«تراه إذا ما جئته متهللاً *** كأنك تعطيه الذي أنت سائله». هذا اختزال لبعض شيم الرجل، وتصحيف لطرف من اسمه، وشيء من سجاياه وأفكاره، وأقوال محبيه، وما بين سطور أعدائه أيضاً، التي فرض بها تأثيره حيثما يكون. إنه الدكتور ناصر البراق، رئيس قسم الصحافة في كلية الإعلام والاتصال بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية. لكنه قبل أن يعود إلى صباه، حيث درس في الجامعة البكالوريوس، تسلح بترسانة بريطانية وسودانية ومغربية، وثقافة أمم وشعوب وقبائل، امتهن البراق نظم تناقضاتها وتنوعاتها، في قاعات المناسبات العلمية والثقافية، التي حاول أن يمثل بها بلاده، حتى انتزع لها نجاحات واعترافات نادرة. غير أن البراق لا يقف عند حدود الدبلوماسية الثقافية وحدها، بل يتجاوزها إلى السجال، والتدافع الذي يعده من سنن الإله الكونية، خصوصاً إذا ما تعلق الأمر بأمة عظيمة مثل المملكة العربية السعودية، مهبط الوحي ودار العرب، إذ يرى أن بوسعها الصمود بل الانتصار أمام «المد الإيراني»، الذي شبهه بالزبد، الذي سيتبخر أمام العزيمة السعودية. لكنه علق نجاعة المعارك الحضارية، بالاهتمام بالشأن الثقافي أيما اهتمام، فهو يؤمن بأنه «لا هوية لأمة دون ثقافة... كما أنه لا اقتصاد ولا سياسة ولا قيم دون حصانة ثقافية مانعة»، وبحكم تجربته يجزم بأننا «لسنا أقل غنى ثقافياً من كثير من البلدان، لكننا أكثر توجسا من الانفتاح في زمن لا يسمح بهذا المنطق». إلى نص الحوار.
• لديك حساب في تويتر تقول في «البايو» الخاص به إنه حساب للثرثرة فقط. لكننا لم نجد ثرثرة بل مشاركات خجولة بإعادة بعض التغريدات أو بعض الإشادات. لماذا لا نرى ناصر البراق يطل بوجهه الثقافي في تويتر؟
•• الموضوعات الثقافية موضوعات جادة، لها هيبتها، ما يفرض عليَّ اختيار المكان والزمان المناسبين لطرحها؛ لذا لا أعتقد أن تويتر الذي يموج بالجد والهزل ساحة مناسبة.. كما أن الموضوعات الثقافية تأبى أن يُعبر عنها بــ140 حرفا فقط. الثقافة نَفَس طويل ممتد، وهذا الفضاء نَفَسه قصير، لذلك لا تلاؤم بين الأمرين. إن التواصل والتفاعل السريع بين مستخدمي تويتر لا يعني أنه القناة الثقافية النموذجية والمكان المناسب للطرح الفكري والثقافي الجاد.
• عملت ملحقاً ثقافياً للمملكة في الخرطوم وفي الرباط، ما الفرق بين التجربتين؟ وماذا قدمت لخدمة المملكة والتعريف بها والدفاع عنها، وتوضيح الصورة أيضاً حيال إشكالات سوء الفهم الخارجية؟
•• كلاهما تجربتان ثريتان؛ استطعنا أن نقدم الثقافة السعودية بصورتها الزاهية؛ ما دفع بوزارة الثقافة السودانية إلى استضافة نخبة من المثقفين والمثقفات السعوديات على مدار 10 أيام هي عمر معرض الخرطوم الدولي للكتاب 2009. أما سنوات المغرب فاستطعنا كسب ثقة النخب المغربية المثقفة الشعبية والرسمية، لذا قررت وزارة الثقافة المغربية استضافة السعودية ضيف شرف في معرض الدار البيضاء للكتاب 2012. واستبعاد إمكانية استضافة دول مهمة مثل الصين وتركيا تلك السنة، على الرغم من أن هذه الدول كانت مجدولة لتحل ضيف شرف معرض الدار البيضاء ذلك العام.
لقد كان من أوجب واجباتنا في الدولتين معا (السودان والمغرب) أن نعرّف بالثقافة الخليجية عموما والسعودية خصوصا، ونطور آليات التعريف من خلال التواصل المباشر مع المثقفين سواء منفردين أو ضمن مؤسسات. وهو ما أثمر حراكا كبيرا عشناه هناك داخل وخارج الملحقية الثقافية التي لم تكتفِ باستضافة فعاليات ثقافية في مجالات متعددة، وإنما نقلت أنشطتها إلى مختلف الأماكن، وسعت إلى الإشراف عليها منفردة أو بشراكات مع مؤسسات ثقافية.
