arwa_almohanna@
في اليوم الـ10 من فبراير 2015، غادر الساحة الثقافية السعودية أحد أهمّ كتابها، ولا تزال ثكلى بعد الراحل عابد خزندار المولود في حي القشاشية بالعاصمة المقدسة مكة المكرمة عام 1935، والتي ضمت تاريخه الطويل في مقبرة المعلاة حيث ووري جثمانه، وودّعه المحبون دون أن يروا ابتسامته، إذ وافته المنية في عزلته الاختيارية بعاصمة النور باريس.
لم يكن «أمين خزائن الثقافة السعودية» بالبعيد عن الهم الثقافي في المشهد السعودي كونه استمر في الكتابة الصحفية، معبرا عن آرائه عبر زاويته المتنقلة «نثار» التي كانت بمثابة صوته المقروء في الزميلة «الرياض» لسنوات عدة، ما دفع مثقفون إلى تسميته بـ«مثقف الفرانكفونية التنويرية» نسبة إلى انهماكه وانكبابه على قراءة الثقافة الفرانكفونية دون وسيط كونه يجيد أكثر من لغةٍ تخوله إلى النهل من معين الفلاسفة دون اللجوء إلى «الترجمة» التي يعدها البعض خيانة للنص.
ابن القشاشية التي عرفت أول نبوغه، إذ درس نصير الثقافة التنويرية في كتاتيبها، مستعيدا ذكرياته الأولى عبر الزميلة «العرب»، التحق بكتّاب للبنات، وكانت تديره امرأة تنتمي إلى أسرة الهزازي، ليبدأ خطواته العلمية في تهجية الأبجدية، ما دفعه إلى مواصلة تعليمه النظامي في مدرستي الفلاح الأهلية والرحمانية الحكومية، إضافة إلى انخراطه في تلقي دروس بالحرم المكي ليحفظ ألفية ابن مالك عصرا، ثم يشتعل فتيل العلم لديه، ملتحقا بمدرسة تحضير البعثات في عام 1953. ولأن مصر تعد أول البلدان لاستكمال الدراسة الجامعية، سافر إليها، ومن ثمة انقدحت أولى شرارات التنوير في احتكاكه بمثقفي مصر آنذاك، واشتعل في عقله التنوير. انتقل خزندار إلى أرض كنانة كي يصبح طبيبا، لكن أثر القراءة على عقله وروحه دفعه إلى تغيير مجريات حياته كاملة ودراسة الهندسة الزراعية في جامعة القاهرة. وفي عام 1957، يعود خزندار متخرجا في جامعة القاهرة إلى المملكة، ومكتظا بأفكارٍ يسارية وحداثية تشربها من المفكر المصري سلامة موسى المنادي، لينتقل إلى العاصمة الرياض موظفا في وزارة الزراعة آنذاك، وبعد سنوات قليلة عمل مديرا عاما فرع الوزارة بالرياض إلى العام 1962.
بدأت ثقافة الأديب والمفكر والفيلسوف المكاوي تتشكل منذ تردده وهو فتى يافع على جلسات الدروس التي تقام في الحرم المكي حيث حفظ فيها ألفية ابن مالك في النحو، قال -رحمه الله- عن تلك الحقبة: «حفظت الألفية منذ أن كنت يافعا على يد مدرس إندونيسي كان يلقي دروسه في المسجد الحرام»، مشيرا إلى دور والده بإسهامه في صقل مهارات ابنه اللغوية قال عنه: «تعلمت من والدي أكثر مما تعلمت من ابن هشام الذي كان كتابه هذا مقررا علينا بمدرسة الفلاح بمكة المكرمة»، ولعل هذا يفسر ضلوعه في النحو العربي رغم كونه لم يتلق فيه دروسا أثناء تعليمه العالي. وبين أحمد العطوي في رسالته التي خصصها للأديب عابد خزندار تأثر الأخير بالشيخ حسن منصوري العالم الذي ترك أثرا عميقا في تكوين شخصية عابد خزندار وبشكل أدق شخصيته في الكتابة وأسلوبها، توارد عن لسانه امتنانه للشيخ حسن منصوري في تعليمه الطريقة السوية في الكتابة، إذ جاء عن لسانه: «إذا كنت أكتب الآن بطريقة سليمة فإنني لست مدينا في ذلك لوزارة المعارف ومدارسها إنما مدين به لرجل