-A +A
سلمان السليماني *
في تصوري أن النقد قد تخلص -حديثا- من (أعباء) نظرياته الأدبية، التي لم تشرك -قبل ذلك الوقت- القارئ في عملية الأدب وإنتاجه بصورة أو بأخرى؛ بعد أن أصبح القارئ هو الوريث الشرعي للنص، لم يعد للكتابة أي مزية عن القراءة، بل لم يعد للمؤلف أي سلطة على إنتاج المعنى، بمعزل عن غيره، وذلك من خلال نصه المكتوب الذي يدعي نسبه. قد يكون حقا أن المؤلف قد مات، أو أنه لم يولد من الأساس، أن المسألة في حقيقتها الغائبة المراوغة، هي: إنّ ما اصطلح العالم على تسميته (كاتبا)، ما هو إلا قارئ من نوع خاص، لكنه سمي كاتبا بشيء من التجاوز والتطاول على فعل (الكتابة)، الذي أظنه سيظل مقدسا، منذ أن عرف الإنسان قدسيته الأزلية وحتى نهاية الكتابة أو موتها تماما.

في هذا العرض، قد أتجرأ بقول (موت الناقد)، في الوقت الذي وُضع فيه القارئ على عتبات طريقه الصحيح، تجاه النص والكتابة؛ أن أعيد خطاب الفيلسوف الفرنسي جاك دريدا، عندما قال بنسف بنية كل نص، وتسمية حركته النقدية والفلسفية بالتقويضية أو التفكيكية، انطلاقا من لا مركزية فلسفته، من مبدأ عدم وجود مركز لهذه الفلسفة - كما أشار هو وأشار دارسوه. لكن، وللاستدراك على هذه الجزئية، فإن من فهموا أن دريدا يقوض الثوابت، فهموا جزءا مبتسرا من جدليته، فلم يتنبهوا لمبدأ الهدم لديه، الذي يقوم على عدم قدسية (النص البشري)، وما يستتبع ذلك من هدم المركزية والميتافيزيقا الغربية، والذي انطلق فيه من مسألة (كتابة /‏ تأليف) الإنجيل والكتب المقدسة في اليهودية والمسيحية، مفجراً في هذه الجزئية بالذات (ميتافيزيقا) الغرب، وقائم بتقويضها تماما على اعتبار أن الكتب المقدسة عند الغرب قام بتأليفها كائنات دون الإله. هذا بالطبع بالرغم من استفاضتنا فيه ليس محور مقاربتنا هذه، لكنه يشكل لمحة بارزة ورئيسية في تصوير التعبير عن (إعادة) الاعتبار للقارئ، من خلال عرض موجز لفلسفة جاك دريدا حول المسألة، وما عرضه التفكيكيون الذين حددوا معالم القارئ في عملية إنتاج المعنى، وتعدد إنتاج المعنى دائما وعلى الدوام؛ لأصل في الإشارة إلى رولان بارت في مقولته عن (موت المؤلف) وحديثه عن درجة الصفر في الكتابة ويوتوبيا اللغة، وميشيل فوكو في حفرياته للبحث عن أصول تشكيل المفاهيم والخطابات وقوله بـ(موت الإنسان والمثقف... إلخ) ولو كموقف.


القارئ المحتمل الذي يتجلى في نظرية التلقي وما سواها من تراكيب وأنظمة اعتمدته كركيزة أساسية في النص، في معناه وتأويله، كان مضمراً في تأريخ النص وثقافة بنائه، يتخذ شكله شيئا فشيئا بنمط تدريجي ومتواصل من خلال تراكم معرفي للمفاهيم والفلسفة والأفكار، هذا ما وصف حركته وأشار إليه الفيلسوف الألماني (هيدغر) في تعريض حول العودة الأولى للغة وفي بحثه عن الكينونة الحقة التي حجبتها عنا العادات المتراكمة المتجمدة واللغة القاصرة. ومن هذا المنطلق الهيدغري، حتما نصل لِما مفاده أن فعل القراءة هو الفعل الأصلي، بل هو الفعل الإنساني النقي، الذي يحمل قدسية على قدر الإنسانية ذاتها، ولنقول إن هذا المضمر -نقصد القارئ- لم يكن معدوما في تراث ثقافة الإنسان، لكنه كان في ظل عمى المعرفة – سواء المقصود أو غير المقصود، فقد وجد هذا القارئ وهذا الفعل في النص الإلهي الذي كان ينتظره ويبحث عنه دريدا على حد قوله حول انتظار الكتاب السماوي، هذا ما بدأ به النص القرآني: (اقرأ..) في تلك اللحظة التي تجلت فيها خصيصة (القراءة) وأشرقت من خلال (الآية /‏ الوحي) أنوار المفهوم الذي احتاج الغرب بنظرياته ومفاهيمه ومناهجه لأربعة عشر قرنا لوضعه على عتبات طريقه الصحيح... !

* ناقد سعودي