-A +A
علي العميم*
أعمل الزميل خالد الوابل فكره ذات مرة -ويظهر لي أنها هي إحدى المرات القليلة التي يفعل فيها ذلك، وليته لم يفعل- فتفتق ذهنه عن فكرة أودعها في مقال أسماه بـ(التدين المعرفي والتدين السلوكي)، المنشور في صحيفة «عكاظ»، بتاريخ 24 فبراير 2016، وكانت سطور المقال تشي بأنه مصدوم بتعرفه بأخَرَه على قضية عرفها الإنسان منذ القديم، وهي التباين بين الواقع والمثال أو التناقض بين الدعوة والممارسة في ميدان الأخلاق والقيم التي واجهت كل الديانات السماوية والديانات الأرضية والدعوات والأيديولوجيات الوضعية.

في أول مقاله أتى خالد بخمسة أحاديث نبوية تحث على حسن الخلق وعلى اتباع الأخلاق الفاضلة. ورأى أن جمعينا إن لم يكن يحفظ الأحاديث التي أتى بها، فهو قد قرأها عشرات المرات. وسأل: ما الذي يجعل الربط بين (المعرفة) و(السلوك) صعباً على البعض تطبيقه، ولم لا تنعكس (معرفتنا) على سلوكيات اليوم؟


وقال: إنه لا يملك جواباً عن سؤاله الذي طرحه، وانتهى إلى أن تديننا هو (تدين معرفي) وليس (تديناً سلوكياً).

أذكر أنني حين قرأت المقال -وكان سبب قراءتي له عنوانه- عجبت من هذه التسمية؛ لأن المعرفة لا يقابلها السلوك، وإنما يقابلها الجهل، ولأنه لا يوجد نمط من التدين يسمى تدينا معرفيا. وفي ما أظن أنه في الدراسات الاجتماعية المتعلقة بالدين يقابلون القيم -والقيم هنا القيم الدينية- بالسلوك، ويقابلون -أيضاً- التدين بالسلوك. وقد قرأت لاستشاري في الطب النفسي أورد نماذج من أنماط التدين، ذكر من ضمنها ما أسماه بالتدين المعرفي (الفكري) وكان يتحدث ضمن هذا المسمى عن التدين العقلي. وعلى كل كان غير دقيق في الأنماط التي وضعها وغير دقيق في حديثه عن كل نمط.

ما أشكل على خالد وارتج عليه في تسميته وفي تناوله، سأتعرض له من منظور مختلف، وذلك بأن أحاكمه من خلال تجربة شخصية هو والطائفة المسيسة التي ينتمي إليها، من مثقفين ومستثقفين، استناداً إلى بعض ما قاله في مقاله، واعتماداً على لفظين استخدمهما في عنوان مقاله وفي متن المقال، وهما: (المعرفة) و(السلوك)، وجملتين قالهما في مقاله وهما: (عدم الاحترام لمجرد الاختلاف)، و(حقيقة لا أملك جواباً)، وسنجد أن (سلوكه) و(سلوك) طائفته المسيسة إزاء (المعرفة) وإزاء (الاختلاف)، يتنكر للشعار المرفوع عندهم ويناقضه.

تعرفت إلى اسم خالد الوابل من خلال تويتر، وكانت تغريداته تركز على موضوعات أنا غير مهتم بها كثيراً، ولا أفهم فيها سوى القليل، القليل جداً. لفت نظري إليه أكثر عندما علق على مقالاتي النقدية عن إبراهيم البليهي بتغريدة لا أتذكر نصها الآن، وفشلت في العثور على نصها في تويتر-وأنا أكتب هذه السطور- ربما لأنه قد مسحها، لكنني أتذكر معناها الذي مفاده، أنه مع اختلافه مع إبراهيم البليهي إلا أن ما يكتبه علي العميم «لا ينزل له من زور». ولأعرف «وشهو من لحية» راجعت تغريداته السابقة وقرأتها بتركيز، فعرفت حينها أنه من إخواننا التقدميين الذين هم أخلاط من القوميين واليساريين. وهؤلاء أعلم أنهم لا يستريحون إلى نهج كتاباتي، ولا إلى توجهي الفكري ولا إلى طريقتي في التفكير، وأعلم أنهم متيمون بأقوال إبراهيم البليهي مع ظهوره في ثوب جديد بعد حادثة الحادي عشر من سبتمبر -وظلوا على ذلك سنين عدداً- مع أنَّ ما يقوله يتناقض -بشدة- مع عصب الأيديولوجية الماركسية والأيديولوجية القومية العربية، ومع كل ما في النهج الماركسي.

إن عدم معرفتهم ووعيهم بهذا الأمر، يشير إلى حالة من البؤس المعرفي والشظف المنهجي. ومع أنهم يعيشون هذه الحالة المزرية -وهذا ما تعجب منه وتعجب له- إلا أنهم أناس مختالون ومستعلون ومستكبرون، ما يجبرك -أحياناً- النظر إليهم بعين العطف والإشفاق.

