في البداية وعندما يأتي الحديث عن القراءة والكتابة لا أستطيع أن أغفل دور أبي رحمه الله في ذلك، عمله الدائم، وحثه المستمر، في دفعي نحو المعنى في الحياة، تحمل بعض المسؤولية تجاه العالم، وحملي على عاتقيه للنظر في المدى البعيد لأدرك بعض بصيص الوعي.
كان أبي حريصا جدا في تكوين علاقة خاصة بيني وبين الكتاب، فكان حريصا على شراء الكتب المصورة قبل أن أتعلم الحروف، استمر على ذلك حتى سلمني للمدرسة، ورغم أن الكتاب المدرسي شكل عندي وعند غيري عقدة كره الكتب، إلا أني تجاوزت ذلك بفضل مكتبة المنزل، والتي كانت نواة عظيمة للمعرفة.
ثم كانت قراءة عبثية في كل شيء، ركام من كتب في شتى المعارف، ثم تدفعك الكتب لقراءة أشياء أخرى، تقرأ الصور، والمشاهد، وتنصت للأحاديث، ويبقى بريق الملاحظات في تفاصيل الكون، لم تكن هناك ملهيات في ذلك الوقت، ولم يأت البث الفضائي إلا بعد سنوات، حتى تلك الصور من الفضاء لم تجعلنا في عزلة عن الناس والحياة، فما زالت الأبواب في الحارة تفتح بواسطة حبل نازل من ثقب الباب، وما زال المقهى نقطة جذب للجميع، وما زال إنسان الحارة البسيط يقصد جلسة فيها أناس يعرفهم وقد لا يعرفهم، «ايشبك تطل» أتت متأخرة، الأمهات يصنعن الطعام في قدور كبيرة من أجل الجيران، الأزقة مكان للعب، والعبور للزيارة والصلة، الشرير في الحارة ليس شريرا على الدوام، قد يصنع معروفا لا يلتفت إليه أحد، والصالح لا يسلم من الخطأ، خلق القصص والحكايات المختلقة لا ينتهي، تعدد الروايات لكل حدث، بث الشائعات، لم يكن للناس عمل بعد الرزق إلا الاقتراب، والحديث، «وشوشات» الجارات من بعضهن عبر الأبواب والنوافذ، علمتنا الحارة قراءة أخرى للحياة..
ثم كان الأدب، البحث عن كوة في جدار الوقت، نقفز نتلمس حوافها، تنزلق أقدامنا على الجدار تترك وسخاً بسبب التسكع في الشوارع، ثم المحاولات الصغيرة نحو الكوة، عيني تلتقط قفزات حي بن يقظان الذي يبحث عن إجابة، ذيل الحوت الأبيض المنتصر في موبي ديك، رمح دون كيخوته الذي كسرته محاولات النبل البائسة، سانشو المرافق النبيل، جان فلجان الذي يحنو، زوربا يرقص لحظة حزن..
القراءة، والفضول، والحارة، وعلاقتك بالأشياء قد تدفع الإنسان للكتابة.
لست مع الرومانيين في كون الكاتب شخصا اصطفاه الله، لكني أجزم أن كاتب القصص والروايات إنسان بسيط لديه قدرة على التقاط الأشياء الصغيرة وغير الملفتة، فيعالجها بطريقته، ثم يعبر عنها.
الكتابة زكاة القراءة والمعرفة لا شك، وليس بالقراءة فقط تتزكى الكتابة، إن هناك أشياء أخرى بحصولها سيجد الإنسان نفسه أمام الكتابة وجها لوجه.
في البداية عشت نوعا من التيه والتخبط في الكتابة، نتج عنه الكثير، يوميات، شعر، خواطر، رسائل، مراجعات في السينما، رحلات، وحمدت الله أن هذه التدوينات بقيت مخطوطة ولم تجرني الحماقة لنشرها.
هذا التخبط تولد عنه كيمياء نتج عنها الكتابة، الكتابة الإبداعية تشبه إلى حد كبير المعادلة الكيميائية، عناصر تتفاعل فيما بينها في ظرف ما لتخرج لنا مادة ذات قيمة متفاوتة.