فذ هو الشيخ حسن المنصوري، أرسلتني إليه والدتي وأنا في العاشرة في الإجازة المدرسية حيث كنا نقضيها في تلك الأيام في منطقة الطائف». بدأ شيئا فشيئا يتعرف على مكتبة والده وما تحويه من كتب ثرية من طه حسين والعقاد وتوفيق الحكيم كتب عن هذه الفترة يقول: «من القراءات المهمة بالنسبة لي ما كانت توفره مكتبة والدي من مجلة الرسالة، وهي أعداد قديمة احتفظ بها منذ ما قبل الحرب، وقد أفادني وجودها كثيرا، فقد كانت تحفل بكتابات كثيرة من الأعلام آنذاك كطه حسين والعقاد وزكي مبارك، والرافعي، أحمد أمين وغيرهم». عرف عن خزندار حبه للعزلة والمطالعة النهمة فكان لا يتوانى في تمضية معظم وقته وهو يقرأ في عزلته وفي مكتبة الثقافة. عرف عنه التصاقه الكبير بالكتب والمكتبات كان يحب -رحمه الله- مناقشة الكتب كما فعل بكتاب «شجرة اللبلاب» و «غادة الكاميليا». تأثر خزندار في حقبة من عمره بالكاتب المعروف عبدالله عبدالجبار الذي أسهم بدفع التلميذ خزندار في ذلك الوقت إلى عالم الكتابة؛ إذ لاحظ عبدالجبار تردده الدائم إلى المكتبة واستعارته للكتب وقراءتها في وقت قصير، ما جعله يندهش من هذا التلميذ حتى وجه له سؤالا ما إذا كان يكتب؟ أجاب خزندار بالنفي وعدم معرفته لأساليب الكتابة حتى اقترح عليه عبدالجبار بتلخيص مقالة من كتاب «زعماء الإصلاح في القرن العشرين» للكاتب أحمد أمين ومنها كانت أول مقالة يكتبها خزندار ويلقيها في ندوة بطلب من الكاتب عبدالله عبدالجبار، يذكر أنه تأثر أيضا بشخصيات سعودية منهم الأساتذة: «سراج خراز، إبراهيم فطاني، عبدالعزيز الرفاعي، محمد عبدالقادر فقيه».
اهتم خزندار بإثراء الساحة الأدبية والفكرية بالتراث العربي؛ يذكر أنه خصص مساحات كبيرة لهذا الجانب كونه آمن بحضور التراث كعامل ضروري في مواجهة الثقافات الأخرى عودة لما أسماه «عولمة الثقافة». عرف عن خزندار اختصاصه بالربط بين القديم والحديث؛ إذ كان يستشهد بتأثره بكتاب «الأمالي» لمؤلفه أبو علي القالي، وكتب الجاحظ بجانب استشهاده بكتابات الفيلسوف الفرنسي رولان بارت والفيلسوف الألماني نيتشه، كما بشر بنقد مرحلة ما بعد الحداثة، وكان من أوائل من تحدث عن موت الحداثة والبنيوية. يملك خزندار مخزونا فكريا ويعد أدبيا كبيرا في مجالات عديدة منها ما جاء في مؤلفاته «الإبداع»، «حديث الحداثة»، «رواية ما بعد الحداثة»، «معنى المعنى وحقيقة الحقيقة»، «أنثوية شهرزاد»، «مستقبل الشعر موت الشعر»، «المصطلح السردي»، «معجم مصطلحات السيميوطيقا»، «التبيان في القرآن: دراسة أسلوبية»، «الربع الخالي»، «قراءة في كتاب الحب»، تعد رواية «الربع الخالي» أول أعماله الروائية كتبها خزندار باتزان وخبرة وتأنٍ كبير. هو الكاتب المحنك الذي عايش مراحل متعاقبة وأزمنة مختلفة، واكب التاريخ وهو يعيد نفسه بأشكال مختلفة. يروي خزندار في الربع الخالي في الصحراء الكبيرة الغامضة قصصا غنية تفتح للقارئ مناخات جديدة وكأنها صدى لفترة التحول «الستينات من القرن العشرين»، يمرر خزندار في روايته الربع الخالي قضايا تاريخية وعربية مهمة ومفصلية منها أحداث حرب أكتوبر في الستينات الميلادية. هذا وقدم خزندار للقارئ من خلال كتابه «قراءة في كتاب الحب» مجموعة غنية من المقالات المطولة السردية والنقدية والفكرية