كتب الشيخ علي الطنطاوي ذات مرة رسالة لطيفة قصيرة بعنوان (من غزل الفقهاء) وجه فيها انتقاداً لاذعا لحال الخطاب الفقهي المعاصر الذي أصبح ينتقص من مشاعر الحب، ويزدري تذوق الجمال، أو الاستئناس بالغزل، معتبرا أن هذا الموقف المحافظ المتعالي على المشاعر الإنسانية هو دخيل محدث ناتج عن التزمت والتنطع، فـ«مآثر الصحابة الكرام والفقهاء الأوائل مملوءة بالجيد من أشعارهم ونصوصهم في الحب والغزل ووصف النساء». يقول الطنطاوي في مطلع كتابه: «قال لي شيخ من المشايخ المتزمتين، وقد سقط إليه عدد من [مجلة] الرسالة، فيه مقالة لي في الحب. ما لك والحب، وأنت شيخ وأنت قاض، وليس يليق بالشيوخ والقضاة أن يتكلموا في الحب، أو يعرضوا للغزل؟! إنما يليق ذلك بالشعراء، وقد نزه الله نبيّه عن الشعر، وترفع العلماء وهم ورثة الأنبياء عنه، وصرح الشافعي أنه يزري بهم، ولولا ذلك كان أشعر من لبيد».
يكمل الطنطاوي: «فضحكت، وقلت له: أما قمت مرة في السحر، فأحسست نسيم الليل الناعش، وسكونه الناطق... وجماله الفاتن، فشعرت بعاطفة لا عهد لك بمثلها، ولا طاقة لك على وصفها؟ أما سمعت مرة في صفاء الليل نغمة عذبة، من مغنّ حاذق قد خرجت من قلبه، فهزّت منك وتر القلب، ومسّت حبّة الفؤاد؟ أما خلوت مرة بنفسك تفكر في الماضي فتذكر أفراحه وأتراحه، وإخوانا كانوا زينة الحياة فطواهم الثرى، وعهدا كان ربيع العمر فتصرم الربيع، فوجدت فراغا في نفسك، فتلفت تفتش عن هذا الماضي الذي ذهب ولن يعود؟ أما قرأت مرة قصة من قصص الحب، أو خبراً من أخبار البطولة فأحسست بمثل النار تمشي في أعصابك، وبمثل جناح الطير يخفق في صدرك؟.. لولا جمال الحقيقة ما طلبها العلماء، ولولا جمال الخير ما دعا إليه المصلحون. وهل ينازع في تفضيل الجمال إنسان؟ هل في الدنيا من يؤثر الدمنة المقفرة على الجنة المزهرة؟ والعجوز الشوهاء على الصبية الحسناء؟ والأسمال البالية على الحلل الغالية؟ ومن أين عرفت أن العلماء قد ترفعوا عنه، والكتب مملوءة بالجيد من أشعارهم، في الحب والغزل ووصف النساء!».
ساق بعد ذلك الطنطاوي عددا من النصوص والأشعار من غزل الفقهاء وحديثهم في العشق وأوصاف النساء، ثم ختم حديثه قائلا: «أعلم أنه لم تفل ألسنة علمائنا، ولم تكل أقلامهم، ولم تخفت أصواتهم إلا حين أضاعوا ملكة البيان، وزهدوا في الأدب، وحقروا الشعر».