لقد عملنا على إبرام تعاقدات ثقافية أخلاقية مع نخبة من المثقفين، لا ضمانة لنا في ذلك إلا الالتزام بقضايا المعرفة المجردة. وهذه بحد ذاتها كانت الأكثر فائدة لإنجاح الحضور الثقافي.
• قضيت في الرباط مدة أطول من الخرطوم، وأنشأت صالوناً ثقافياً في الملحقية هناك.. هل كان هذا الصالون للوجاهة مثلاً؟ وما هي القيمة الثقافية التي حققها؟
•• الصالونات الثقافية المنشأة للوجاهة لا تتحدث سوى عن أمجاد شخصية، وأشخاص مؤسسيها.. بينما الصالون الثقافي السعودي في الرباط كان يتحدث عن أمجاد وطن؛ وحضارة بلد، وعراقة مجتمع، كان يقدم المنتج الأدبي والعلمي والمعرفي للأشقاء المغاربة بلا رتوش.. وفي النهاية انكب المثقفون والإعلاميون والأكاديميون على متابعة وتلقف المنتج الثقافي السعودي بشوق ولهفة.. فهذا الأكاديمي المغربي الدكتور محمد عدناني يتتبع الحضور الثقافي السعودي في المغرب منذ بداياته في كتاب يُعد حاليا مرجعا مهما للباحثين.
أن يستضيف الصالون الثقافي السعودي بالرباط قامات علمية مغربية وسعودية من تخصصات مختلفة، وحقول معرفية متنوعة، وبمرجعيات متباينة، فهذا يعني أن الصالون يهدف ويسعى إلى التجسير للثقافة بين ضفتي المشرق والمغرب العربيين. لقد استطعنا في هذا الصالون، جمع مثقفين كبار على مائدة واحدة لم يجتمعوا عليها من قبل.
إنها مجمع النخب التي وجدت لها مكانا تستمع فيه إلى بعضها. الوجاهة لا تتعدى ليلتها وتنطفئ، أما الصالون الثقافي السعودي بالرباط فقد امتد زمنا طويلا بنَفَس عالٍ جدا، وفي كل مرة يتجدد ويزداد ثراءً. ولعل حجم وطبيعة المحاضرين وجمهور المثقفين خير دليل على أن الصالون كان للعلم والمعرفة والثقافة لا لشيء آخر.
• كنتم تتبعون وزارة التعليم العالي حينذاك والتعليم حالياً، لكنكم تبدون تحت مظلة السفارة السعودية.. هل كان هناك تناغم بين المرجعيتين؟ أم ثمة تناقض وشتات؟ ما توصيتك كملحق ثقافي سابق تجاه ذلك؟
•• التناغم والانسجام بين المرجعيتين يعود إلى وعي المسؤولين ونضجهم وطريقة تفكيرهم، وعادة ما يكون هَمّ الارتقاء بالوطن أكبر من أي منغصات.. كانت سنوات الرباط سنوات جيدة حتى وإن تعرضت لمطبات هوائية بين الفينة والأخرى.. لكن بشكل عام استطاعت الملحقية الثقافية أن تقوم بالدور الثقافي والعلمي على أكمل وجه.
لم يكن دورنا فقط هو نشر الثقافة السعودية، بل إشراك كل المؤسسات التي تمثل المملكة في المساهمة في هذا الدور، وهذا تطلب منا جهدا إضافيا. لقد استدعى الأمر الكثير من الكياسة والمرونة والتفهم حتى نجتمع على هدف واحد. لذلك كان الحرص - قبل التخطيط للأمور الثقافية - على التواصل مع الجهات المسؤولة إيماناً منّا أن اليد الواحدة لا تصفق، وإن صفقت فليس لزمن طويل. وقد تمكنا بحول الله من جمع الآراء على جدوى العمل الثقافي كواجهة أساسية للبلاد.