طبعت في ذهن المتلقي فكرة المحلل والباحث والمطلع بعمق على الثقافة العربية والغربية التي يتمتع بها الكاتب هو المعلّم المتحلي بالأدب الجم المنبه للأخطاء التي يقع فيها النقاد المعاصرون، المرشد والموجه لعوالم الأدب ومرتادي مجالسه، يقدم الفكرة الأدبية بإطاره الخاص بعيدا عن التسطيح، هذا ويشغل الفيلسوف المكاوي في فضاء النقد والحداثة مكانا لا يمكن الاستهانة به. يذكر أنه اتجه للنقد بعد عمر الخمسين عاما حيث قدم من خلال هذا الفضاء نظرياته الخاصة وأسئلته المألوفة لتمرير ما يريد من النقد، وبعد ذلك يقوم بتفكيك ما جاء به منفتحا في الوقت ذاته على الثقافة الإنسانية بشكلها العام، كونه آمن بالتعددية النقدية، ولم يسلك اتجاها واحدا بعينه، وكنموذج لأعماله ما جاء به في كتاب «حديث الحداثة» إذ يطرح سؤالا في كتابه «حديث الحداثة» ماذا إذا كان هناك حداثة عربية؟ يقول: «هل أستطيع أن أقول إن هناك حداثة عربية، وإن كان، هل أستطيع أن أقول إن الحداثة العربية بدأت من أبي تمام، وأن حداثيي اليوم ما هم إلا ورثة أبي تمام؟ يطرح في كتاب «قضية ما بعد الحداثة»، نشأة الحداثة من منظور ليفنسون، إضافة لقضية الشعر العربي الذي ظل حبيسا لفترة طويلة بالقافية والوزن التقليدي. يعود مفهوم «السيميوطيقا» في كتابه «معجم مصطلحات السيميوطيقا» إلى مفهوم من مفاهيم النقد الحديث يعود هذا الميدان في تاريخه لتاريخ أفلاطون وأرسطو وغيرهما من فلاسفة العصور الوسطى وحتى العصر الحاضر؛ إذ يعتبر مجالا من مجالات النقد الأدبي. يعتبر عمل خزندار في هذا الميدان عملا عظيما يرجعه المتابع لأدب وفكر الأديب إلى تمكنه من البحث والاستقصاء وراء المعلومة دون كلل وملل بل بشغف ومثابرة ومتابعة. يؤمن خزندار بالبدايات ولكن لا يعطيها أهمية بالغة؛ إذ إن التوقف عند الإشارة الأولى غير مجدٍ في شيء. يخوض خزندار في كتابه «مستقبل الشعر.. موت الشعر» في حقيقة مواطن الجمال في عوالم الشعر. يطرح خزندار من خلال كتابه تساؤلات عديدة عن مستقبل الشعر في ظل هيمنة الميديا؛ إذ يرى أن وساطة الميديا تفقد الشعر وصفه كعلاقة حميمية بين الشاعر والمتلقي، وهذا لا يعني سوى موت الشعر، كون الميديا اليوم تعتبر مادة استهلاكية تفقد الجمال معناه الحقيقي، وكل ذلك من أجل تحقيق الربح السريع على حد وصفه، متسائلا: «ما مصير الشعر والشاعر ومستقبلهما في مجتمع الميديا؟». له في النقل والترجمة باع طويل حيث ترجم لمنظرين في ما يخص مرحلة بعد الحداثة وتفرد -رحمه الله- بانتقائه لما ينقل لثقافته منها ما ترجم في المصطلح السردي قاموس يضفي سمة العلمية على السرد منذ المدرسة الشكلانية الروسية وما تبعها من مد بنيوي. نالت سيرة حياة الكاتب عابد خزندار اهتمام الباحثين في الحقل الأدبي والفكري؛ إذ أصدر الباحث أحمد العطوي «أنماط القراءة النقدية في المملكة العربية السعودية عابد خزندار نموذجا» عن مؤسسة الانتشار العربي في بيروت. كما صدر عن الباحث محمد القشعمي دراسة عن الأديب الراحل أطلق عليها «عابد خزندار مفكرا ومبدعا وكاتبا». تمترس الكاتب والأديب الراحل عابد خزندار في حقول معرفية متنوعة وخصبة، نهل منها ما نهل، وقدم من خلالها نتاجات فكرية إبداعية مهمة ومفصلية خصوصا في فضاء حركة التنوير السعودي.