قالت مثقفة سعودية في تغريدة -وهي تتحدث عن البليهي- ترمز إلى اسمها باسم مستعار هو: Nada A.: كلمة الجهل تتكرر في حديثه بشكل مستفز. سوداوي ويحبط جيل الشباب. يفقدهم الثقة بعقولهم! هو يهدم ولا يبني أبداً! فعلق خالد على ما قالته بسؤال استنكاري: من يكون العميم؟! ثم قال -وهو يعني بكلامه البليهي- نحن بحاجة للمثقف العضوي الذي ينتشل مجتمعه لا أن يحقره، لا نحتاج فلاسفة هم آخر من يطبق مقولاتهم.

سؤاله الاستنكاري الذي كان يريد به، التصغير والتقزيم، دفع بالكاتب والمؤرخ محمد السيف أن يعرف بي بكلام آمل أن أكونه.

تلحظون أنه في كلامه عن البليهي عدّه فيلسوفًا! وفي تغريدات أخرى عدّه مفكراً! ومفكراً تنويرياً!

إن أي قارئ محترف لا يمكن أن يعتبر البليهي لا فيلسوفاً لا مفكراً ولا تنويرياً، ولا حتى باحثاً أو دارساً. هو قارئ عام وعمومي. يستعيد ويستنسخ ما قرأه ويصوغه بأسلوبه.

حاولت أن أعرف بماذا يختلف خالد مع أقوال إبراهيم البليهي. فوجدت من خلال بعض تغريداته أنه مؤمن به وبقدراته لكنه له عليه بعض المؤاخذات:

«أستاذنا إبراهيم البليهي: أسعد الله أوقاتك بكل خير: تمنيت لو قلت أني أخذ بيد كل مواطن (فكرياً) وأصعد به إلى حيث أنا، لا أن ( تمّن) عليه بحروف صماء». «أنت دائماً تتعرض للأعراض. ولو مرة واحدة تطرق للأسباب. إذا كنت ترى فينا تخلفا فمرده للاستعمار والاستبداد».

«البليهي يضع ميكروسكوبا على المشكلة ولكنه يتحاشى بقصد أو غير قصد أن يشخصها ويتحدث عن أسبابها. هل المنصب يحد من نشر قناعاته؟».

«بريدة وهذا التناقض الواضح حيث تجد فيها من هم معنيون بمأسسة المجتمع المدني مثل الدكتور عبدالله الحامد والكاتب إبراهيم البليهي».

«البليهي يقرأ الغرب قراءة آنية وحاضرة وينسى كيف كان. ويطلب منا قفز كل المراحل والتاريخ والجغرافيا، لنصل ما وصلوا إليه».

«البليهي لفترة طويلة في مجلس الشورى لم نسمع عن تبنيه لبرنامج للارتقاء بمجتمعه إذ يرى أننا متخلفين». «تمنيت لو كان أ. البليهي صادقاً مع نفسه أن يتبنى نظام مؤسسات المجتمع المدني في مجلس الشورى ويدفع إلى تحقيقه».

يمكن أن نجمل مؤاخذاته على إبراهيم البليهي في أمرين هما:

موقفه اللانقدي من الشأن المحلي، سياسياً واقتصادياً واجتماعياً، واكتفاؤه حينما كان عضواً في مجلس الشورى بكونه مجرد موظف فيه. فهو يريد منه أن يكون ناقداً ونقدياً في تناول الشأن المحلي في نواحيه التي ذكرتها، ويريد منه أن يكون إيجابياً وفاعلاً في دفع بعض المطالب إلى الإمام. و«يتمنى» عليه أن يكون (معارضاً) أو (ثورياً) ولو «حبتين». وهو يعتقد أن البليهي يشاركه قناعاته النقدية المتبرمة إزاء الشأن المحلي في تلك النواحي المذكورة لكن ما يمنعه من الصدع بها منصبه الوظيفي في مجلس الشورى (للتذكير تعليله هذا قال به حين كان البليهي عضواً فيه).

حقيقة نحن أمام سوء في تشخيص حالة إبراهيم البليهي الثقافية، فأي ناقد محترف قدر له أن يطالع مقالات البليهي، سيعرف أنه لا يتقصد التعرض لــ(العَرَض) وترك (الجوهر)، وأنه ليس بوسعه أن يضع (ميكروسكوبا) على أية (مشكلة)، وأنه (لا يقرأ الغرب)، فهو -كما قلت عنه أنفاً- يستعيد ويستنسخ ما قرأه، ويصوغه بأسلوبه.

إن إبراهيم البليهي -أقول هذا على سبيل الفانتازيا- لو كان اختار طريق المعارضة السياسية الحادة وهجر بلاده إلى منفى في الخارج، فإنه لن يكتب شيئاً ذا خطر أو ذا قيمة، بل سينكب على موّاله الذي صدَّع رؤوسنا به في السعودية وفي الكويت والإمارات - يبدي ويعيد فيه. وكذلك سيفعل حتى لو تقدم المسلمون وتأخر الغرب!