• وُجِدت في أهم مكان ثقافي على المستوى العربي حيث الثقافة الأمازيغية ودولة المفكرين الكبار ونقاد التأويل والمثقفين الفرانكفونيين.. ما مدى الاستفادة الشخصية التي حققتها؟ وهل أفادت المملكة من هذا الوجود عبر معارض الكتاب الدولية والندوات والمحاضرات والأمسيات والمناسبات المختلفة؟
•• لقد كان من حسن حظي أني وجدت نفسي في وسط ثقافي غني جدا. وكنت أعتقد مثلك أنه بمرجعية واحدة (فرانكفونية)، لكني اكتشفت أن هذه الأخيرة ما هي إلا رافد من روافد أخرى تغذي الثقافة المغربية. اكتشفت أن الروح العربية الإسلامية عالية جدا هناك لغةً ومضموناً. لقد فوجئت بأن انفتاح المغرب (مثقفون، وعامة الشعب) له سند أصيل ينهل من الثقافة العربية الإسلامية الأصيلة، بل إن الرافد الأمازيغي يتماهى مع الرافد العربي الإسلامي، لأن الانصهار كامل بين المرجعيتين حتى وإن اختلفتا.
والواقع أن وجودك في وسط بهذا التنوع، يجعلك تتهيب من التعامل مع رافد دون الآخر، لكن مع الوقت ومعرفة الوسط المغربي أدركت أن كل رافد يحيل إلى الروافد الأخرى ويمثلها ولو بشكل جزئي، وهو ما سهل التواصل مع الكل. لذلك كلما استضفنا مثقفا وجدناه بمرجعيات ثلاث كبرى (العربية الإسلامية، والأمازيغية، والفرانكفونية) وكلها تجمعها النكهة المغربية.
وعندما تكون في هذا الوسط الثري والمتنوع، فإن فرص الاستفادة تكون متعددة سواء على المستوى الشخصي أو على مستوى الملحقية كمؤسسة رسمية. لقد تولدت لي قناعة شخصية أن التنوع غنى وليس عائقا بشرط إدارته بمهنية عالية. وكان شغلنا الشاغل طوال سنوات وجودي في المغرب نقل الثقافة السعودية إلى المغاربة بكل مرجعياتهم. وهذا واضح من خلال المعارض الندوات والمحاضرات التي كانت تشرف عليها الملحقية سواء في الرباط أو خارجها كلما أتيحت الفرصة.
• لمت أخيراً الملحق الثقافي السعودي في واشنطن وحمّلته نسبة 30% في غياب المكتبة عن ملحقية واشنطن لأنه لم يطالب بها. السؤال هل كل ملحق ثقافي يطالب بشيء يحصل عليه؟ وكيف أنشأت تلك المكتبة الهائلة في الرباط؟ ما حجم تأثيراتها الثقافية والمعرفية؟
•• الدكتور محمد العيسى زميل عزيز وحديثي عن أهمية المكتبات في الملحقيات الثقافية كان عاما.. وما زلت أكرر على ضرورة وجود مكتبة عامة في كل ملحقية لنقدم المعلومة الصحيحة للباحثين الغربيين، خصوصا أولئك الذين يبحثون في الشؤون الثقافية أو السياسية أو الاقتصادية أو الاجتماعية للمملكة العربية السعودية. ولأن هؤلاء الباحثين إذا لم نوفر لهم مبتغاهم سيلجأون إلى مصادر معرفية أخرى، لذا يجب علينا أن نوفر لهم المعلومة الحقيقية عن السعودية، حتى لا يكون البديل لهم معلومات تصدرها المراكز البحثية المشبوهة حول العالم والتي يراد منها تشويه صورة المملكة.
ليس كل ما يطلبه الملحق الثقافي يجده، لكن عندما تؤمن بجدوى المطلوب وفاعليته، فإنك تسعى إلى إقناع الجهات المسؤولة بذلك. لقد آمنت أن للملحق الثقافي أدوارا مهمة جدا عليه أن يلعبها مهما كانت متعبة ومؤلمة.
إن المكتبات واجهة أساسية لنشر المعرفة، فهي مقصد الباحثين، لذلك كان الاهتمام بها طاغيا في الملحقية الثقافية بالمغرب من حيث إنشائها وإغنائها. والواقع أني لم أجد صعوبات كبيرة في ذلك، لأني كنت أملك الإرادة وأومن إيمانا مطلقا بأن السعي إلى هذا المسعى فيه مصلحة للمملكتين. أعود وأقول إن أساس العمل هو التواصل الجيد مع الآخرين. وهذا كفيل بتسهيل ما قد يظهر أنه صعب أو مستحيل.
إغناء المكتبة يساعد على جذب عدد كبير من الباحثين، وهذا يعني أن تقريب الثقافة السعودية منهم يكون أمرا سهلا ومتاحا من خلال تقريب مصادرها (الكتب، المخطوطات....).