سارة خزندار تخص «عكاظ» بمقدمة «قصاصات عبدالله عبدالجبار»
خصّت «عكاظ» ابنة الراحل عابد خزندار الدكتور سارة بمشروع ابن القشاشية الأخير، الذي سيكون متوافرا في «كتاب الرياض» القادم، ضمن كتاب يحمل عنوان «قصاصات عبدالله عبدالجبار». وأكدت لـ«عكاظ» أنه كان آخر مشروع لأبيها. وأضافت: «لقد أصرينا على نشره رغم وفاة الوالد قبل انتهائه من العمل، إذ ترك الأستاذ عبدالله عبدالجبار مذكراته المتكونة من مجموعة من مذكراته الخاصة بجانب مقصوصات مختارة (عن مواضيع مختلفة من الفنون للأدب للتاريخ للسياسة) من الصحافة اليومية (الصادرة سنه ١٩٥٦)».
وكشفت خزندار «اختار الوالد عبر عمل جديد، نشر مقصوصات الأستاذ وبجانبها تعليق من الوالد عن المقصوصات، لقد اجتهد الوالد في جمع وكتابة هذا العمل بشكل متناهٍ في آخر حياته رغم التزاماته الصحفية ووعكاته الصحية».
وذكرت خزندار أن «هذا المشروع له أهمية تاريخية؛ إذ إنه يجمع انطباعات واهتمامات مثقفين خمسينات القرن الماضي عبر الأستاذ عبدالله عبدالجبار ومن ثم عبر تعليقات الوالد، ولقد اخترنا أنا وأختي منى وضع بعض الصور الأرشيفية التي وجدت أيضا ضمن مذكرات الأستاذ عبدالله عبدالجبار».
مقدمة عابد خزندار بعنوان «الزمان والمكان»:
الزمان والمكان
القاهرة وبالذات حيّ الجيزة والعام ١٩٥٦، وكنت طالبا في كلية الزراعة، أو واحدا من أعضاء بعثة الطلبة السعوديين في مصر، وكنت عضوا أيضا في لجنة الطلبة التي تمثلهم أمام إدارة البعثة التي كان مديرها الأستاذ عبدالله عبدالجبار، وعهدت إلي اللجنة برئاسة تحرير صحيفة الحائط وكتبت في أحد الأعداد مقالا بعنوان «حاجتنا إلى الثقافة» وقلت فيه إننا إذا كنّا قد بعثنا إلى مصر للتعليم، فإننا أيضا بعثنا لتلقي ثقافتها، وإنّ الثقافة لا تقل أهمية عن التعليم». وذكرت فيه أنني حضرت محاضرة للدكتور طه حسين في قاعة ايوارت بالجامعة الأمريكية، وإننا يجب أن نحضر كل الندوات والمجامع الأدبية التي تقام في القاهرة، وفي اليوم التالي لظهور العدد استدعاني الأستاذ عبدالله عبدالجبار إلى مكتبه وهو في نفس الدار التي نسكن فيها، وقال لي إنه أعجب بما كتبته. وأضاف أنه ينعقد في شقته الكائنة أمام كبري عباس بالجيزة مجلس كل ليلة يضم مجموعة من الأدباء والشعراء، ودعاني لحضوره، وفعلا ذهبت مساء نفس اليوم إلى شقته، ووجدت هناك مجموعة من الأدباء منهم حمزة شحاتة وإبراهيم فودة ومحمد سعيد بابصيل وعبدالله خطيب وهم سعوديون ومجموعة من الأدباء المصريين منهم مصطفى السحرتي ومحمد عبدالمنعم خفاجي وفوزي العنتيل.
