مَنْ تتاحُ له فرصة الوقوف على تجربة الروائي النوعي أحمد زين، بدءاً من العناوين، والاهداء، وعتبات النص، ثم المضامين، ينكشف له جانباً من ملامح الذات الكاتبة، (الساخرة) أحياناً، و(الانتقامية) بعض الأحايين، فهو منذ (تصحيح وضع) يستحضر البلاد، بأوجاعها ومتاعبها وتناقضاتها، ويضمّنها شخصيات (العِباد) ليتولى بالتسريد تشريح وتشخيص (العذابات) حدّ إسماع قارئه صيحات أبطاله، وصراخ أفئدتهم، واستشعار لفح أنسام الروح لفرط الوجع.
لم أشعر يوماً أن أحمد زين يكتبُ ترفاً، أو استعراضاً، أو وجاهةً، بل هو تفريغ شحنات سالبة في الغالب، بحكم ما يختزنه الوعي من ظواهر تعيسة، سكنته من عالم بلا ملامح، كان يمكن لهذا العالم أن يكون واقعه أجمل، أو أقلّ قُبحاً، والقارئ النابه يمكنه إسقاط السرد وعباراته الثقيلة على رأس من يشاء، ممن يتوهّم أنه سبب الأزمات عامها وخاصها.
ويحضر الزميل (أبو شادي) في معرض الرباط الأخير، وما سيعقبه من معارض الكتب، بعمله الأحدث (رماية ليلية)، ويبدأ العمل الصادر عن منشورات المتوسط في (272) صفحة، بصورة أقرب (لأكشن) السينما، فالراوي العليم يفتتح المشهد بقوله: «سرعان ما أطبقت يداك على عنقي، وصرتَ تجذبني، لم تمهلني دقيقة واحدة، لأستوعب كيف رجعت إليك قوّتك». هذا المدخل يحرّك في القارئ فضول التساؤل، من يكون هذا الخانق، إنساناً أم حيواناً، فرداً أم مجتمعاً، منطقة أم إقليماً، دولة أم وطناً، قريباً وحميماً، أم بعيداً لئيماً؟ ولعلّ هذه (الضبابية) في المدخل فنّ لاستدراج عشاق السرد لتتبع واستقصاء الأحداث «لم يتصادف أنني رأيتك قبل ذلك اليوم، لا إرادياً انحنيتُ عليك، ورحتُ أتأنى في النظر عند زاوية فمك،... فقمتُ بخلع سترتي، بللت أطرافها بقليل من الماء وشرعتُ أمررها بلطف على وجهك»، وهنا تتوارد الأسئلة عن خانق متمكن من عنق المخنوق، يصيح ثم يتهاوى، فيغدو محل عناية المخنوق، وتنقدح بذهني عبارة (شفقة القتيل على قاتله)، وكأنها تعبير عن شعور الكاتب الذاتي، مع أصدقاء ورفقاء يخنقونه ثم لا يجد مناصاً من الالتفات للعناية بهم مجدداً.
يتنفس الراوي الداخلي الصعداء ويردد: «كم مرة أكرر أنني لستُ الشخص الذي قد تظنه»، ثم تنفرج غيوم الفنّ التخييلي، لتنكشف سماء الحكاية بشيء من الوضوح: «قد تتعجب أنني لم أمت، هل يزيد هذا من جزعك» وتتوالد الحكاية «يحتضر. هذا الموت لم يكن بشعاً أو سافلاً، أو غير عادل. على الأرجح كان شيئاً محبباً، أقصى ما كانت تريده تلك المخلوقات، الذاهبة في يأس رهيب»، ولعلها فنيّة الإماتة لإعادة الإحياء مجازياً ووجدانياً.
تحضر البطلة التي يضربها الكلام من كل صوب، تشق طريقها وسط ازدحام ذكوري، تقهر رغباتها، وما كانت قد نوت الاستسلام له من إغراءات، تتسلل من انزلاق إلى نسيان طويل، يماثل الذهاب قصداً في غيبوبة، فلا يعكّر أيامها هنا شيء من أحوال البلد الذي خلّفته وراءها.
لم تكن أنثى سرديات أحمد زين بريئة في كل عمل من أعماله، لكنه يدرك أنها مستهلكة شأن بقيّة المُستهلكات، في فضاء ينظر لها باعتبارها عورة، أو جسداً لتفريغ أهواء وشهوات مراهقة، ما يحفّز في داخل قارئه تعاطفاً مع المهمشين الذين يصنعون بحضورهم متناً خالداً.
