محمد الدوسري
محمد الدوسري
-A +A
محمد الدوسري*
في بدايات طلب العلم تبدأ محاولة التأصيل العلمي، وتأسيس ذلك التحصيل العلمي يعتمد اعتمادا كليا على التوجيه من الأعلى للأدنى، وتلك من إشكالات الفكر الحقيقية التي يتوجب أن يتم تسليط الضوء عليها وذلك بأن يكون التوجيه الأعلى على قدر من الوعي والفهم كي يُعطي الآليات الصحيحة للانطلاق في الفهم والإحاطة بمستويات الاختلافات التي تتجذر في كل العلوم، ومن أساسيات التوجيه الأعلى للأدنى أن يؤسس للتوسع في الظنيات وتقليص اليقينيات الحدية في رؤية الأشياء سواء كانت معنوية أم كانت واقعية ما لم تتحقق اليقينات كرؤية الشمس، وأن فكر الاستدراك من التأصيلات التي تستوعب العلوم والأسس الظنية وتجعلها متجذرة في الفكر والوعي للأدنى الذي هو النشء الجديد ومنه تتكون وتتأسس الشبيبة التي هي مستهدفة استهدافا يقينيا لجماعات العمل والحرب المتطرفة التي تسعى لتأسيس فكر يقيني أحادي وحدي وذلك كي يسهل على رؤوس تلك الجماعات المتطرفة لإقناع تلك الشبيبة المستهدفة والتي رأينها ولانزال نراها تقتل وتفجر وتقتحم البيوت والمؤسسات، فالاستدراكات العلمية التي لايزال العلماء من الأصوليين والفقهاء واللغويين والنحويين والمفسرين والأدباء والبلاغيين والمحدثين والمتكلمين يمارسونها ممارسة حقيقية وواقعية على تلك الأصول والمبادئ، ولا شك أن الدراسات المعاصرة قد اهتمت كثيرا بمسألة الاستدراكات العلمية من خلال الدراسات الأكاديمية، إلا أن إبراز هذا الموضوع ثقافيا وفكريا فيه قصور شديد، مما جعل هذا القصور في توضيح شأن الاستدراكات العلمية وخصوصا الفقهية والعقدية والأصولية في المسائل التي تسمى كبرى من حيث تعلقها بمسائل الواقع المعاصر الديني خصوصا التي لها تأثير حقيقي وفعلي على واقع كثير من الشبيبة المسلمة التي تنزع إلى التمظهر بالتمسك والالتزام بتعاليم الشريعة كلامة فارقة لها تمتاز بها عن باقي الآخرين والمختلفين.

وللاستدراك في الاصطلاح معنيان‏:‏ الأوّل‏،‏ وهو للأصوليّين والنّحويّين‏:‏ رفع ما يتوهّم ثبوته من كلامٍ سابقٍ‏.‏ أو إثبات ما يتوهّم نفيه‏.‏ وزاد بعضهم‏:‏ ‏(‏باستعمال أداة الاستدراك وهي لكنّ، أو ما يقوم مقامها من أدوات الاستثناء‏، و‏الثاني:‏ وهو ما يرد في كلام الفقهاء كثيرا وهو‏:‏ إصلاح ما حصل في القول أو العمل من خللٍ أو قصورٍ أو فواتٍ‏.‏ ومنه عندهم‏:‏ استدراك نقص الصّلاة بسجود السّهو، واستدراك الصّلاة إذا بطلت بإعادتها، واستدراك الصّلاة المنسيّة بقضائها، والاستدراك بإبطال خطأ القول وإثبات صوابه‏.‏ ويخصّ الاستدراك الّذي بمعنى فعل الشّيء المتروك بعد محلّه بعنوان «التّدارك» سواء ترك سهوا أو ترك عمدا.‏ والفرق بين الاستدراك والتعقيب: التعقب: هو التتبع لكلام الغير، وتفحصه، والنظر فيه بتدبر لنقضه ورده وإبطاله. أما الاستدراك: فهو الزيادات والإضافات التي يدرك بها اللاحق ما فات السابق، بيد أن التعقب عند أهل التفسير هو: أن يتَعَقَّبَ مفسرٌ متأخرٌ مفسرا متقدما في بعض آرائه المتعلقة بالتفسير، ويتبع ذلك التعقب -غالبا- بالتصحيح والترجيح بما يراه المتأخر، وقد يرد المتعقِب على المتعقَب عليه قوله وقد لا يرد. وكذلك يعرف بأنه اتباعُ المفسر قولا يذكره في بيان معنى في القرآن بقول آخر، يصلح خطأه، أو يكمل نقصه، أو يبين لبسه. وفي ضوء هذا التعريف عرفها كل أهل فن بما يناسب فنَّهم إلاّ أن أكثرهم يطلق على التعقب استدراكا، وهذا جارٍ على أن بينهما عموما وخصوصا. وتنوعت الاستدراكات باعتبار قائليها، وموضوعاتها، وأغراضها في تفاسير السلف تنوُّعا ظاهرا، فبالنظر إلى قائليها كان منها الاستدراكات النبويَّة، واستدراكات الصحابة على بعضهم، وعلى قولٍ مُطلَقٍ لم يُعَيَّن قائِلُه، وعلى التابعين. وكذا استدراكات التابعين على الصحابة، وعلى بعضهم، وعلى قولٍ مُطلَقٍ، وعلى أتباعهم. ثم كانت استدراكات أتباع التابعين على سَنَنِ استدراكات التابعين وهناك أثر للاستدراكات على قواعد الترجيح في التفسير، وعلى أسباب الخطأ في التفسير، وأسباب الاختلاف فيه، وعلى التفسير بالرأي، كما أوضح جانبا من علاقة الاستدراكات بمدارس التفسير.


إن الفهم العميق لحقيقية الاستدراكات العلمية تجعلنا نفهم علة العلل في الفكر المتطرف سواء الجهادي العملي منه أو التكفيري الفكري، فمن تجسدت لديه حقيقية الاستدراكات العلمية يعني أن لديه أفقا واسعا لفهم النصوص ويملك وعيا متجذرا لمرامي مقاصد الشريعة الكلية، وذلك أن الفكر المتطرف في تمسكه الحرفي اللفظي بالنصوص -كما يقول محمد أبو زهرة- «ليشبهون في استحواذ الألفاظ البراقة على نفوسهم واستيلائها على مداركهم اليعقوبين الذين ارتكبوا أقسى الفظائع، وأشد الشنائع في الثورة الفرنسية، فقد استولت على هؤلاء ألفاظ الحرية والمساواة والإخاء، وباسمها قتلوا الناس، وأهرقوا الدماء، وأولئك استولت عليهم ألفاظ الإيمان، ولا حكم إلا لله، والتبرؤ من الظالمين، وباسمها أباحوا دماء المسلمين وخضبوا البلاد الإسلامية بالدماء، وشنوا الغارة في كل مكان، وتتضمن هذه النفسية فكرا قاصرا وعنيدا وكل شيء خارج عن الإيمان بالفكرة غير مؤثر فيها».

* كاتب وباحث سعودي