في اليوم الـ10 من فبراير 2015، غادر الساحة الثقافية السعودية أحد أهمّ كتابها، ولا تزال ثكلى بعد الراحل عابد خزندار المولود في حي القشاشية بالعاصمة المقدسة مكة المكرمة عام 1935، والتي ضمت تاريخه الطويل في مقبرة المعلاة حيث ووري جثمانه، وودّعه المحبون دون أن يروا ابتسامته، إذ وافته المنية في عزلته الاختيارية بعاصمة النور باريس.
لم يكن «أمين خزائن الثقافة السعودية» بالبعيد عن الهم الثقافي في المشهد السعودي كونه استمر في الكتابة الصحفية، معبرا عن آرائه عبر زاويته المتنقلة «نثار» التي كانت بمثابة صوته المقروء في الزميلة «الرياض» لسنوات عدة، ما دفع مثقفون إلى تسميته بـ«مثقف الفرانكفونية التنويرية» نسبة إلى انهماكه وانكبابه على قراءة الثقافة الفرانكفونية دون وسيط كونه يجيد أكثر من لغةٍ تخوله إلى النهل من معين الفلاسفة دون اللجوء إلى «الترجمة» التي يعدها البعض خيانة للنص.
ابن القشاشية التي عرفت أول نبوغه، إذ درس نصير الثقافة التنويرية في كتاتيبها، مستعيدا ذكرياته الأولى عبر الزميلة «العرب»، التحق بكتّاب للبنات، وكانت تديره امرأة تنتمي إلى أسرة الهزازي، ليبدأ خطواته العلمية في تهجية الأبجدية، ما دفعه إلى مواصلة تعليمه النظامي في مدرستي الفلاح الأهلية والرحمانية الحكومية، إضافة إلى انخراطه في تلقي دروس بالحرم المكي ليحفظ ألفية ابن مالك عصرا، ثم يشتعل فتيل العلم لديه، ملتحقا بمدرسة تحضير البعثات في عام 1953. ولأن مصر تعد أول البلدان لاستكمال الدراسة الجامعية، سافر إليها، ومن ثمة انقدحت أولى شرارات التنوير في احتكاكه بمثقفي مصر آنذاك، واشتعل في عقله التنوير. انتقل خزندار إلى أرض كنانة كي يصبح طبيبا، لكن أثر القراءة على عقله وروحه دفعه إلى تغيير مجريات حياته كاملة ودراسة الهندسة الزراعية في جامعة القاهرة. وفي عام 1957، يعود خزندار متخرجا في جامعة القاهرة إلى المملكة، ومكتظا بأفكارٍ يسارية وحداثية تشربها من المفكر المصري سلامة موسى المنادي، لينتقل إلى العاصمة الرياض موظفا في وزارة الزراعة آنذاك، وبعد سنوات قليلة عمل مديرا عاما فرع الوزارة بالرياض إلى العام 1962.
بدأت ثقافة الأديب والمفكر والفيلسوف المكاوي تتشكل منذ تردده وهو فتى يافع على جلسات الدروس التي تقام في الحرم المكي حيث حفظ فيها ألفية ابن مالك في النحو، قال -رحمه الله- عن تلك الحقبة: «حفظت الألفية منذ أن كنت يافعا على يد مدرس إندونيسي كان يلقي دروسه في المسجد الحرام»، مشيرا إلى دور والده بإسهامه في صقل مهارات ابنه اللغوية قال عنه: «تعلمت من والدي أكثر مما تعلمت من ابن هشام الذي كان كتابه هذا مقررا علينا بمدرسة الفلاح بمكة المكرمة»، ولعل هذا يفسر ضلوعه في النحو العربي رغم كونه لم يتلق فيه دروسا أثناء تعليمه العالي. وبين أحمد العطوي في رسالته التي خصصها للأديب عابد خزندار تأثر الأخير بالشيخ حسن منصوري العالم الذي ترك أثرا عميقا في تكوين شخصية عابد خزندار وبشكل أدق شخصيته في الكتابة وأسلوبها، توارد عن لسانه امتنانه للشيخ حسن منصوري في تعليمه الطريقة السوية في الكتابة، إذ جاء عن لسانه: «إذا كنت أكتب الآن بطريقة سليمة فإنني لست مدينا في ذلك لوزارة المعارف ومدارسها إنما مدين به لرجل فذ هو الشيخ حسن المنصوري، أرسلتني إليه والدتي وأنا في العاشرة في الإجازة المدرسية حيث كنا نقضيها في تلك الأيام في منطقة الطائف». بدأ شيئا فشيئا يتعرف على مكتبة والده وما تحويه من كتب ثرية من طه حسين والعقاد وتوفيق الحكيم كتب عن هذه الفترة يقول: «من القراءات المهمة بالنسبة لي ما كانت توفره مكتبة والدي من مجلة الرسالة، وهي أعداد قديمة احتفظ بها منذ ما قبل الحرب، وقد أفادني وجودها كثيرا، فقد كانت تحفل بكتابات كثيرة من الأعلام آنذاك كطه حسين والعقاد وزكي مبارك، والرافعي، أحمد أمين وغيرهم». عرف عن خزندار حبه للعزلة والمطالعة النهمة فكان لا يتوانى في تمضية معظم وقته وهو يقرأ في عزلته وفي مكتبة الثقافة. عرف عنه التصاقه الكبير بالكتب والمكتبات كان يحب -رحمه الله- مناقشة الكتب كما فعل بكتاب «شجرة اللبلاب» و «غادة الكاميليا». تأثر خزندار في حقبة من عمره بالكاتب المعروف عبدالله عبدالجبار الذي أسهم بدفع التلميذ خزندار في ذلك الوقت إلى عالم الكتابة؛ إذ لاحظ عبدالجبار تردده الدائم إلى المكتبة واستعارته للكتب وقراءتها في وقت قصير، ما جعله يندهش من هذا التلميذ حتى وجه له سؤالا ما إذا كان يكتب؟ أجاب خزندار بالنفي وعدم معرفته لأساليب الكتابة حتى اقترح عليه عبدالجبار بتلخيص مقالة من كتاب «زعماء الإصلاح في القرن العشرين» للكاتب أحمد أمين ومنها كانت أول مقالة يكتبها خزندار ويلقيها في ندوة بطلب من الكاتب عبدالله عبدالجبار، يذكر أنه تأثر أيضا بشخصيات سعودية منهم الأساتذة: «سراج خراز، إبراهيم فطاني، عبدالعزيز الرفاعي، محمد عبدالقادر فقيه».
اهتم خزندار بإثراء الساحة الأدبية والفكرية بالتراث العربي؛ يذكر أنه خصص مساحات كبيرة لهذا الجانب كونه آمن بحضور التراث كعامل ضروري في مواجهة الثقافات الأخرى عودة لما أسماه «عولمة الثقافة». عرف عن خزندار اختصاصه بالربط بين القديم والحديث؛ إذ كان يستشهد بتأثره بكتاب «الأمالي» لمؤلفه أبو علي القالي، وكتب الجاحظ بجانب استشهاده بكتابات الفيلسوف الفرنسي رولان بارت والفيلسوف الألماني نيتشه، كما بشر بنقد مرحلة ما بعد الحداثة، وكان من أوائل من تحدث عن موت الحداثة والبنيوية. يملك خزندار مخزونا فكريا ويعد أدبيا كبيرا في مجالات عديدة منها ما جاء في مؤلفاته «الإبداع»، «حديث الحداثة»، «رواية ما بعد الحداثة»، «معنى المعنى وحقيقة الحقيقة»، «أنثوية شهرزاد»، «مستقبل الشعر موت الشعر»، «المصطلح السردي»، «معجم مصطلحات السيميوطيقا»، «التبيان في القرآن: دراسة أسلوبية»، «الربع الخالي»، «قراءة في كتاب الحب»، تعد رواية «الربع الخالي» أول أعماله الروائية كتبها خزندار باتزان وخبرة وتأنٍ كبير. هو الكاتب المحنك الذي عايش مراحل متعاقبة وأزمنة مختلفة، واكب التاريخ وهو يعيد نفسه بأشكال مختلفة. يروي خزندار في الربع الخالي في الصحراء الكبيرة الغامضة قصصا غنية تفتح للقارئ مناخات جديدة وكأنها صدى لفترة التحول «الستينات من القرن العشرين»، يمرر خزندار في روايته الربع الخالي قضايا تاريخية وعربية مهمة ومفصلية منها أحداث حرب أكتوبر في الستينات الميلادية. هذا وقدم خزندار للقارئ من خلال كتابه «قراءة في كتاب الحب» مجموعة غنية من المقالات المطولة السردية والنقدية والفكرية طبعت