-A +A
عبدالباقي يوسف*
في تلك اللحظات الحاسمة وهما يودعان أقرب أركان الدنيا إلى قلبيهما، تبادلا نظرات مثقلة بالدموع وهما يجرّان خطواتهما بتؤدة من بيت العمر، يمسحان جدرانه جداراً جداراً، يتأملان أركانه ركناً ركناً، يخرجا خلسة وهما يحملان الحقيبتين كي لا يراهما أحد وكأنهما لصّان خرجا بحقيبتين مسروقتين.

حتى الأطفال حينما لمحوا أبوَيهم في خلسة مبهمة كهذه، ركنوا إلى حالة من هيبة صمت مريب منتظرين ما سيلي ذلك.


كرّر على مسامع زوجته بنبرة صوت خافتة: أنتِ متأكدة أن أحداً لم يشك بالأمر؟

أكدت تقول: إنها مسألة حياة، أو موت، لم أدع لأحد مأخذاً للشك لحظة واحدة.

في الصباح الباكر كان عليهما الاستعجال ما أمكن قبل أن تدب الحركة في الشوارع، وحينها قد ينتبه أحد ويريب في الأمر خصوصا وأن موجات النزوح أخذت تتصاعد.

كان الطقس صقيعياً، وكان عليها أن تلبس الأطفال ثياباً شتوية دافئة، وهم يتجهون إلى مدار مصير مبهم كل الاحتمالات فيه ممكنة، تاركين دياراً لم تعد فيها الحياة ممكنة.

كانت صبيحة يوم جمعة، حركة السير فيه بطيئة، بسبب العطلة الرسمية والشعبية من جهة، وبسبب كثافة المظاهرات من جهة أخرى.

فتح الباب، وخرج يهرول على عجل حتى بلغ الطريق العام، أحضر سيارة أجرة وعلى جناح السرعة أصبحوا جميعاً مع الحقيبتين في السيارة التي اتجهت بهم إلى حيث الكراج الذي تنطلق منه الباصات.

ابتعدوا عن البيت دون أن يراهم أحد، دون أن يلوحوا أكفهم بوداع أحد، دون أن يلوح أحد كفه لوداعهم.

كأنهم غرباء في هذه الديار، لا أحد لهم فيها، كأنهم اقترفوا جريمة ويبتغون التواري عن الأنظار قبل أن يكشف أمرهم أحد.

عندئذ لم تملك زوجته نفسها فقالت له: حتى الغريب الذي يقيم أسبوعاً واحداً في ركن، يرى مَن يتبادل معه تلويحة كفّ الوداع عندما يترك المكان.

حينما وصل الباص إلى القرب من الحدود، راوده إحساس أنه خطا خطوة حقيقية نحو الخروج، وأن تلك الديار بكل ما تحمل من عبق الذكريات بدأت تبتعد خطوة إثر خطوة.

عند نزولهم، مضوا على عجل حاملين أمتعتهم صوب المكرو الذي سيقوم بأخذهم إلى بوابة المنفذ.

كان المكرو واقفاً بانتظار أن يمتلئ بالركاب الذين ينزحون من ديارهم.

بعد صعودهم بقليل، اكتظ بالركاب، واتجه على الفور يشق الطريق المؤدي إلى بوابة الخروج.

مع كل لحظة يعتريه شعور بأنه يبتعد عن رائحة المكان الذي أمضى عمره فيه، المكان الذي أحبه وتعلق به، ويتفوّح برائحة ذكريات سنوات الطفولة، واليفاعة، والتكوين، سنوات العمل والكفاح، واكتشاف مشاق وملذات الحياة..

إلى مكان لا يعرف فيه شيئاً، مكان يدخله أول مرة، أناساً يلتقيهم للوهلة الأولى، هكذا حتى السفر يأخذ طعم المرارة عندما يرى المرء نفسه مضطراً إليه، عندما يخرج من بيته بحسرة البقاء فيه.

*روائي سوري