هذه الظاهرة التي يشير إليها الطنطاوي، حول صورة الفقيه في الأزمنة الحديثة التي أصبحت تتمحور حول دراسة الأحكام التكليفية، وتختص بتبيان الحلال والحرام فحسب، أدت بالإنتاج الفقهي أن يكون تقنيا جامدا جافا، يصدر الأوامر والأحكام في عزلة معرفية واجتماعية، في حين أن الفقهاء في العصور الإسلامية المتقدمة كانوا على درجة كبيرة من التنوع والشمول، فكون العالم مشتهرا بسعة علمه في الفقه والأصول، لم يكن يعني ذلك انصرافه وانعزاله في جانب محدد من حديثه وإنتاجه واهتمامه، بل كان الفقهاء جزءا من الظاهرة الثقافية عموما، مشاركين في حقول المعرفة المتنوعة من فن وأدب وشعر ولغة وتاريخ وفلسفة، منفتحين على حياة الناس وأنسهم، وطرائفهم وملحهم ولهوهم، لا يتعالون على مشاعرهم الإنسانية، ولا يتكبرون عن الإفصاح عما تجيش به قلوبهم من مشاعر العشق والوله، والغزل والتعلق، فأنتجت حالة الانفتاح والتسامح أدباً، ومؤلفات خاصة من كتب غزل الفقهاء والعلماء وأشعارهم، بل إلى أبعد من ذلك، التأليف والكتابة في فلسفة الحب والعشق، وأحواله وأعراضه، فوضع الفقيه الأندلسي ابن حزم كتابه الشهير (طوق الحمامة) قدم فيه تفسيرا مذهلا دقيقا لعاطفة الحب الإنسانية، بأسلوب فريد، لم يكن منطلقا فيه من مبدأ تقرير الأحكام الشرعية، بقدر ما كانت بغيته الخوض في أسرار مشاعر النفس الإنسانية، ومحاولة فهمها، والتصالح معها، فقال في مطلع كتابه: «الحب أوله هزل وآخره جد، دقت معانيه لجلالتها عن أن توصف، فلا تدرك حقيقتها إلا بالمعاناة. وليس بمنكر في الديانة ولا بمحظور في الشريعة، إذ القلوب بيد الله عز وجل. وقد أحب من الخلفاء المهديين والأئمة الراشدين كثير، منهم بأندلسنا عبدالرحمن بن معاوية لدعجاء، والحكم بن هشام، وعبدالرحمن بن الحكم وشغفه بطروب أم عبدالله، ومحمد بن عبدالرحمن وأمره مع غزلان، والحكم المستنصر وافتتانه بصبح أم هشام المؤيد بالله رضي الله عنه وعن جميعهم»، يكمل ابن حزم: «وقد اختلف الناس في ماهيته (أي الحب) وقالوا وأطالوا، والذي أذهب إليه أنه اتصال بين أجزاء النفوس المقسومة في هذه الخليقة في أصل عنصرها الرفيع. وقد علمنا أن سر التمازج والتباين في المخلوقات إنما هو الاتصال والانفصال. والشكل دأبًا يستدعي شكله، والمثل إلى مثله ساكن، وللمجانسة عمل محسوس وتأثير مشاهد، والتنافر في الأضداد، والموافقة في الأنداد»، ثم أفرد ابن حزم فصولا خاصة عن طرائق وأحوال الحب والعشق، كـ(باب من أحب في النوم، باب من أحب بالوصف، باب من أحب من نظرة واحدة، باب من لا يحب إلا مع المطاولة، باب الإشارة بالعين، باب المراسلة، باب السفير بين الأحباب) وغيرها من الأبواب، التي تأخذك الدهشة بشدة من هذا القدر الكبير من التسامح والانفتاح في الحديث الصريح عن مشاعر العلاقات بين الجنسين، وربما يكون سر تميز ابن حزم في كتابه (طوق الحمامة) ودقة تصويره، وعمق تحليلاته لأبعاد المشاعر الإنسانية، هو ناتج عن «محنة» حب شخصية خاض غمارها، دفعته لأن يكتب من عمق معاناته ولوعة فؤاده، كما يشير إلى ذلك الدكتور رشيد الخيون في كتابه (بعد إذن الفقيه) في فصل بعنوان (أحكام العشق، إباحة اللذة أهون الشرين)، حيث قال معلقا على (طوق الحمامة): «إن هذا الكتاب على ما أظن يفضح تجربة شخصية للمؤلف نفسه، ذاك لصدق التعبير والإحساس، فقال على لسان أحدهم، وأراه يعني محنته:
أرى دارها في كل حين وساعة *** ولكن من في الدار عني مغيب
وهل نافعي قرب الديار وأهلها *** على وصلهم مني رقيب مرقب
فيالك جار الجنب أسمع حسه *** وأعلم أن الصين أدنى وأقرب»
ابن حزم لم يكن وحيدا في هذا الباب، بل كتب غيره من الفقهاء مؤلفات كثيرة في العشق العربي وقصصه وطرائفه، فكتب الفقيه أبو بكر محمد الظاهري كتاب (الزهرة) الذي يعد من أشهر كتب الحب عند العرب، وكتب جعفر القاري (مصارع العشاق)، وابن القيم (روضة المحبين ونزهة المشتاقين)، وبلغ الأمر إلى تصنيف مؤلف خاص عن طبقات العشاق وتراجمهم، فألف علاء الدين المغلطاي مدرس الحديث النبوي في المدرسة الظاهرية بالقاهرة كتابه (الواضح المبين في ذكر من استشهد من المحبين)، ووضع أبو الحسن البقاعي (أسواق الأشواق في مصارع العشاق)، وكتب داوود الأنطاكي (تزيين الأشواق في أخبار العشاق).