وأراهن أن أعمارنا -نحن الأصغر منه سناً- ستبلى، وستقف على ثنيَّة الوداع – وأقول هذا على سبيل التحقق – وهو يردد موَّاله – أو على سبيل الشرح والإيضاح – سيردد:

«يا ليل يا عين... يا ليل

آه يا لالالي يا لالالي... يا عيني يا لالالي

آه آه... يا سلام... آه آه... يا سلام آه آه يا لالالي

لما بدا (الغرب) يتثنّى... مَلْكْ فؤادي... وحُبّي جماله فتنّا أفديه هل من وصال.. آه يا ليل يا عين يا لالالي»

آمان ربي آمان... ولتنطقوها وتكرروها باللغة العربية المُترّكة. وأذكّركم أن (آمان) باللغة التركية، نداء استغاثة، وطلب رحمة وغفران. أجارنا الله من هذا العذاب وأعاننا على احتماله.

اتق – يا خالد – ربك! أتريد من (شادي الغرب) أن يأخذ بيد كل مواطن سعودي فكرياً ومازورياً (المازورة زيادة من عندي. والمازورة جزء من الجملة اللحنية تحتوي على وحدات متساوية من النبض الايقاعي المتكرر)، وأن يسحبهم إلى حيث هو، فيتأوهون مع لحنه الرتيب المكرر والممل والمسئم، ويحتبس عقولهم ويحتجز أرواحهم ويعطب أذواقهم في فكره الواقف الضيق محدود المساحة والصوت.

ثم ألا تعلم – أيها المتعلق بالجوهر لا العرض – أن العرب والمسلمين وشعوباً شتى – هي أغلب سكان المعمورة ـ كانوا متخلفين قبل أن تنشأ ظاهرة الاستعمار الغربي، وأن العرب والمسلمين وسواهم من الشعوب المستعمرة، ظلوا على هذه الحال قبل أن يحتل المستعمر الغربي بلدانهم. ألا تعلم – أيها المتعلق بالجوهر لا العرض – أيضاً أن الاستبداد ليس – بالضرورة – علة التخلف، وليس – بالضرورة – هو صنوه. فالتقدم الغربي نشأ في أول أمره في ظل استبداد. وأن الانتقال من مجتمع زراعي متخلف إلى مجتمع صناعي متقدم في الاتحاد السوفيتي، حصل عنوة وإرغاماً، وبالحديد والنار في عهد ستالين، أحد كبار أباطرة الديكتاتورية في تاريخ العالم. وإن شئت أن أضيف إلى التجربة الستالينية تجارب أخرى، تحقق فيها التقدم أو التحديث مع الحكم الغاشم المطلق، ومن قارات مختلفة، سأتلو عليك بياناً بأسمائها، لكنني أخشى عليك وأخشى على الرفاق في الطائفة المسيسة، أن يهب عليكم نسيم ذياك الزمان، فتحنون إلى ما كان، وتدرككم رقة الشوق القديم، ويشتد بكم الوجد، ويستخف بكم الطرب، فترسلون الصوت عالياً:

«يا زمان الوصل...»

وتتبعونها بوله وهيام:

«أيام اللولو شوهلّلوا له

برم الدولاب وغاب

رجع ووقف على الباب

وبيّن اللي كانوا حبايب زمان»

فينفضح سركم المكنون عند معشوقتكم الجديدة: ليبرالية الليبراوية!

في حدود متابعتي أن الكاتب إبراهيم البليهي لم يكن من ضمن الأكاديميين والمثقفين السعوديين المعنيين بالمطالبة بإنشاء مؤسسات مجتمع مدني في السعودية ولا حتى خص المجتمع المدني بمقالات. الدكتور عبدالله الحامد نعم كان من ضمن أولئك لكن مشكلة أبي بلال – الذي أكن له كل محبة ومودة – حين كتب ونظر خارج تخصصه الأكاديمي، لم يكن موفقاً، لأنه لم يكن مهيأً لذلك، لا منهجياً ولا ثقافياً، فكل ما كتبه ونظر فيه خارج تخصصه الأكاديمي هو أقرب ما يكون للعشوائيات الفكرية. ولقد سبق لي أن بينت شيئاً منها، حين صدر بيان (نداء وطني إلى القيادة والشعب) الذي كتبه هو، في مقال كتبته بعد صدور هذا البيان، كان عنوانه (شكليات ليبرالية في مضامين أصولية).

أما قول زميلنا خالد بأنهما كانا معنيين بمأسسة المجتمع المدني، فيتضمن إقراراً بأن المجتمع المدني قائم عندنا لكنه يحتاج إلى مأسسة!

وعلى مذهبه في التعبير يجوز لنا أن نقول (تديين المجتمع الديني) و(مركسة المجتمع الماركسي) و(دمقرطة المجتمع الديموقراطي)!

*باحث وكاتب سعودي