• الصورة الذهنية عن المملكة في العالم الخارجي تبدو مشوشة ولا تعبر عن حقيقة الوضع في البلد. برأيك ما هي الأسباب؟ وكيف يمكن لنا أن نصنع صورة نزيهة ومؤثرة أيضاً؟
•• صناعة الصورة الذهنية الحقيقية والناصعة عن المملكة العربية السعودية تحتاج الى تضافر الجهود من مؤسسات الدولة كافة، ويقف على هرم هذه المؤسسات وزارة الثقافة والإعلام، ووزارة الخارجية، ووزارة التعليم، والجامعات، والمثقفون والأكاديميون والكتاب والأدباء.. يجب أن يكون هناك عصف ذهني للعقول الضخمة يحدد ملامح مشروعنا الثقافي وأهدافه وخريطة الطريق لتنفيذه.. ثم ينطلق الجميع لمخاطبة العقل والوجدان العالمي. فالصينيون نخاطبهم بلسان صيني مبين واليابانيون بلسان ياباني والفرنسيون بلغتهم والأمريكان بلغتهم وهكذا.
أعتقد أن نصاعة الصورة تمر بالضرورة من خلال تقديم منتجنا الثقافي والفكري لجميع الشعوب والمجتمعات وبشكل يليق به، وتمر أيضا بمنح فرصة المشاركة والمساهمة لأولئك الأدباء والمثقفين الذي يجعلون البلد ومصالحه أكبر همهم؛ منحهم فرصة تمثيل البلد في المناسبات الثقافية العالمية. ينبغي أن نكون نزهاء في علاقاتنا وإدارتنا لمشروعنا الثقافي.. ومتى تحقق الأمر نصعت الصورة.
لسنا أقل غنى ثقافياً من كثير من البلدان، لكننا أكثرهم توجسا من الانفتاح في زمن لا يسمح بهذا المنطق.
• في وقت مبكر من هذا العام اخترق الإيرانيون أوساطاً عربية وإسلامية وخليجية، محسوبة على النهج المغاير لسياسات طهران، وذلك بسبب ما عدوه، «مهارة فائقة من الصفويين الإيرانيين في التسلل إلى غاياتهم بأسلوب، ظاهره اللطف، وباطنه الإغواء»... كيف ترى المشهد اليوم بدءاً من اليمن إلى هذه الحروب الإلكترونية وليس انتهاء بالعمليات الإرهابية التي استهدفت المملكة وأحبطت وزارة الداخلية معظمها؟
•• أرى أن الباطل والحق يواجهان بعضهما بعضا دون تقية ودون مساحيق. ولا يمكن للباطل أن ينتصر مهما طغى. لقد كنا تاريخيا أصحاب قضايا عادلة، ننتصر للضعيف والمقهور وللقيم الإنسانية النبيلة التي هي أساس الدين الإسلامي. المد الإيراني كالزَبَد ولن يصمد أمام عزيمتنا. لذلك أرى أن التفاف أبناء الوطن حول قيادته كفيل بصد هذا الخطر الذي لا سند شرعيا أو دينيا أو أخلاقيا له.. فقط سنده التجبر والتضليل. أن تتعرض المملكة للهجمات أمر طبيعي ما دامت في صف العدل، وفي المقابل فالأشرار مجبولون على محاربة العدالة ونشر القيم النبيلة.
• ما الذي تنتظره من الهيئة العامة للثقافة؟ ومن وجهة نظرك، البلد بحاجة إلى ماذا؟
•• ما أنتظره من كل الجهات أن تهتم بالشأن الثقافي، فهو قاطرة التنمية، لا اقتصاد ولا سياسة ولا قيم دون حصانة ثقافية مانعة. وبما أن الهيئة العامة للثقافة هي الجهة المخولة لهذه المهمة فهي مطالبة بمشروع ثقافي وطني والعمل على توسيعه وتنميته وتنويعه، وإسناد مسؤوليات النهوض به إلى الأكفأ والأجدر. لا هوية لأمة دون ثقافة.
إن بلادنا لا تحتاج شيئا غير الإيمان بأنها منبت ثقافة عريقة، وأن نشر هذه الثقافة مسوغ أساسي لتحقيق التقدم. يجب أن توضع كل الإمكانات في خدمة المشروع الثقافي ليتحقق النجاح.
