أن يكتب أنسي الحاج رسائل حب مسألة في غاية الشاعرية، ذلك أن صاحب «الرسولة بشعرها الطويل حتى الينابيع» لا يمكن إلا أن يبدع في كتابة الشعر، وفي شعر الحب تحديدا. لكنه ذلك الحب الموغل في الشفافية والمرتمي في متاهات الرموز وإشارات الغموض. ذلك الحب الذي بقدر ما يهز الوجدان يمتع الخيال ويحلق به بعيدا. من هنا فحين نشرت غادة السمان رسائله إليها ذهبت مباشرة إلى الإنسان الشاعر الكامن فيه وإلى الشاعر المعبر عن وجدان الإنسان وهو في ريعان شبابه، في السادسة والعشرين من عمره. هكذا وجدنا أن هذه الرسائل التي كتبها أنسي الحاج إلى غادة السمان وهي في ربيعها العشريني المليء بحيوية الشباب الأنثوي البهي، قد جاءت معبرة عن قوة الإحساس وعن رهافة الشعر وهو يكتب نثرا في رسائل متوهجة بالرغبة. قد تختلف مبررات النشر، نشر هذه الرسائل الخاصة، من لدن غادة السمان، هي الأديبة المولعة بوهج الحروف وبسحر الكلمات، لكن النشر قد تم والرسائل قد قُرئت من لدن عشاق الأدب والمولعين بالشعر، لاسيما حينما يأتي من شاعر في حجم أنسي الحاج ويكون موجها لكاتبة في حجم غادة السمان. طبعا هذه الرسائل لم تكتب شعرا، وهي لم تكن موجهة للنشر من لدن كاتبها، لكنها مع ذلك قد جاءت قوية من حيث الكتابة وعميقة من حيث التعبير عن الوهج المبثوث فيها. من هنا تأتي أهميتها الأدبية ومن هنا تحتل مكانها القوي بين رسائل الكتاب شرقا وغربا. حقيقة أن هذه الرسائل قد غاب عنها رد الفعل، الرد الكتابي من لدن الموجهة إليها، وهي بالتالي قد ظلت تفتقر إلى الصوت الآخر الذي يكملها ويمنحها مرآة كي ترى نفسها فيها، حتى تكتمل رؤية القارئ لها. ومع ذلك فقد استطاعت، حتى في غياب هذا الصوت الآخر، أن تحتفظ بقوة التعبير. ذلك التعبير الفردي لكن المضاعف بفعل هذا الغياب ذاته. إن غادة السمان لم تكتب أي رسائل إلى أنسي الحاج جوابا على رسائله إليها، كما تعلن ذلك بقولها الصريح هذا: «لم أكتب لأنسي أي رسالة، فقد كنا نلتقي كل يوم تقريباً في مقهى الهورس شو- الحمرا أو مقهى الدولتشي فيتا والديبلومات - الروشة أو مقهى الأنكل سام... وهذه المقاهي انقرضت اليوم». إن اللقاء هنا، كما نفهم من كلمات غادة السمان هنا، قد ناب عن الكتابة، بالرغم من أن الرسائل تظل تنتظر دائما جوابا عليها. وأقسى الرسائل على كاتبها تلك التي لا تجد لها جوابا، كما يقول ميخائيل باختين. إن غادة السمان وهي تقوم بنشر رسائل أنسي الحاج إليها تقوم بإعلان الحب عليه بعد أن أعلنه هو عليها في السابق. تُعلنه هنا على الشاعر البهي الذي كانه والذي استطاع أن يتفرد بأسلوبه الشعري الفاتن والجميل في وصف الحب وفي أسطرته ومنحه أبعادا رمزية كبيرة ومتعددة. لم يعد مجديا أن تكون مع عملية نشر هذه الرسائل أو مع عدم نشرها، فقد نُشرت وانتشرت بين القراء، واستطاعت أن تحقق لها وجودا بينهم. وهو ربما ما سعت إليها غادة السمان وهي تقوم بعملية نشر هذه الرسائل في كتاب. تقول غادة السمان في كلمة الإهداء، وهي عتبة مهمة من عتبات الولوج إلى عوالم هذا الكتاب، ما يلي: «أهدي هذه الرسائل إلى الذين يعتقدون مثلي أن للشاعر ألف ملهمة وملهمة وحبيبة واحدة اسمها الأبجدية... والحب الذي لا يخونه الشاعر طوال العمر، اسمه الشعر..». إنّ أنسي الحاج وهو يكتب هذه الرسائل قد رافقه الشعر وتغلغل بين كلماته. فالشاعر يظل شاعرا في كل حالاته. وهو ما كانه الشاعر أنسي الحاج.