جهة، ومن جهة أخرى اللغة تحقق الذات والآخر بالحوار، مع الحداثة الشعرية التقت الجهتان، ودخلت اللغة في حوار مع الأشياء التي لها لغة لا يفهمها إلا من يعرف فك الشفرات والرموز، فيدخل هذا الإنسان في حوار مع العالم بكل مظاهره، وبذلك يتحقق الحوار بين الإنسان والوجود.
يطرح الشاعر شفيق العبادي العديد من الأسئلة في نصوصه، وهي ليست أسئلة ليقال إن النص مملوء بالأسئلة، ولكنها أسئلة مساءلة، لاتقف عند حدود الطرح، ولكنها تسائل وتراقب وتحاكم:
«أي شيء أملــت الريــح لعـينـيك فأدركت تضاريـس الفضاء
وعصـرت الدهـر فـي ريشتك الحمراء موالا حـسـيني الإباء
واستعرت الموت قنديلا من الشمس لكي تكتب صبح الأنبياء
شـرفــة تبتكـر الآتــي فضـاءات وتفتــض حكـايات الســماء
لوحـة مــن هــذيان العشـــق قد وقعتها يوما بحبر الشـــهداء
وردة خضراء كم سطرها الوجــد وأملتــها مرايا كربـــــلاء
فهل يعيد الشاعر شفيق العبادي على مسامعنا المثل الذي يقول:
«الشعراء مشرعو العصر»
إن قصائد الشاعر العبادي مليئة بالتضادات والمفارقات والأسئلة والجدليات، نصوص مساءلة يطلقها الشاعر من كل قصيدة أو مقطع أو جملة أو كلمة، ثورة شعرية خاصة تقوم في بنية النص أساسها التضاد من كونه يشكل عنصر المخالفة، وهذه «المخالفة تغدو فاعلية أساسية يتلقاها القارئ عبر كسر السياق والخروج عليه» والشاعر هنا يؤسس للغة مبتكرة، وهذا ليس معناه ابتكار دالات لغوية جديدة غير واردة في المعاجم، إلا أن الابتكار يكون في التشكيل وهو التركيب المميز للدلالات.
إن قصائد الشاعر شفيق العبادي تحتاج إلى قراءات متعددة، فهي من القصائد الذكية التي يتمتع شاعرها بمخيلة مبدعة وثقافة واسعة ووعي كبير، إنها سهلة القراءة صعبة الكتابة، لكنها في العديد من جوانبها عصية على الفهم -رغم بساطتها- ما لم يتسلح (المتلقي/ الناقد) بثقافة شعرية عالية فهو إزاء كتاب شعري متألق ومبدع.