في ذهن المتلقي فكرة المحلل والباحث والمطلع بعمق على الثقافة العربية والغربية التي يتمتع بها الكاتب هو المعلّم المتحلي بالأدب الجم المنبه للأخطاء التي يقع فيها النقاد المعاصرون، المرشد والموجه لعوالم الأدب ومرتادي مجالسه، يقدم الفكرة الأدبية بإطاره الخاص بعيدا عن التسطيح، هذا ويشغل الفيلسوف المكاوي في فضاء النقد والحداثة مكانا لا يمكن الاستهانة به. يذكر أنه اتجه للنقد بعد عمر الخمسين عاما حيث قدم من خلال هذا الفضاء نظرياته الخاصة وأسئلته المألوفة لتمرير ما يريد من النقد، وبعد ذلك يقوم بتفكيك ما جاء به منفتحا في الوقت ذاته على الثقافة الإنسانية بشكلها العام، كونه آمن بالتعددية النقدية، ولم يسلك اتجاها واحدا بعينه، وكنموذج لأعماله ما جاء به في كتاب «حديث الحداثة» إذ يطرح سؤالا في كتابه «حديث الحداثة» ماذا إذا كان هناك حداثة عربية؟ يقول: «هل أستطيع أن أقول إن هناك حداثة عربية، وإن كان، هل أستطيع أن أقول إن الحداثة العربية بدأت من أبي تمام، وأن حداثيي اليوم ما هم إلا ورثة أبي تمام؟ يطرح في كتاب «قضية ما بعد الحداثة»، نشأة الحداثة من منظور ليفنسون، إضافة لقضية الشعر العربي الذي ظل حبيسا لفترة طويلة بالقافية والوزن التقليدي. يعود مفهوم «السيميوطيقا» في كتابه «معجم مصطلحات السيميوطيقا» إلى مفهوم من مفاهيم النقد الحديث يعود هذا الميدان في تاريخه لتاريخ أفلاطون وأرسطو وغيرهما من فلاسفة العصور الوسطى وحتى العصر الحاضر؛ إذ يعتبر مجالا من مجالات النقد الأدبي. يعتبر عمل خزندار في هذا الميدان عملا عظيما يرجعه المتابع لأدب وفكر الأديب إلى تمكنه من البحث والاستقصاء وراء المعلومة دون كلل وملل بل بشغف ومثابرة ومتابعة. يؤمن خزندار بالبدايات ولكن لا يعطيها أهمية بالغة؛ إذ إن التوقف عند الإشارة الأولى غير مجدٍ في شيء. يخوض خزندار في كتابه «مستقبل الشعر.. موت الشعر» في حقيقة مواطن الجمال في عوالم الشعر. يطرح خزندار من خلال كتابه تساؤلات عديدة عن مستقبل الشعر في ظل هيمنة الميديا؛ إذ يرى أن وساطة الميديا تفقد الشعر وصفه كعلاقة حميمية بين الشاعر والمتلقي، وهذا لا يعني سوى موت الشعر، كون الميديا اليوم تعتبر مادة استهلاكية تفقد الجمال معناه الحقيقي، وكل ذلك من أجل تحقيق الربح السريع على حد وصفه، متسائلا: «ما مصير الشعر والشاعر ومستقبلهما في مجتمع الميديا؟». له في النقل والترجمة باع طويل حيث ترجم لمنظرين في ما يخص مرحلة بعد الحداثة وتفرد -رحمه الله- بانتقائه لما ينقل لثقافته منها ما ترجم في المصطلح السردي قاموس يضفي سمة العلمية على السرد منذ المدرسة الشكلانية الروسية وما تبعها من مد بنيوي. نالت سيرة حياة الكاتب عابد خزندار اهتمام الباحثين في الحقل الأدبي والفكري؛ إذ أصدر الباحث أحمد العطوي «أنماط القراءة النقدية في المملكة العربية السعودية عابد خزندار نموذجا» عن مؤسسة الانتشار العربي في بيروت. كما صدر عن الباحث محمد القشعمي دراسة عن الأديب الراحل أطلق عليها «عابد خزندار مفكرا ومبدعا وكاتبا». تمترس الكاتب والأديب الراحل عابد خزندار في حقول معرفية متنوعة وخصبة، نهل منها ما نهل، وقدم من خلالها نتاجات فكرية إبداعية مهمة ومفصلية خصوصا في فضاء حركة التنوير السعودي.
