-A +A
عبدالرحمن الشهري*
أخفاف عاطلة عن العمل

مسكين جمل السمسم! ذاك الذي يدير دفّة المعصرة بعينين معصوبتين ودأب منقطع النظير. مخلوق عجيب حقا، لم يعترض مطلقًا على الحياة التي تعصرُ له من هدير محركات السيارات، ومن خشخشة التراب تحت الأحذية. تحملكَ غلاظةُ منظره على استحضار الصحراء، حتى ولو لم تكنْ رأيتَها من قبل؛ صحراء تمشي على أربع، يعلوها كثيب صغير، يغري الأصابع بملامسته والعيون بتسلّقه. يتوقّف المسافرون للتزوّد بالزيت، ولالتقاط الصور التذكاريّة إلى جواره، دون اكتراث لفضوله البهيميّ، ولا لشقائه الفائض عنها، ولا شأنَ لهم بجمل قُذف به بعيدا عن صحرائه، وقد يكونون أشدّ غربة منه، ومقذوفين خارج أنفسهم. حين يطعن في السنّ لا يثنينا هديرُه المتواصل عن نحره بسكين؛ لو كانت تملكُ من أمرها شيئا لارتدّت إلى نحورنا. ألهذا نحن أغلظُ أكبادا منه؟!


سجل خال من المغامرات

شقّ على جسده أن يكون بارًّا فكان له ما أراد. ولولا أنه كان يتحدّثُ إليّ ببعض الكلمات الناقصة، لظننتُ أنه يتبخّر على سريره ببطء. في كل مساء، وقبل أن تختبر الشمس برودة الماء بقدميها، أُنصِتُ إلى حديثه المتقطّع وهو يقلّبُ عينيه في سقف الغرفة، مستعيدًا حياته القصيرة التي مرّت مثل حلم، كما يردّد. أعلمُ أنه يحنّ إلى مشاهدة أماكن راحتْ تبهتُ في ذاكرته، وإلى السّير مرة أخرى إلى المسجد، ويتمنّى لو يتمكّن من ذلك، رغمًا عن هذه الشيخوخة التي أوقعتْه في شِراكها. أسفل قدميه المنهكتين مسافات تصلُ بين حكاياته المتباعدة، ووقفات مطوّلة لرجل أمن، حمل على ظهره حياة تمتدّ لأكثر من 90 عاما، أثقلتْ كاهلَه واستلقتْ معه على السرير. وعلى الرّغم من ذلك، فقد أحسنَ صنعًا حينما أدار للدنيا ظهره، والتفتَ مبكرا إلى الآخرة؛ لأنه لم يكن ليفلح في مجاراتها، وهي تركضُ بسرعة شديدة، تفوق قدرته ولا تنسجم مع بالهِ الطويل.

إلى أين يذهب الفرح؟!

قد أكون متحسّرا لبعض الوقت، ومتلهفاً إلى معرفة ما يجري. لا شكّ أنها تلفظ أنفاسها الأخيرة، وأنا أهيم على وجهي في الشوارع الخالية. الشارع واشٍ كبير، والكل آذان صاغية لوشاياته التي سُيطلقها بشكل مبالغ فيه. أحاول أن أبقى متماسكًا قدرَ الإمكان، وأتقبّل الخسارة بروح رياضية. الآخرون يدّعون ذلك، ويبتلعون أحزانهم مع برّاد شاي وعلبتي سجائر. أحدُهم رمى بكل أوراقه في لعبة سابقة، ومات بأزمة قلبيّة. مات فجأة مثل طلال مدّاح، واكتشف جيرانه موتَه من رائحة الجثة. مرّ وقت طويل وكافٍ لأنْ يطلقَ الحكم صفّارته، ويحمل المهزومون نعوشهم إلى بيوتهم. يدِي على قلبي منذ الصباح الباكر، وأخشى أنني سأحملُ نعشي، وأعود إلى البيت. هذا ما أفعله، تحديدا، كلما خسر فريقي أهمّ المباريات.