• انتخبت أمريكا رئيسها الجديد، وحظي ذلك باهتمامنا، هل هنالك خلل وراء اهتمامنا المتزايد بالحراك الأمريكي؟
•• أرى العكس، فالأمم الحية هي التي تؤثر وتتأثر بالدول العظمى، فنحن بوصفنا دولة ذات مقومات سياسية واقتصادية واجتماعية حية وطموحة، فإنه من الطبيعي أن نهتم ونشارك أحياناً في الأحداث الكونية العظمى. الرئيس الأمريكي جمهورياً كان أو ديموقراطياً، لا يمكننا تجاهله، بوصف أمريكا الدولة الأهم عالمياً، ومن الناحية الثقافية، مجال تخصصي، أعتقد أننا أصبحنا نقترب من امتلاك رصيد متميز لتفاعل أكبر مع المتغيرات في قلب أمريكا، خصوصاً تلك المتعلقة ببلدنا ومنطقتنا، فلدينا مئات الآلاف من الشباب والشابات درسوا، أو لا يزالون يدرسون، في أمريكا، وبعضهم اكتسب أبناؤه جنسيتها، هذه الشريحة أكثر قدرة على فهم أمريكا، ومخاطبتها بلغتها وعقليتها وبالتالي التأثير فيها، إنما أي استثمار بهذا العمق يتطلب قطف ثماره إستراتيجية بعيدة المدى ووقتاً وجهداً.
• لديك حساب في تويتر تقول في «البايو» الخاص به إنه حساب للثرثرة فقط. لكننا لم نجد ثرثرة بل مشاركات خجولة بإعادة بعض التغريدات أو بعض الإشادات. لماذا لا نرى ناصر البراق يطل بوجهه الثقافي في تويتر؟
•• الموضوعات الثقافية موضوعات جادة، لها هيبتها، ما يفرض عليَّ اختيار المكان والزمان المناسبين لطرحها؛ لذا لا أعتقد أن تويتر الذي يموج بالجد والهزل ساحة مناسبة.. كما أن الموضوعات الثقافية تأبى أن يُعبر عنها بــ140 حرفا فقط. الثقافة نَفَس طويل ممتد، وهذا الفضاء نَفَسه قصير، لذلك لا تلاؤم بين الأمرين. إن التواصل والتفاعل السريع بين مستخدمي تويتر لا يعني أنه القناة الثقافية النموذجية والمكان المناسب للطرح الفكري والثقافي الجاد.
• عملت ملحقاً ثقافياً للمملكة في الخرطوم وفي الرباط، ما الفرق بين التجربتين؟ وماذا قدمت لخدمة المملكة والتعريف بها والدفاع عنها، وتوضيح الصورة أيضاً حيال إشكالات سوء الفهم الخارجية؟
•• كلاهما تجربتان ثريتان؛ استطعنا أن نقدم الثقافة السعودية بصورتها الزاهية؛ ما دفع بوزارة الثقافة السودانية إلى استضافة نخبة من المثقفين والمثقفات السعوديات على مدار 10 أيام هي عمر معرض الخرطوم الدولي للكتاب 2009. أما سنوات المغرب فاستطعنا كسب ثقة النخب المغربية المثقفة الشعبية والرسمية، لذا قررت وزارة الثقافة المغربية استضافة السعودية ضيف شرف في معرض الدار البيضاء للكتاب 2012. واستبعاد إمكانية استضافة دول مهمة مثل الصين وتركيا تلك السنة، على الرغم من أن هذه الدول كانت مجدولة لتحل ضيف شرف معرض الدار البيضاء ذلك العام.
لقد كان من أوجب واجباتنا في الدولتين معا (السودان والمغرب) أن نعرّف بالثقافة الخليجية عموما والسعودية خصوصا، ونطور آليات التعريف من خلال التواصل المباشر مع المثقفين سواء منفردين أو ضمن مؤسسات. وهو ما أثمر حراكا كبيرا عشناه هناك داخل وخارج الملحقية الثقافية التي لم تكتفِ باستضافة فعاليات ثقافية في مجالات متعددة، وإنما نقلت أنشطتها إلى مختلف الأماكن، وسعت إلى الإشراف عليها منفردة أو بشراكات مع مؤسسات ثقافية.
لقد عملنا على إبرام تعاقدات ثقافية أخلاقية مع نخبة من المثقفين، لا ضمانة لنا في ذلك إلا الالتزام بقضايا المعرفة المجردة. وهذه بحد ذاتها كانت الأكثر فائدة لإنجاح الحضور الثقافي.