للسارد المحترف شأن (أحمد زين) مهارة، في تحويل واقع محسوس لخيال يصعب القبض عليه، وإنزال المتخيّل منزلة الواقع المعاش حدّ التطابق، والاعتراف بقصور الوعي عن التفريق بينهما، وهذا هو ديدن الصديق (أبو شادي)، بحكم تراكمية تجربته وخبرته القرائية والكتابية، وقربه من معاناة الفرد الكادح، التي هي معاناة مجتمعات بأكملها.
لم أشعر يوماً أن أحمد زين يكتبُ ترفاً، أو استعراضاً، أو وجاهةً، بل هو تفريغ شحنات سالبة في الغالب، بحكم ما يختزنه الوعي من ظواهر تعيسة، سكنته من عالم بلا ملامح، كان يمكن لهذا العالم أن يكون واقعه أجمل، أو أقلّ قُبحاً، والقارئ النابه يمكنه إسقاط السرد وعباراته الثقيلة على رأس من يشاء، ممن يتوهّم أنه سبب الأزمات عامها وخاصها.
ويحضر الزميل (أبو شادي) في معرض الرباط الأخير، وما سيعقبه من معارض الكتب، بعمله الأحدث (رماية ليلية)، ويبدأ العمل الصادر عن منشورات المتوسط في (272) صفحة، بصورة أقرب (لأكشن) السينما، فالراوي العليم يفتتح المشهد بقوله: «سرعان ما أطبقت يداك على عنقي، وصرتَ تجذبني، لم تمهلني دقيقة واحدة، لأستوعب كيف رجعت إليك قوّتك». هذا المدخل يحرّك في القارئ فضول التساؤل، من يكون هذا الخانق، إنساناً أم حيواناً، فرداً أم مجتمعاً، منطقة أم إقليماً، دولة أم وطناً، قريباً وحميماً، أم بعيداً لئيماً؟ ولعلّ هذه (الضبابية) في المدخل فنّ لاستدراج عشاق السرد لتتبع واستقصاء الأحداث «لم يتصادف أنني رأيتك قبل ذلك اليوم، لا إرادياً انحنيتُ عليك، ورحتُ أتأنى في النظر عند زاوية فمك،... فقمتُ بخلع سترتي، بللت أطرافها بقليل من الماء وشرعتُ أمررها بلطف على وجهك»، وهنا تتوارد الأسئلة عن خانق متمكن من عنق المخنوق، يصيح ثم يتهاوى، فيغدو محل عناية المخنوق، وتنقدح بذهني عبارة (شفقة القتيل على قاتله)، وكأنها تعبير عن شعور الكاتب الذاتي، مع أصدقاء ورفقاء يخنقونه ثم لا يجد مناصاً من الالتفات للعناية بهم مجدداً.
يتنفس الراوي الداخلي الصعداء ويردد: «كم مرة أكرر أنني لستُ الشخص الذي قد تظنه»، ثم تنفرج غيوم الفنّ التخييلي، لتنكشف سماء الحكاية بشيء من الوضوح: «قد تتعجب أنني لم أمت، هل يزيد هذا من جزعك» وتتوالد الحكاية «يحتضر. هذا الموت لم يكن بشعاً أو سافلاً، أو غير عادل. على الأرجح كان شيئاً محبباً، أقصى ما كانت تريده تلك المخلوقات، الذاهبة في يأس رهيب»، ولعلها فنيّة الإماتة لإعادة الإحياء مجازياً ووجدانياً.
تحضر البطلة التي يضربها الكلام من كل صوب، تشق طريقها وسط ازدحام ذكوري، تقهر رغباتها، وما كانت قد نوت الاستسلام له من إغراءات، تتسلل من انزلاق إلى نسيان طويل، يماثل الذهاب قصداً في غيبوبة، فلا يعكّر أيامها هنا شيء من أحوال البلد الذي خلّفته وراءها.
لم تكن أنثى سرديات أحمد زين بريئة في كل عمل من أعماله، لكنه يدرك أنها مستهلكة شأن بقيّة المُستهلكات، في فضاء ينظر لها باعتبارها عورة، أو جسداً لتفريغ أهواء وشهوات مراهقة، ما يحفّز في داخل قارئه تعاطفاً مع المهمشين الذين يصنعون بحضورهم متناً خالداً.
للسارد المحترف شأن (أحمد زين) مهارة، في تحويل واقع محسوس لخيال يصعب القبض عليه، وإنزال المتخيّل منزلة الواقع المعاش حدّ التطابق، والاعتراف بقصور الوعي عن التفريق بينهما، وهذا هو ديدن الصديق (أبو شادي)، بحكم تراكمية تجربته وخبرته القرائية والكتابية، وقربه من معاناة الفرد الكادح، التي هي معاناة مجتمعات بأكملها.