محمد الدوسري
محمد الدوسري
-A +A
محمد الدوسري*
لقد واجهتني حالة الخوف والارتكاس من التراجع الفكري، بل إن أصحاب الفكر القديم قد يحاصرونك من كل حب وصوب، ويرمونك بألسنتهم وسهامهم ويقفون عائقا أمام كل تغير وتجديد لحياتك كي تتقدم في الحياة وترمو إلى اكتساب المعارف الجديدة التي يُحجم عنها الفكر القديم، فضلا عن التجديد الفكري للأطروحات والمبادئ القديمة التي لايمكن تطبيقها في ظل المعارف والمقاصد الكلية للشريعة، وكنتُ أُخالني أنني كنت وحيداً في الشعور بهذه الحالة، بيد أن هذه الحالة والشعور قد واجهه علماء ومفكرون من ذي قبل ففي كتابه «دوائر الخوف» يسجل أبو زيد الاعتراف الآتي: «لقد كان خوفي-الذي ما يزال قائما-من إستراتيجية «البحث عن العفريت» التي لاحظت أنها تسيطر على قراء كتبي مثبطا شديدا جعلني أحيانا أفقد الثقة في جدوى الكتابة والنشر، فهذا المفكر نصر حامد أبو زيد قد تم اضطهاده وإجلاؤه من بلده بسبب فكر قد اهتدى إليه بعد سنوات من البحث والقراءة والدرس العلمي النقدي، بل إن الارهاب الثقافي قديم متجدد انطلاقا من واقعة ابن اللبان وتلميذيه الحنبليين؛ أبو يعلى القاضي والتميمي رزق وهما من علماء الحنابلة في عصرهما فقد روى ابن عساكر في كتاب تبين كذب المفترى عليه (261) ما نصه (أَن أَبَا يعلي بن الْفراء وَأَبا مُحَمَّد التَّمِيمِي شَيْخي الْحَنَابِلَة كَانَا يقرآن على أَبِي مُحَمَّد بن اللبان الْأُصُول فِي دَاره وكل وَاحِد مِنْهُمَا يخفي ذَلِك عَن صَاحبه فاجتمعا يَوْمًا فِي دهليزه فَقَالَ أَحدهمَا لصَاحبه مَا جَاءَ بك فَقَالَ الَّذِي جَاءَ بك فَقَالَ اكتم عَلَيَّ وأكتم عَلَيْك واتفقا على أَن لَا يعودا إِلَيْهِ بعد ذَلِك خوفًا أَن يطلع عوامهم على حَالهمَا فِي القراءة عَلَيْهِ.) وابن اللبان تلميذ أبي بكر الباقلاني وكان شيخ الأشعرية في زمانه، فقد خشيا هذان العالمان من السطوة الثقافية المجتمعية التي تنظر إليهما أنهما قد خالفا أصول الدين وضرورياته عند القراءة عند عالم مسلم مشهود له بالفقه والدين والعلم إلا أنه يختلف عنهما في النهج الاعتقادي في ما يظنه المجتمع الغوغائي وإلا فإن هذين العالمين لم يجدا أي غضاضة في القراءة على عالم وفقيه وإن اختلفا معه في بعض المسائل الاعتقادية. وهذا الإرهاب الفكري لم تتم معالجته على مر العصور الماضية حتى استشرى وأصبح داء عضالا، فما أن يجتهد عالم في مسألة من المسائل التي هي بحاجة إلى إعادة نظر وتجديد إلا وأسلحة التكفير بما تتضمنه من إرهاب تُسلط عليه، فمنذ بداية القرن الماضي فقد أعلى رواد الإصلاح الديني والسياسي من قيمة الحريات الشخصية وأعادوا قراءة النصوص الدينية في ضوء العصر بما يخدم الإنسان باعتباره مناط المسؤولية، وذلك على أساس أن قضية الإيمان هي مسألة ترتبط بالعلاقة بالفرد وخالقه، وليس من مسؤولية الدولة أو الإمامة إكراه أحد على الدين، تنزيلا للآية الشهيرة «لا إكراه في الدين»، وهي آية واضحة صريحة لا تقبل تعسفا في التأويل. ومن ضمن تلك الاجتهادات ما قدمه الشيخ الأزهري عبدالمتعال الصعيدي في ثلاثينات القرن الماضي، وهو اجتهاد هام جدا، خصوصا بالنظر إلى الحقبة التي ظهر فيها، لكنه للأسف الشديد لم يلق اهتماما، بل لا يكاد الدارسون، إلا القليلون منهم، يذكرون حتى اسم صاحبه، بل إن مؤلفات هذا العالم تكاد تكون منعدمة في المعارض الدولية، وقد سألت عن بعض مؤلفاته ومن يهتم بها فلم أجد أي إجابة!