• قضيت في الرباط مدة أطول من الخرطوم، وأنشأت صالوناً ثقافياً في الملحقية هناك.. هل كان هذا الصالون للوجاهة مثلاً؟ وما هي القيمة الثقافية التي حققها؟
•• الصالونات الثقافية المنشأة للوجاهة لا تتحدث سوى عن أمجاد شخصية، وأشخاص مؤسسيها.. بينما الصالون الثقافي السعودي في الرباط كان يتحدث عن أمجاد وطن؛ وحضارة بلد، وعراقة مجتمع، كان يقدم المنتج الأدبي والعلمي والمعرفي للأشقاء المغاربة بلا رتوش.. وفي النهاية انكب المثقفون والإعلاميون والأكاديميون على متابعة وتلقف المنتج الثقافي السعودي بشوق ولهفة.. فهذا الأكاديمي المغربي الدكتور محمد عدناني يتتبع الحضور الثقافي السعودي في المغرب منذ بداياته في كتاب يُعد حاليا مرجعا مهما للباحثين.
أن يستضيف الصالون الثقافي السعودي بالرباط قامات علمية مغربية وسعودية من تخصصات مختلفة، وحقول معرفية متنوعة، وبمرجعيات متباينة، فهذا يعني أن الصالون يهدف ويسعى إلى التجسير للثقافة بين ضفتي المشرق والمغرب العربيين. لقد استطعنا في هذا الصالون، جمع مثقفين كبار على مائدة واحدة لم يجتمعوا عليها من قبل.
إنها مجمع النخب التي وجدت لها مكانا تستمع فيه إلى بعضها. الوجاهة لا تتعدى ليلتها وتنطفئ، أما الصالون الثقافي السعودي بالرباط فقد امتد زمنا طويلا بنَفَس عالٍ جدا، وفي كل مرة يتجدد ويزداد ثراءً. ولعل حجم وطبيعة المحاضرين وجمهور المثقفين خير دليل على أن الصالون كان للعلم والمعرفة والثقافة لا لشيء آخر.
• كنتم تتبعون وزارة التعليم العالي حينذاك والتعليم حالياً، لكنكم تبدون تحت مظلة السفارة السعودية.. هل كان هناك تناغم بين المرجعيتين؟ أم ثمة تناقض وشتات؟ ما توصيتك كملحق ثقافي سابق تجاه ذلك؟
•• التناغم والانسجام بين المرجعيتين يعود إلى وعي المسؤولين ونضجهم وطريقة تفكيرهم، وعادة ما يكون هَمّ الارتقاء بالوطن أكبر من أي منغصات.. كانت سنوات الرباط سنوات جيدة حتى وإن تعرضت لمطبات هوائية بين الفينة والأخرى.. لكن بشكل عام استطاعت الملحقية الثقافية أن تقوم بالدور الثقافي والعلمي على أكمل وجه.
لم يكن دورنا فقط هو نشر الثقافة السعودية، بل إشراك كل المؤسسات التي تمثل المملكة في المساهمة في هذا الدور، وهذا تطلب منا جهدا إضافيا. لقد استدعى الأمر الكثير من الكياسة والمرونة والتفهم حتى نجتمع على هدف واحد. لذلك كان الحرص - قبل التخطيط للأمور الثقافية - على التواصل مع الجهات المسؤولة إيماناً منّا أن اليد الواحدة لا تصفق، وإن صفقت فليس لزمن طويل. وقد تمكنا بحول الله من جمع الآراء على جدوى العمل الثقافي كواجهة أساسية للبلاد.
• وُجِدت في أهم مكان ثقافي على المستوى العربي حيث الثقافة الأمازيغية ودولة المفكرين الكبار ونقاد التأويل والمثقفين الفرانكفونيين.. ما مدى الاستفادة الشخصية التي حققتها؟ وهل أفادت المملكة من هذا الوجود عبر معارض الكتاب الدولية والندوات والمحاضرات والأمسيات والمناسبات المختلفة؟
•• لقد كان من حسن حظي أني وجدت نفسي في وسط ثقافي غني جدا. وكنت أعتقد مثلك أنه بمرجعية واحدة (فرانكفونية)، لكني اكتشفت أن هذه الأخيرة ما هي إلا رافد من روافد أخرى تغذي الثقافة المغربية. اكتشفت أن الروح العربية الإسلامية عالية جدا هناك لغةً ومضموناً. لقد فوجئت بأن انفتاح المغرب (مثقفون، وعامة الشعب) له سند أصيل ينهل من الثقافة العربية الإسلامية الأصيلة، بل إن الرافد الأمازيغي يتماهى مع الرافد العربي الإسلامي، لأن الانصهار كامل بين المرجعيتين حتى وإن اختلفتا.
والواقع أن وجودك في وسط بهذا التنوع، يجعلك تتهيب من التعامل مع رافد دون الآخر، لكن مع الوقت ومعرفة الوسط المغربي أدركت أن كل رافد يحيل إلى الروافد الأخرى ويمثلها ولو بشكل جزئي، وهو ما سهل التواصل مع الكل. لذلك كلما استضفنا مثقفا وجدناه بمرجعيات ثلاث كبرى (العربية الإسلامية، والأمازيغية، والفرانكفونية) وكلها تجمعها النكهة المغربية.