ثم فكرت في الرواية بوعي ضيق حول الفن، ولم يشفع لي الرصيد الهائل من قراءة الروايات، فقراءة الروايات لا تخلق روائياً.
صدرت أول رواية لي عام 2004م، نشرتها لأن إغراء الرواية لا يتوقف عند الكتابة فقط، بل أيضا تجد من يقف معك ليحرضك على النشر، كانت تلك التجربة الأولى هي ولوج الى الفن بحياء، والكتابة بوجل، النظر بفضول إلى الفن، العزف على الوتر الاجتماعي، الكتابة بشكل تقليدي، ليس هناك دربة، والكتابة صناعة، والصبي لا يصل إلى الاحتراف حتى يتقن الصنعة، فخرجت الرواية ركيكة نوعا ما من حيث الفن والمضمون.
قلت هي محاولة أولى لأحاول ثانية، فنشرت الرواية الثانية بعد سنة، ولم يلتفت لها أحد، لكني وجدت نفسي أتجاوز بعض الهفوات، والملاحظات.
أعمالي الأولى كانت متواضعة جداً، لكني لم أندم عليها، فقد استفدت منها كثيراً، كنت أرعي سمعي لكل نقد، وخاصة من أولئك الذين ليس لهم باع طويل في الفن، وربما بعضهم لأول مرة يقرأ رواية في حياته.
ربما أجمل ما في المحاولات أنك تنتظر من يسلط عليها الضوء، من يشير إلى مواطن الضعف والهفوة فتستدرك ذلك في الأعمال الأخرى، وأيضاً تجد من يدلك على مواطن القوة والجمال في كتابتك فتغذي ذلك بالعناية والاهتمام في تجاربك اللاحقة.
أجمل ما في المحاولات أنها تجربة، تجعلك لا تلتفت للخلف، هي محاولة وانتهت، الذي لا يفارق محاولته، لن يكتب شيئاً متفرداً، إن المحاولات هي محطات لكتابة ما لم يكتب بعد.
الآن أسعى لإيجاد لغتي الخاصة بعد هذه المحاولات، بصمتي وطريقتي في السرد، والتي هي بلا شك من بعض آثار من سبق في عالم كتابة السرد.
كنت قاسيا مع نفسي خلال الفترة الماضية، الالتزام بالكتابة عمل مرهق، الاستيقاظ مبكراً، الكتابة ساعات الصباح الأولى، ثم النسخ على الحاسب مرة أخرى، الاستمرار على هذه الصورة لشهور ربما لسنة، مراجعة النص، تحريره، القراءة المملة والمرهقة للمسودات عشرات المرات، عرض ذلك على الأصدقاء، تدون الملاحظات، العودة لتحرير العمل، وربما نقضه مرة أخرى.
لقد كانت الكتابة مشروعي خلال العقد الماضي، لم أتوقف يوما إلا لأسترد أنفاسي، النتاج كانت متفاوتا، كنت أستقبل جميع الآراء والانطباعات باهتمام، الثناء يدفعني ويشجعني وأسعد به، والانتقادات والملاحظات أصغي لها جيدا، وأضعها في الاعتبار.
أخيراً أجمل الأشياء في الكتابة تلك العلاقة الساحرة بين القارئ والكاتب، القارئ هو المتفضل على الكاتب بذلك الوقت الذي أقتطعه من عمره، وليس هناك أجمل من أن تسكن في قلوب ومخيلة الناس، تلويحة هذا القارئ أعظم ما قد تحصل عليه في حياتك، وهذا بلا شك يُشعر الكاتب بنوع من المسؤولية.
أخيرا، صحيح أن الكتابة هي الطريقة المثلى للعيش لدى الكاتب، والأدب هو أفضل ما تم اختراعه لمكافحة الشقاء، ولكن كما يقول ماريو يوسا في رسائله إلى ذلك الروائي الشاب: «الكتابة الأدبية ليست لتزجية الوقت أو رياضة مخففة نمارسها في أوقات الفراغ، إنما هي انشغال مميز واستثنائي، وأولوية مطلقة.. تجعل من ضحاياها السعداء عبيدا».