، علما بأنه قد دفع ثمن مواقفه الجريئة حين هاجمه مشايخ الأزهر وتم توقيفه من عمله لمدة طويلة، وعانى ما عاناه شيخ أزهري آخر هو علي عبدالرازق بعد نشر كتابه المعروف «الإسلام وأصول الحكم». فلقد أثبت الشيخ عبد المتعال الصعيدي بالأدلة من الكتاب والسنة أن حد الردة ليس من الإسلام، وأنه ليس حكما دينيا بل هو حكم سياسي، ورد بعض الأحاديث التي يستند إليها القائلون بحد الردة في ضوء النصوص القرآنية الصريحة، ومنها آية «لا إكراه في الدين» التي يجب أن توضع مقياسا تقاس به النصوص الحديثية في موضوع الردة. بل إنه ذهب أبعد من ذلك، في موقف غير مسبوق حين أكد على أن المرتد يعامل معاملة الكافر الأصلي، مما يوجب حق دعوته إلى الإسلام مجددا، وليس اعتباره كافرا مرتدا يجب إقامة الحد عليه. وفوق ذلك قال إن المرتد من حقه أن يلتحق بالدين الجديد الذي يرتضيه وأن يدعو إليه الآخرين، وكان له اجتهادات كثيرة جدا، خصوصا في بعض الحدود وكيفية تطبيقها إلا أن الإرهاب الفكري كان السلاح الحقيقي في كبت واضمحلال تلك الاجتهادات التي خرجت من عالم حقيقي له باع واسع في علم اللغة والشريعة والبلاغة، وإنني أتذكر حادثةً رويت عن العالم الفقيه محمد أبو زهرة حول الرجم فقد روى الشيخ يوسف القرضاوي في مذكراته عند حديثه عن مؤتمر ندوة التشريع الإسلامي المنعقدة في مدينة البيضاء في ليبيا عام (1972). قال تحت عنوان (أبو زهرة يفجر قنبلة): وفي هذه الندوة فجر الشيخ أبو زهرة قنبلة فقهية، هيجت عليه أعضاء المؤتمر، حينما فاجأهم برأيه الجديد. وقصة ذلك: أن الشيخ رحمه الله وقف في المؤتمر، وقال: إني كتمت رأيًا فقهيًّا في نفسي من عشرين سنة، وكنت قد بحت به للدكتور عبد العزيز عامر، واستشهد به قائلا: أليس كذلك يا دكتور عبد العزيز؟ قال: بلى. وآن لي أن أبوح بما كتمته، قبل أن ألقى الله تعالى، ويسألني: لماذا كتمت ما لديك من علم، ولم تبينه للناس؟ هذا الرأي يتعلق بقضية «الرجم» للمحصن في حد الزنا، فرأى أن الرجم كان شريعة يهودية، أقرها الرسول في أول الأمر، ثم نسخت بحد الجلد في سورة النور. قال

الشيخ: ولي على ذلك أدلة ثلاثة: الأول: أن الله تعالى قال: «فإذا أُحصِنَّ فإن أتين بفاحشة فعليهن نصف ما على المحصنات من العذاب» [النساء: 25]، والرجم عقوبة لا تتنصف، فثبت أن العذاب في الآية هو المذكور في سورة النور: «وليشهد عذابهما طائفة من المؤمنين» [النور: 2]. والثاني: ما رواه البخاري في جامعه الصحيح عن عبد الله بن أوفى أنه سئل عن الرجم.. هل كان بعد سورة النور أم قبلها؟ فقال: لا أدري. فمن المحتمل جدًّا أن تكون عقوبة الرجم قبل نزول آية النور التي نسختها. الثالث: أن الحديث الذي اعتمدوا عليه، وقالوا: إنه كان قرآنًا ثم نسخت تلاوته وبقي حكمه أمرا لا يقره العقل، لماذا تنسخ التلاوة والحكم باق؟ وما قيل: إنه كان في صحيفته فجاءت الداجن وأكلتها لا يقبله منطق. وما إن انتهى الشيخ من كلامه حتى ثار عليه أغلب الحضور، وقام من قام منهم، ورد عليه بما هو مذكور في كتب الفقه حول هذه الأدلة. ولكن الشيخ ثبت على رأيه. وقد لقيته بعد انفضاض الجلسة، وقلت له: يا مولانا، عندي رأي قريب من رأيك، ولكنه أدنى إلى القبول منه. قال: وما هو؟ قلت: جاء في الحديث الصحيح: «البكر بالبكر: جلد مائة وتغريب عام، والثيب بالثيب: جلد مائة، ورجم بالحجارة». قال: وماذا تأخذ من هذا الحديث؟ قلت: تعلم فضيلتك أن الحنفية قالوا في الشطر الأول من الحديث: الحد هو الجلد، أما التغريب أو النفي، فهو سياسة وتعزير، موكول إلى رأي الإمام، ولكنه ليس لازما في كل حال.


* كاتب وباحث سعودي