وعندما تكون في هذا الوسط الثري والمتنوع، فإن فرص الاستفادة تكون متعددة سواء على المستوى الشخصي أو على مستوى الملحقية كمؤسسة رسمية. لقد تولدت لي قناعة شخصية أن التنوع غنى وليس عائقا بشرط إدارته بمهنية عالية. وكان شغلنا الشاغل طوال سنوات وجودي في المغرب نقل الثقافة السعودية إلى المغاربة بكل مرجعياتهم. وهذا واضح من خلال المعارض الندوات والمحاضرات التي كانت تشرف عليها الملحقية سواء في الرباط أو خارجها كلما أتيحت الفرصة.
• لمت أخيراً الملحق الثقافي السعودي في واشنطن وحمّلته نسبة 30% في غياب المكتبة عن ملحقية واشنطن لأنه لم يطالب بها. السؤال هل كل ملحق ثقافي يطالب بشيء يحصل عليه؟ وكيف أنشأت تلك المكتبة الهائلة في الرباط؟ ما حجم تأثيراتها الثقافية والمعرفية؟
•• الدكتور محمد العيسى زميل عزيز وحديثي عن أهمية المكتبات في الملحقيات الثقافية كان عاما.. وما زلت أكرر على ضرورة وجود مكتبة عامة في كل ملحقية لنقدم المعلومة الصحيحة للباحثين الغربيين، خصوصا أولئك الذين يبحثون في الشؤون الثقافية أو السياسية أو الاقتصادية أو الاجتماعية للمملكة العربية السعودية. ولأن هؤلاء الباحثين إذا لم نوفر لهم مبتغاهم سيلجأون إلى مصادر معرفية أخرى، لذا يجب علينا أن نوفر لهم المعلومة الحقيقية عن السعودية، حتى لا يكون البديل لهم معلومات تصدرها المراكز البحثية المشبوهة حول العالم والتي يراد منها تشويه صورة المملكة.
ليس كل ما يطلبه الملحق الثقافي يجده، لكن عندما تؤمن بجدوى المطلوب وفاعليته، فإنك تسعى إلى إقناع الجهات المسؤولة بذلك. لقد آمنت أن للملحق الثقافي أدوارا مهمة جدا عليه أن يلعبها مهما كانت متعبة ومؤلمة.
إن المكتبات واجهة أساسية لنشر المعرفة، فهي مقصد الباحثين، لذلك كان الاهتمام بها طاغيا في الملحقية الثقافية بالمغرب من حيث إنشائها وإغنائها. والواقع أني لم أجد صعوبات كبيرة في ذلك، لأني كنت أملك الإرادة وأومن إيمانا مطلقا بأن السعي إلى هذا المسعى فيه مصلحة للمملكتين. أعود وأقول إن أساس العمل هو التواصل الجيد مع الآخرين. وهذا كفيل بتسهيل ما قد يظهر أنه صعب أو مستحيل.
إغناء المكتبة يساعد على جذب عدد كبير من الباحثين، وهذا يعني أن تقريب الثقافة السعودية منهم يكون أمرا سهلا ومتاحا من خلال تقريب مصادرها (الكتب، المخطوطات....).
• الصورة الذهنية عن المملكة في العالم الخارجي تبدو مشوشة ولا تعبر عن حقيقة الوضع في البلد. برأيك ما هي الأسباب؟ وكيف يمكن لنا أن نصنع صورة نزيهة ومؤثرة أيضاً؟
•• صناعة الصورة الذهنية الحقيقية والناصعة عن المملكة العربية السعودية تحتاج الى تضافر الجهود من مؤسسات الدولة كافة، ويقف على هرم هذه المؤسسات وزارة الثقافة والإعلام، ووزارة الخارجية، ووزارة التعليم، والجامعات، والمثقفون والأكاديميون والكتاب والأدباء.. يجب أن يكون هناك عصف ذهني للعقول الضخمة يحدد ملامح مشروعنا الثقافي وأهدافه وخريطة الطريق لتنفيذه.. ثم ينطلق الجميع لمخاطبة العقل والوجدان العالمي. فالصينيون نخاطبهم بلسان صيني مبين واليابانيون بلسان ياباني والفرنسيون بلغتهم والأمريكان بلغتهم وهكذا.