* كاتب سعودي
كان أبي حريصا جدا في تكوين علاقة خاصة بيني وبين الكتاب، فكان حريصا على شراء الكتب المصورة قبل أن أتعلم الحروف، استمر على ذلك حتى سلمني للمدرسة، ورغم أن الكتاب المدرسي شكل عندي وعند غيري عقدة كره الكتب، إلا أني تجاوزت ذلك بفضل مكتبة المنزل، والتي كانت نواة عظيمة للمعرفة.
ثم كانت قراءة عبثية في كل شيء، ركام من كتب في شتى المعارف، ثم تدفعك الكتب لقراءة أشياء أخرى، تقرأ الصور، والمشاهد، وتنصت للأحاديث، ويبقى بريق الملاحظات في تفاصيل الكون، لم تكن هناك ملهيات في ذلك الوقت، ولم يأت البث الفضائي إلا بعد سنوات، حتى تلك الصور من الفضاء لم تجعلنا في عزلة عن الناس والحياة، فما زالت الأبواب في الحارة تفتح بواسطة حبل نازل من ثقب الباب، وما زال المقهى نقطة جذب للجميع، وما زال إنسان الحارة البسيط يقصد جلسة فيها أناس يعرفهم وقد لا يعرفهم، «ايشبك تطل» أتت متأخرة، الأمهات يصنعن الطعام في قدور كبيرة من أجل الجيران، الأزقة مكان للعب، والعبور للزيارة والصلة، الشرير في الحارة ليس شريرا على الدوام، قد يصنع معروفا لا يلتفت إليه أحد، والصالح لا يسلم من الخطأ، خلق القصص والحكايات المختلقة لا ينتهي، تعدد الروايات لكل حدث، بث الشائعات، لم يكن للناس عمل بعد الرزق إلا الاقتراب، والحديث، «وشوشات» الجارات من بعضهن عبر الأبواب والنوافذ، علمتنا الحارة قراءة أخرى للحياة..
ثم كان الأدب، البحث عن كوة في جدار الوقت، نقفز نتلمس حوافها، تنزلق أقدامنا على الجدار تترك وسخاً بسبب التسكع في الشوارع، ثم المحاولات الصغيرة نحو الكوة، عيني تلتقط قفزات حي بن يقظان الذي يبحث عن إجابة، ذيل الحوت الأبيض المنتصر في موبي ديك، رمح دون كيخوته الذي كسرته محاولات النبل البائسة، سانشو المرافق النبيل، جان فلجان الذي يحنو، زوربا يرقص لحظة حزن..
القراءة، والفضول، والحارة، وعلاقتك بالأشياء قد تدفع الإنسان للكتابة.
لست مع الرومانيين في كون الكاتب شخصا اصطفاه الله، لكني أجزم أن كاتب القصص والروايات إنسان بسيط لديه قدرة على التقاط الأشياء الصغيرة وغير الملفتة، فيعالجها بطريقته، ثم يعبر عنها.
الكتابة زكاة القراءة والمعرفة لا شك، وليس بالقراءة فقط تتزكى الكتابة، إن هناك أشياء أخرى بحصولها سيجد الإنسان نفسه أمام الكتابة وجها لوجه.
في البداية عشت نوعا من التيه والتخبط في الكتابة، نتج عنه الكثير، يوميات، شعر، خواطر، رسائل، مراجعات في السينما، رحلات، وحمدت الله أن هذه التدوينات بقيت مخطوطة ولم تجرني الحماقة لنشرها.
هذا التخبط تولد عنه كيمياء نتج عنها الكتابة، الكتابة الإبداعية تشبه إلى حد كبير المعادلة الكيميائية، عناصر تتفاعل فيما بينها في ظرف ما لتخرج لنا مادة ذات قيمة متفاوتة.
ثم فكرت في الرواية بوعي ضيق حول الفن، ولم يشفع لي الرصيد الهائل من قراءة الروايات، فقراءة الروايات لا تخلق روائياً.