سارة خزندار تخص «عكاظ» بمقدمة «قصاصات عبدالله عبدالجبار»
خصّت «عكاظ» ابنة الراحل عابد خزندار الدكتور سارة بمشروع ابن القشاشية الأخير، الذي سيكون متوافرا في «كتاب الرياض» القادم، ضمن كتاب يحمل عنوان «قصاصات عبدالله عبدالجبار». وأكدت لـ«عكاظ» أنه كان آخر مشروع لأبيها. وأضافت: «لقد أصرينا على نشره رغم وفاة الوالد قبل انتهائه من العمل، إذ ترك الأستاذ عبدالله عبدالجبار مذكراته المتكونة من مجموعة من مذكراته الخاصة بجانب مقصوصات مختارة (عن مواضيع مختلفة من الفنون للأدب للتاريخ للسياسة) من الصحافة اليومية (الصادرة سنه ١٩٥٦)».
وكشفت خزندار «اختار الوالد عبر عمل جديد، نشر مقصوصات الأستاذ وبجانبها تعليق من الوالد عن المقصوصات، لقد اجتهد الوالد في جمع وكتابة هذا العمل بشكل متناهٍ في آخر حياته رغم التزاماته الصحفية ووعكاته الصحية».
وذكرت خزندار أن «هذا المشروع له أهمية تاريخية؛ إذ إنه يجمع انطباعات واهتمامات مثقفين خمسينات القرن الماضي عبر الأستاذ عبدالله عبدالجبار ومن ثم عبر تعليقات الوالد، ولقد اخترنا أنا وأختي منى وضع بعض الصور الأرشيفية التي وجدت أيضا ضمن مذكرات الأستاذ عبدالله عبدالجبار».
مقدمة عابد خزندار بعنوان «الزمان والمكان»:
الزمان والمكان
القاهرة وبالذات حيّ الجيزة والعام ١٩٥٦، وكنت طالبا في كلية الزراعة، أو واحدا من أعضاء بعثة الطلبة السعوديين في مصر، وكنت عضوا أيضا في لجنة الطلبة التي تمثلهم أمام إدارة البعثة التي كان مديرها الأستاذ عبدالله عبدالجبار، وعهدت إلي اللجنة برئاسة تحرير صحيفة الحائط وكتبت في أحد الأعداد مقالا بعنوان «حاجتنا إلى الثقافة» وقلت فيه إننا إذا كنّا قد بعثنا إلى مصر للتعليم، فإننا أيضا بعثنا لتلقي ثقافتها، وإنّ الثقافة لا تقل أهمية عن التعليم». وذكرت فيه أنني حضرت محاضرة للدكتور طه حسين في قاعة ايوارت بالجامعة الأمريكية، وإننا يجب أن نحضر كل الندوات والمجامع الأدبية التي تقام في القاهرة، وفي اليوم التالي لظهور العدد استدعاني الأستاذ عبدالله عبدالجبار إلى مكتبه وهو في نفس الدار التي نسكن فيها، وقال لي إنه أعجب بما كتبته. وأضاف أنه ينعقد في شقته الكائنة أمام كبري عباس بالجيزة مجلس كل ليلة يضم مجموعة من الأدباء والشعراء، ودعاني لحضوره، وفعلا ذهبت مساء نفس اليوم إلى شقته، ووجدت هناك مجموعة من الأدباء منهم حمزة شحاتة وإبراهيم فودة ومحمد سعيد بابصيل وعبدالله خطيب وهم سعوديون ومجموعة من الأدباء المصريين منهم مصطفى السحرتي ومحمد عبدالمنعم خفاجي وفوزي العنتيل.