أعتقد أن نصاعة الصورة تمر بالضرورة من خلال تقديم منتجنا الثقافي والفكري لجميع الشعوب والمجتمعات وبشكل يليق به، وتمر أيضا بمنح فرصة المشاركة والمساهمة لأولئك الأدباء والمثقفين الذي يجعلون البلد ومصالحه أكبر همهم؛ منحهم فرصة تمثيل البلد في المناسبات الثقافية العالمية. ينبغي أن نكون نزهاء في علاقاتنا وإدارتنا لمشروعنا الثقافي.. ومتى تحقق الأمر نصعت الصورة.
لسنا أقل غنى ثقافياً من كثير من البلدان، لكننا أكثرهم توجسا من الانفتاح في زمن لا يسمح بهذا المنطق.
• في وقت مبكر من هذا العام اخترق الإيرانيون أوساطاً عربية وإسلامية وخليجية، محسوبة على النهج المغاير لسياسات طهران، وذلك بسبب ما عدوه، «مهارة فائقة من الصفويين الإيرانيين في التسلل إلى غاياتهم بأسلوب، ظاهره اللطف، وباطنه الإغواء»... كيف ترى المشهد اليوم بدءاً من اليمن إلى هذه الحروب الإلكترونية وليس انتهاء بالعمليات الإرهابية التي استهدفت المملكة وأحبطت وزارة الداخلية معظمها؟
•• أرى أن الباطل والحق يواجهان بعضهما بعضا دون تقية ودون مساحيق. ولا يمكن للباطل أن ينتصر مهما طغى. لقد كنا تاريخيا أصحاب قضايا عادلة، ننتصر للضعيف والمقهور وللقيم الإنسانية النبيلة التي هي أساس الدين الإسلامي. المد الإيراني كالزَبَد ولن يصمد أمام عزيمتنا. لذلك أرى أن التفاف أبناء الوطن حول قيادته كفيل بصد هذا الخطر الذي لا سند شرعيا أو دينيا أو أخلاقيا له.. فقط سنده التجبر والتضليل. أن تتعرض المملكة للهجمات أمر طبيعي ما دامت في صف العدل، وفي المقابل فالأشرار مجبولون على محاربة العدالة ونشر القيم النبيلة.
• ما الذي تنتظره من الهيئة العامة للثقافة؟ ومن وجهة نظرك، البلد بحاجة إلى ماذا؟
•• ما أنتظره من كل الجهات أن تهتم بالشأن الثقافي، فهو قاطرة التنمية، لا اقتصاد ولا سياسة ولا قيم دون حصانة ثقافية مانعة. وبما أن الهيئة العامة للثقافة هي الجهة المخولة لهذه المهمة فهي مطالبة بمشروع ثقافي وطني والعمل على توسيعه وتنميته وتنويعه، وإسناد مسؤوليات النهوض به إلى الأكفأ والأجدر. لا هوية لأمة دون ثقافة.
إن بلادنا لا تحتاج شيئا غير الإيمان بأنها منبت ثقافة عريقة، وأن نشر هذه الثقافة مسوغ أساسي لتحقيق التقدم. يجب أن توضع كل الإمكانات في خدمة المشروع الثقافي ليتحقق النجاح.
• انتخبت أمريكا رئيسها الجديد، وحظي ذلك باهتمامنا، هل هنالك خلل وراء اهتمامنا المتزايد بالحراك الأمريكي؟
•• أرى العكس، فالأمم الحية هي التي تؤثر وتتأثر بالدول العظمى، فنحن بوصفنا دولة ذات مقومات سياسية واقتصادية واجتماعية حية وطموحة، فإنه من الطبيعي أن نهتم ونشارك أحياناً في الأحداث الكونية العظمى. الرئيس الأمريكي جمهورياً كان أو ديموقراطياً، لا يمكننا تجاهله، بوصف أمريكا الدولة الأهم عالمياً، ومن الناحية الثقافية، مجال تخصصي، أعتقد أننا أصبحنا نقترب من امتلاك رصيد متميز لتفاعل أكبر مع المتغيرات في قلب أمريكا، خصوصاً تلك المتعلقة ببلدنا ومنطقتنا، فلدينا مئات الآلاف من الشباب والشابات درسوا، أو لا يزالون يدرسون، في أمريكا، وبعضهم اكتسب أبناؤه جنسيتها، هذه الشريحة أكثر قدرة على فهم أمريكا، ومخاطبتها بلغتها وعقليتها وبالتالي التأثير فيها، إنما أي استثمار بهذا العمق يتطلب قطف ثماره إستراتيجية بعيدة المدى ووقتاً وجهداً.