صدرت أول رواية لي عام 2004م، نشرتها لأن إغراء الرواية لا يتوقف عند الكتابة فقط، بل أيضا تجد من يقف معك ليحرضك على النشر، كانت تلك التجربة الأولى هي ولوج الى الفن بحياء، والكتابة بوجل، النظر بفضول إلى الفن، العزف على الوتر الاجتماعي، الكتابة بشكل تقليدي، ليس هناك دربة، والكتابة صناعة، والصبي لا يصل إلى الاحتراف حتى يتقن الصنعة، فخرجت الرواية ركيكة نوعا ما من حيث الفن والمضمون.
قلت هي محاولة أولى لأحاول ثانية، فنشرت الرواية الثانية بعد سنة، ولم يلتفت لها أحد، لكني وجدت نفسي أتجاوز بعض الهفوات، والملاحظات.
أعمالي الأولى كانت متواضعة جداً، لكني لم أندم عليها، فقد استفدت منها كثيراً، كنت أرعي سمعي لكل نقد، وخاصة من أولئك الذين ليس لهم باع طويل في الفن، وربما بعضهم لأول مرة يقرأ رواية في حياته.
ربما أجمل ما في المحاولات أنك تنتظر من يسلط عليها الضوء، من يشير إلى مواطن الضعف والهفوة فتستدرك ذلك في الأعمال الأخرى، وأيضاً تجد من يدلك على مواطن القوة والجمال في كتابتك فتغذي ذلك بالعناية والاهتمام في تجاربك اللاحقة.
أجمل ما في المحاولات أنها تجربة، تجعلك لا تلتفت للخلف، هي محاولة وانتهت، الذي لا يفارق محاولته، لن يكتب شيئاً متفرداً، إن المحاولات هي محطات لكتابة ما لم يكتب بعد.
الآن أسعى لإيجاد لغتي الخاصة بعد هذه المحاولات، بصمتي وطريقتي في السرد، والتي هي بلا شك من بعض آثار من سبق في عالم كتابة السرد.
كنت قاسيا مع نفسي خلال الفترة الماضية، الالتزام بالكتابة عمل مرهق، الاستيقاظ مبكراً، الكتابة ساعات الصباح الأولى، ثم النسخ على الحاسب مرة أخرى، الاستمرار على هذه الصورة لشهور ربما لسنة، مراجعة النص، تحريره، القراءة المملة والمرهقة للمسودات عشرات المرات، عرض ذلك على الأصدقاء، تدون الملاحظات، العودة لتحرير العمل، وربما نقضه مرة أخرى.
لقد كانت الكتابة مشروعي خلال العقد الماضي، لم أتوقف يوما إلا لأسترد أنفاسي، النتاج كانت متفاوتا، كنت أستقبل جميع الآراء والانطباعات باهتمام، الثناء يدفعني ويشجعني وأسعد به، والانتقادات والملاحظات أصغي لها جيدا، وأضعها في الاعتبار.
أخيراً أجمل الأشياء في الكتابة تلك العلاقة الساحرة بين القارئ والكاتب، القارئ هو المتفضل على الكاتب بذلك الوقت الذي أقتطعه من عمره، وليس هناك أجمل من أن تسكن في قلوب ومخيلة الناس، تلويحة هذا القارئ أعظم ما قد تحصل عليه في حياتك، وهذا بلا شك يُشعر الكاتب بنوع من المسؤولية.
أخيرا، صحيح أن الكتابة هي الطريقة المثلى للعيش لدى الكاتب، والأدب هو أفضل ما تم اختراعه لمكافحة الشقاء، ولكن كما يقول ماريو يوسا في رسائله إلى ذلك الروائي الشاب: «الكتابة الأدبية ليست لتزجية الوقت أو رياضة مخففة نمارسها في أوقات الفراغ، إنما هي انشغال مميز واستثنائي، وأولوية مطلقة.. تجعل من ضحاياها السعداء عبيدا».
* كاتب سعودي