لذلك لن يكون مستغربا حين يقول الأديب واللغوي المصري شوقي ضيف في كتابه (الحب العذري عند العرب) أن «أهم جماعة غذاها الغزل العذري هي جماعة الفقهاء وأصحاب الحديث من أمثال عروة بن أذينة وعبيدالله بن عتبة وعبدالرحمن الجشمي الذي سمع سلامة وهي تغني فوقعت في قلبه وهام بها حبًا، ونظم فيها كثيرًا من الأشعار، وكان يعرف بالقس لكثرة عبادته، فلما ذاعت فيها أشعار نسبت إليه سميت سلامة القس.. وقد تأثر بصنيع الفقهاء كثير من أهل مكة والمدينة فكان غير شاعر يرتفع بحبه عن أن يكون عبثا ولهوا».
يعلق الباحث أيمن تعيلب في دراسة له بعنوان (الحب بين عقل الفقهاء ولطف النساء) بكلام مهم حول طبيعة الفقهاء العرب القدامى، وسر انفتاحهم على الحديث عن الحب والعشق والغزل والنساء بلا تحرج أو تعالٍ، يقول: «لقد أدرك الفقهاء العرب القدامى خاصة الظاهريين منهم أن الفهم الناضج المتكامل لا يمكن أن ينبع من أطر معرفية انعزالية، فالأنساق الفكرية والتجريبية لا تنفصل عن حس الاستبطان الجمالي والروحي سواء في الوعى والممارسة، إن الاكتمال الذاتي والجماعي لا يتم إلا من خلال الانفتاح المعرفي الأريحي الودود، إننا لا نكون بشرًا أسوياء إلا إذا تمتعنا بحسن الإصغاء للقلوب والعقول والوقائع والأحداث، نحن لا نستطيع أن نرى بعمق وأصالة إلا إذا تفتحت قلوبنا إلى جوار عقولنا، ولن يكتمل نضجنا الديني والروحي والاجتماعي والسياسي إلا من خلال توهج كياننا كله بالحب والتعاطف والود البصير، فالقلب يبصر جيدًا معظم الأمور التي لا يراها العقل، إن الفهم الكلي الخلاق لون من ألوان الوعي المحب، والاستبطان العقلي التأملي لقضايا الحياة والواقع يحتاج إلى حاسة جمالية أخلاقية ولا يقتصر على الوعي الموضوعي الجاف، فنحن نحتاج في فهم الناس والأحداث، وحسن تناول قضايا الفقه والاستحسان والاستصحاب والاجتهاد والاستدلال وكل طرق الوعي والفهم - لقد كان مصطلح الحب عند الظاهرية وغيرهم من الفقهاء أشبه بالعقل الروحي البصير الذي ينير عتمة الفتوى، ويوسع من ضيق ممرات الفقه».
*باحث وكاتب سعودي
يكمل الطنطاوي: «فضحكت، وقلت له: أما قمت مرة في السحر، فأحسست نسيم الليل الناعش، وسكونه الناطق... وجماله الفاتن، فشعرت بعاطفة لا عهد لك بمثلها، ولا طاقة لك على وصفها؟ أما سمعت مرة في صفاء الليل نغمة عذبة، من مغنّ حاذق قد خرجت من قلبه، فهزّت منك وتر القلب، ومسّت حبّة الفؤاد؟ أما خلوت مرة بنفسك تفكر في الماضي فتذكر أفراحه وأتراحه، وإخوانا كانوا زينة الحياة فطواهم الثرى، وعهدا كان ربيع العمر فتصرم الربيع، فوجدت فراغا في نفسك، فتلفت تفتش عن هذا الماضي الذي ذهب ولن يعود؟ أما قرأت مرة قصة من قصص الحب، أو خبراً من أخبار البطولة فأحسست بمثل النار تمشي في أعصابك، وبمثل جناح الطير يخفق في صدرك؟.. لولا جمال الحقيقة ما طلبها العلماء، ولولا جمال الخير ما دعا إليه المصلحون. وهل ينازع في تفضيل الجمال إنسان؟ هل في الدنيا من يؤثر الدمنة المقفرة على الجنة المزهرة؟ والعجوز الشوهاء على الصبية الحسناء؟ والأسمال البالية على الحلل الغالية؟ ومن أين عرفت أن العلماء قد ترفعوا عنه، والكتب مملوءة بالجيد من أشعارهم، في الحب والغزل ووصف النساء!».
ساق بعد ذلك الطنطاوي عددا من النصوص والأشعار من غزل الفقهاء وحديثهم في العشق وأوصاف النساء، ثم ختم حديثه قائلا: «أعلم أنه لم تفل ألسنة علمائنا، ولم تكل أقلامهم، ولم تخفت أصواتهم إلا حين أضاعوا ملكة البيان، وزهدوا في الأدب، وحقروا الشعر».
هذه الظاهرة التي يشير إليها الطنطاوي، حول صورة الفقيه في الأزمنة الحديثة التي أصبحت تتمحور حول دراسة الأحكام التكليفية، وتختص بتبيان الحلال والحرام فحسب، أدت بالإنتاج الفقهي أن يكون تقنيا جامدا جافا، يصدر الأوامر والأحكام في عزلة معرفية واجتماعية، في حين أن الفقهاء في العصور الإسلامية المتقدمة كانوا على درجة كبيرة من التنوع والشمول، فكون العالم مشتهرا بسعة علمه في الفقه والأصول، لم يكن يعني ذلك انصرافه وانعزاله في جانب محدد من حديثه وإنتاجه واهتمامه، بل كان الفقهاء جزءا من الظاهرة الثقافية عموما، مشاركين في حقول المعرفة المتنوعة من فن وأدب وشعر ولغة وتاريخ وفلسفة، منفتحين على حياة الناس وأنسهم، وطرائفهم وملحهم ولهوهم، لا يتعالون على مشاعرهم الإنسانية، ولا يتكبرون عن الإفصاح عما تجيش به قلوبهم من مشاعر العشق والوله، والغزل والتعلق، فأنتجت حالة الانفتاح والتسامح أدباً، ومؤلفات خاصة من كتب غزل الفقهاء والعلماء وأشعارهم، بل إلى أبعد من ذلك، التأليف والكتابة في فلسفة الحب والعشق، وأحواله وأعراضه، فوضع الفقيه الأندلسي ابن حزم كتابه الشهير (طوق الحمامة) قدم فيه تفسيرا مذهلا دقيقا لعاطفة الحب الإنسانية، بأسلوب فريد، لم يكن منطلقا فيه من مبدأ تقرير الأحكام الشرعية، بقدر ما كانت بغيته الخوض في أسرار مشاعر النفس الإنسانية، ومحاولة فهمها، والتصالح معها، فقال في مطلع كتابه: «الحب أوله هزل وآخره جد، دقت معانيه لجلالتها عن أن توصف، فلا تدرك حقيقتها إلا بالمعاناة. وليس بمنكر في الديانة ولا بمحظور في الشريعة، إذ القلوب بيد الله عز وجل. وقد أحب من الخلفاء المهديين والأئمة الراشدين كثير، منهم بأندلسنا عبدالرحمن بن معاوية لدعجاء، والحكم بن هشام، وعبدالرحمن بن الحكم وشغفه بطروب أم عبدالله، ومحمد بن عبدالرحمن وأمره مع غزلان، والحكم المستنصر وافتتانه بصبح أم هشام المؤيد بالله رضي الله عنه وعن جميعهم»، يكمل ابن حزم: «وقد اختلف الناس في ماهيته (أي الحب) وقالوا وأطالوا، والذي أذهب إليه أنه اتصال بين أجزاء النفوس المقسومة في هذه الخليقة في أصل عنصرها الرفيع. وقد علمنا أن سر التمازج والتباين في المخلوقات إنما هو الاتصال والانفصال. والشكل دأبًا يستدعي شكله، والمثل إلى مثله ساكن، وللمجانسة عمل محسوس وتأثير مشاهد، والتنافر في الأضداد، والموافقة في الأنداد»، ثم أفرد ابن حزم فصولا خاصة عن طرائق وأحوال الحب والعشق، كـ(باب من أحب في النوم، باب من أحب بالوصف، باب من أحب من نظرة واحدة، باب من لا يحب إلا مع المطاولة، باب الإشارة بالعين، باب المراسلة، باب السفير بين الأحباب) وغيرها من الأبواب، التي تأخذك الدهشة بشدة من هذا القدر الكبير من التسامح والانفتاح في الحديث الصريح عن مشاعر العلاقات بين الجنسين، وربما يكون سر تميز ابن حزم في كتابه (طوق الحمامة) ودقة تصويره، وعمق تحليلاته لأبعاد المشاعر الإنسانية، هو ناتج عن «محنة» حب شخصية خاض غمارها، دفعته لأن يكتب من عمق معاناته ولوعة فؤاده، كما يشير إلى ذلك الدكتور رشيد الخيون في كتابه (بعد إذن الفقيه) في فصل بعنوان (أحكام العشق، إباحة اللذة أهون الشرين)، حيث قال معلقا على (طوق الحمامة): «إن هذا الكتاب على ما أظن يفضح تجربة شخصية للمؤلف نفسه، ذاك لصدق التعبير والإحساس، فقال على لسان أحدهم، وأراه يعني محنته:
أرى دارها في كل حين وساعة *** ولكن من في الدار عني مغيب
وهل نافعي قرب الديار وأهلها *** على وصلهم مني رقيب مرقب
فيالك جار الجنب أسمع حسه *** وأعلم أن الصين أدنى وأقرب»
ابن حزم لم يكن وحيدا في هذا الباب، بل كتب غيره من الفقهاء مؤلفات كثيرة في العشق العربي وقصصه وطرائفه، فكتب الفقيه أبو بكر محمد الظاهري كتاب (الزهرة) الذي يعد من أشهر كتب الحب عند العرب، وكتب جعفر القاري (مصارع العشاق)، وابن القيم (روضة المحبين ونزهة المشتاقين)، وبلغ الأمر إلى تصنيف مؤلف خاص عن طبقات العشاق وتراجمهم، فألف علاء الدين المغلطاي مدرس الحديث النبوي في المدرسة الظاهرية بالقاهرة كتابه (الواضح المبين في ذكر من استشهد من المحبين)، ووضع أبو الحسن البقاعي (أسواق الأشواق في مصارع العشاق)، وكتب داوود الأنطاكي (تزيين الأشواق في أخبار العشاق).
لذلك لن يكون مستغربا حين يقول الأديب واللغوي المصري شوقي ضيف في كتابه (الحب العذري عند العرب) أن «أهم جماعة غذاها الغزل العذري هي جماعة الفقهاء وأصحاب الحديث من أمثال عروة بن أذينة وعبيدالله بن عتبة وعبدالرحمن الجشمي الذي سمع سلامة وهي تغني فوقعت في قلبه وهام بها حبًا، ونظم فيها كثيرًا من الأشعار، وكان يعرف بالقس لكثرة عبادته، فلما ذاعت فيها أشعار نسبت إليه سميت سلامة القس.. وقد تأثر بصنيع الفقهاء كثير من أهل مكة والمدينة فكان غير شاعر يرتفع بحبه عن أن يكون عبثا ولهوا».
يعلق الباحث أيمن تعيلب في دراسة له بعنوان (الحب بين عقل الفقهاء ولطف النساء) بكلام مهم حول طبيعة الفقهاء العرب القدامى، وسر انفتاحهم على الحديث عن الحب والعشق والغزل والنساء بلا تحرج أو تعالٍ، يقول: «لقد أدرك الفقهاء العرب القدامى خاصة الظاهريين منهم أن الفهم الناضج المتكامل لا يمكن أن ينبع من أطر معرفية انعزالية، فالأنساق الفكرية والتجريبية لا تنفصل عن حس الاستبطان الجمالي والروحي سواء في الوعى والممارسة، إن الاكتمال الذاتي والجماعي لا يتم إلا من خلال الانفتاح المعرفي الأريحي الودود، إننا لا نكون بشرًا أسوياء إلا إذا تمتعنا بحسن الإصغاء للقلوب والعقول والوقائع والأحداث، نحن لا نستطيع أن نرى بعمق وأصالة إلا إذا تفتحت قلوبنا إلى جوار عقولنا، ولن يكتمل نضجنا الديني والروحي والاجتماعي والسياسي إلا من خلال توهج كياننا كله بالحب والتعاطف والود البصير، فالقلب يبصر جيدًا معظم الأمور التي لا يراها العقل، إن الفهم الكلي الخلاق لون من ألوان الوعي المحب، والاستبطان العقلي التأملي لقضايا الحياة والواقع يحتاج إلى حاسة جمالية أخلاقية ولا يقتصر على الوعي الموضوعي الجاف، فنحن نحتاج في فهم الناس والأحداث، وحسن تناول قضايا الفقه والاستحسان والاستصحاب والاجتهاد والاستدلال وكل طرق الوعي والفهم - لقد كان مصطلح الحب عند الظاهرية وغيرهم من الفقهاء أشبه بالعقل الروحي البصير الذي ينير عتمة الفتوى، ويوسع من ضيق ممرات الفقه».
*باحث وكاتب سعودي